أمير مخول، أسير محرر ام أسير سابق؟/ جواد بولس


كنت أنتظره خلف زجاج غرفة الزيارات الخاصة بنا، نحن المحامين، في سجن "جلبوع". كان نيسان قد أشرف بكذبته، وربيعه ما زال غافيًا في حضن الأرض. شعرت بهدوء لم ينتابني في زياراتي السابقة له، وقلت عساه الفرح بانتصار الفجر على رعونة العتمة وطيشها، أو ربما هو صوت الحياة الأدوَم، وبيانها للحمقى بأن الأمل سيبقى أقوى من القهّار مهما تجبّر، وبأن الارادة، اذا كانت حرّة، لن يقوى عليها لا "غول" ولا  مارق ولا مخاتل مهما توهم.
بعد شهر من زيارتي سيطوي أمير مخول تسع سنوات قضاها وراء القضبان، وسيغدو طليقًا ويمضي ليلملم أوراق أحلامه ويستعيد لغة البحر وتراتيل قوس قزح ؛ فالأسر أبكم، ووقته أجوف قادر على امتصاصك بدون رحمة، إلا إذا استرشدت أمامه بحكمة النمل ومضيت فيه واثقًا كالسلحفاة ونمت على وسادة قلبك حالمًا بالعطش وبالدموع المزهرة، هناك على سفوح الكرمل الأخضر.
كانت ابتسامته أعرض من باب الغرفة وصدره العالي يسبقه نحوي. وضع يده على لوح الزجاج فوضعت يدي وتصافحنا مصافحة الورد للندى؛  فهنا في هذا المكان الأصم تدربت المشاعر على اختراق السراب والتواصل كالفراش عندما يراقص أنغام الشذا.
لم نستطع اختزال الوجع في عجالة. كنت أسأله عن بعض خلاصات تجربته وتقييمه السريع لمجملها؛ فهو، بالنسبة لي، سجين غير عادي وصديق مختلف.
كنت أعرفه قبل "سَجنته"، وأطللت خلالها على ما كنت أجهل فيه، وربما هو قد فعل مثلي.
انه أسير يتمناه محام قضى أربعين عامًا على أنف الخيبة؛ فلقد نجح أمير أن يستوعب، ليس بالمعنى التقني فقط، أن السجن عبارة عن فراغ هائل، فإما أن يملأك هو بالعدم ويسلب منك روحك وانسانيتك، وإما أن تملأه أنت بالمعنى لتبقى ذلك الانسان الحر المنتج العاقل.
كان يتكلم معي بثقة المقروص وبشفافية رافقت جميع لقاءاتنا السابقة. كنت أزوره  لأطمئن عليه ولنناقش ما يقلقنا من قضايا عامة وخاصة، تلك التي تتعلق بأحوال الحركة الأسيرة الفلسطينية، وما يمر عليها من ظروف داخلية مأساوية صعبة ومحاولات قمع رهيبة واختراقات اسرائيلية مقلقة.
حدّثني، في هذه الزيارة عن خوفه، ابن التاسعة، المزمن، على افراد عائلته وعن ذلك الثمن القاسي الذي دفعوه من دون أن يكونوا شركاء في "غفلته" ؛  وحدّثني عن مشاعره في كل مرّة  كان يرحل فيها عن الدنيا قريب من أقربائه الأحباء، وكيف كانت تتجسد وقتها الحسرة في لحظة كلّها غضب، ويتمرد القلب على صاحبه رغم اتفاقهما بضرورة تعليب العواطف والدم وحفظهما في خزائن الغبار البعيدة.
كان يتكلم بوعي الخبير وبتفاؤل المعلم؛ لقد آلمته بعض مظاهر الجهل والأمية السياسية المنتشرة بين الأسرى الفلسطينيين، فمعظمهم  "لم يروا بحرًا في حياتهم "وكبروا وفي داخل عقولهم "يعيش ويعشش ذلك الجدار" .
لقد تذكّر كيف، عندما رحلت أمه، جاءه عن الأسرى رسول ليستفسر كيف يُعزّى المسيحيون في أمواتهم، فبعضهم، الذين لم يقابلوا مسيحيًا في حياتهم - هكذا أخبرني بحزن وبابتسام - عاملوه كمسيحي ومن عرب إسرائيل.
أفرج عن أمير في الخامس من أيار / مايو الجاري، فكان ذلك يومًا مميزًا وخاصًا في حياته وحياة أهله ورفاقه وأصدقائه، وفيه صار، وفقًا لقاموس المبني للمجهول والشائع بين الناس "أسيرًا محررًا"، مع انه قضى كامل فترة محكوميته بالتمام.
سأعود إلى قضية "الأسير السابق" أمير مخول في المستقبل، لا سيّما وأنه وعد بأن يصدر كتابين سيتطرق فيهما الى تجربة اعتقاله وما سبقها وما يترتب عليها، على ما اتوقع.
كلي أمل أن يغني أمير  مكتبتنا بمادة ستشكّل، باعتقادي، علامة فارقة عند كل من يهتم بقضايا الأسرى الأمنيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي، وبشكل خاص بموقع الأسرى الأمنيين من المواطنين العرب في إسرائيل وتقييمه لهذه "الظاهرة". 
تشغلني قضية استعمال وانتشار مصطلح "الحركة الأسيرة الوطنية في الداخل"  وذلك لما تعنيه هذه التسمية وتعكسه من مضمون يتعلق بمكانتنا القانونية ، نحن الجماهير العربية، في الدولة، وتأثير ذلك على مستقبلنا لا سيما في عصر الحكومة المرتقبة.
تحاكي هذه التسمية نظيرتها في الأراضي الفلسطينية المحتلة؛ حيث أسس الأسرى الفلسطينييون في الاراضي المحتلة منذ العام 1967 ، وبدعم فصائلهم وشعبهم، ما اصطلح على تسميته "الحركة الأسيرة الفلسطينية" وذلك في محاولة لخلق "شخصية اعتبارية معنوية" يواجهون بها ومن خلالها مساعي الاحتلال الاسرائيلي بتكريس واقع، يكون فيه الأسير الفلسطيني المقاوم للاحتلال "مجرمًا" أو "ارهابيًا" أو "مخربًا" ويحاكم وفق قوانين المحتل ويسجن في سجونه بهذه الصفة/التسمية ، وليس لأنه مناضل يقاوم الاحتلال بحق كما يؤهله لذلك القانون الدولي ومواثيقه المعروفه وكما يتوجب عليه كابن شعب يسعى لكنس الاحتلال وازالته كليًا.
لا أتصور أن غالبية من يردد هذه التسمية ويطلقها على مجموعة الأسرى من العرب في إسرائيل يعي حقيقة ما تعنيه وما انعكاساتها على ذهنيات الناشئة في مجتمعه،  وما يترتب عليها، فيما بعد، من مواقف سياسية خاصة بين الاحزاب والحركات التي تتبنى هذه التسمية.
لقد لفتت هذه المسألة انتباهي وأنا أسمع في السابع من أيار/مايو تحية عادل عامر ، أمين عام الحزب الشيوعي الاسرائيلي، عندما حضر على رأس وفد رفيع من المكتب السياسي للحزب مهنئًا أمير بحريّته.
مع تقديري لكون المناسبة مجرد فرصة للتهنئة وليست منصة للخطابة السياسية، لكنني ، مع ذلك، لمست خلطًا واضحًا في كيفية تناولها من قبل الرجل الأول في حزب، له أو يجب أن يكون عنده "خطاب" سياسي مميز وواضح يشهره حتى في هذه المقامات ويؤكد فيه على التمييز بين الوقوف إلى جانب "الفرد" الأسير والتعبير عن السرور بحريته وبعودته الى احضان أهله وابناء شعبه، وبين الحديث عن ضرورة وجود "حركة أسيرة وطنية" ، تتبوأ مهامها في سبيل التحرير والاستقلال وتكون مستعدة لدفع أغلى الأثمان والتضحية بالأنفس.  وقد رافق الحديث عن"الحركة الوطنية الأسيرة" إشارة إلى دور الشهداء والفوارق بينهم وبين الأسرى، في مشهد قد يضع المستمعين في حالة التباس مقيت، ويبقي على البلبلة في مساحة تحتاج الى توضيح وحزم، على الاقل من قبل قادة حزب كانت مواقفه السياسية في كل ما يتعلق بأساليب نضالاتنا كأقلية قومية في اسرائيل، معروفة ومعلنة بوضوح، بما فيها ما يخص واجباتنا تجاه ابناء شعبنا ومسيرته في مقاومة الاحتلال والتخلص منه. 
لن يشفع لقادة الحزب التذرع بضروريات الكياسة وباحترام المكان؛ فلقد كان من الاجدر أن يشار، بما يمليه الذوق السياسي المقبول ، إلى موقف الحزب في هذه القضية الشائكة، لأن من يصرّ على ضرورة "وجود حركة وطنية أسيرة"حتى داخل اسرائيل، وما يعنيه وجودها "كشخصية مقاومة اعتبارية" في الداخل، عليه أن يُفهمنا ما هي أهداف هذه الحركة السياسية التي يقاوم أفرادها لتحقيقها كما يقاومون، وكيف يتوافق ذلك مع كوننا مواطنين في إسرائيل؛ وما تتيحه، بالمقابل، هذه الحالة من ردود فعل لاسرائيل في حقنا أو ضدنا؟  
لقد دعا عادل عامر أمير مخول ليأخذ دوره القيادي الجماهيري، وتمنى عليه أن يفعل ذلك من خلال صفوف الحزب الشيوعي.
لا أعرف أي وجهة سياسية حزبية سيختارها أمير، لكنني على قناعة أن تجربة أسره القاسية أنضجت في داخله براعم قد تطرح قريبًا جناها في مواقعنا، وتساعدنا على اعادة تقييمنا لبعض تجاربنا.
لقد أثارني عندما تحدث عن ايمانه بضرورة التكافل بين الناس والتضامن مع الآخرين؛ وعن انشغاله المستمر في الموقف من "اليهود" وعن الحاجة في الحوار مع "اليمين"  اليهودي لأن اليسار استعلائي وسلبي، وعن خيبته من تعامل القيادات العربية مع "المسألة الدرزية" بعد قانون القومية. 
أنهيت زيارتي له وقد امتلأ قلبي سرورًا؛  فعندما سألته، للمرة الأولى منذ اعتقاله، اذا كان قد تفاجأ عندما زرته أول مرة وذلك بعد انتقادي علنيًا "لسقطته" في حينها؛  أجابني: "لا ، على العكس، دافعت عن موقفك وعن حقك أمام الجميع"،  فأمير الذي عانى وتعلم، يتصرف كقائد يعرف "أن طريق الجماهير العربية الكفاحي في إسرائيل، كما أرساه أباؤنا السياسيون المؤسسون، قد أثبت جدارته؛ ويعرف،كذلك، كمن يستشرف مستقبلًا أفضل لجميع الاولاد، أن هنالك ضرورة لاعادة تقييم التجربة. وهنا يعيش الأمل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق