الوساطة التي فشلت قبل أن تبدأ/ د. عبدالله المدني

درسنا في علم العلاقات الدولية والدبلوماسية أن الوساطة والمساعي الحميدة التي عادة ما تقوم بها دولة أو منظمة دولية أو إقليمية لتخفيف التوتر ما بين طرفين، سعيا لدفعهما إلى طاولة المفاوضات من أجل نزع فتيل أزمة أو مواجهة عسكرية محتملة لها شروط والتزامات يأتي على رأسها: ثقة الطرفين المتنازعين في جهود الوسيط، واعترافهما بمجموعة القيم والأعراف الدولية التي توافق عليها المجتمع الدولي، ورغبتهما الصادقة في السلام.
ومن هنا أشفقنا كثيرا على اليابان ورئيس حكومتها "شينزو أبي" حينما ألقت واشنطون ــ خلال زيارة الرئيس دونالد ترامب إلى طوكيو في أواخر مايو المنصرم ــ على كاهلهما لعب دور حمامة السلام في الأزمة الأمريكية ــ الإيرانية المتصاعدة. وهذا، ليس تقليلا من شأن مواهب الوسيط الياباني وحنكته الدبلوماسية المشهودة، أو تقليلا من مكانة اليابان وسط المجتمع الدولي كدولة ما برحت تسعى وراء الأمن والإستقرار والإزدهار وخير البشرية جمعاء، بدليل مساهماتها المشهودة في جهود الإغاثة الإنسانية وتأمين البحار والمحيطات من أعمال القرصنة البحرية وتقديم المساعدات التنموية لدول العالم الثالث، ناهيك عن تجنيد طاقاتها العلمية لجعل حياة ملايين البشر أكثر سلاسة.
إن إشفاقنا على اليابان، وهي الدولة الديمقراطية المسالمة المحترمة المتمسكة بأهداب القانون الدولي، مبعثه أنها تسعى لإقناع طرف شاذ ودولة مارقة ونظام كهنوتي فاجر، للإقلاع عما يسيطر عليه من خرافات وأوهام وأجندات توسعية وأساليب إرهابية في التعامل مع جيرانه ومنظومة الأمم المتحضرة. 
المهمة كانت محكومة بالفشل منذ البداية، قبل أن تفشل فعلا برفض المرشد الإيراني للوساطة رسميا بـُعيد إجتماعه مع "أبي"، وقوله صراحة إن ترامب "لايستحق أن يتم تبادل الرسائل معه .. ليس عندي رد عليه، ولن أرد عليه". 
إن هذا الفشل ليس ناجما فقط عن حقيقة أن ملالي طهران تتملكهم نزعة الإستعلاء والغرور والفجور في الخصومة مع جيرانهم والعالم أجمع، ويعتبرون تصرفاتهم وسياساتهم الحمقاء تكليفا مذهبيا شرعيا، وإنما ناجم أيضا عن عدم إعترافهم أصلا بالقانون الدولي ونواميس العالم المتحضر. دعك من حكاية أخرى تتلخص في أن النظام الإيراني الحالي متعدد الرؤوس، بمعنى أنه حتى ــ لو افترضنا جدلا ــ أن الوسيط توصل إلى تفاهم ما مع إحداها فقد تطيح به الأخرى بجرة قلم أو إيماءة من المرشد الأعلى المتحكم في القرار الأعلى، على نحو ما حدث مرارا وتكرارا.

لقد تأكد فشل مهمة " أبي"، وهو أول رئيس وزراء ياباني يزور إيران منذ عام 1978 حينما زارها مع والده، قبل أن تبدأ وذلك حينما استبقت طهران وصوله بوضع ثلاثة شروط في طريقه، وهي شروط تعجيزية قضت على الوساطة في مهدها. وهذه الشروط تمثلت في عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي المبرم سنة 2015، ورفع العقوبات الدولية، وتعويض خسائر إيران، 
وأي عاقل يدرك أن مثل هذه الشروط ما كان لإدارة الرئيس ترامب " أن تقبل بها لأنها بمثابة العودة إلى سياسات إدارة سلفه باراك أوباما المحابية للإرهاب الإيراني والمتواطئة مع نزعة إيران التوسعية في منطقة الشرق الأوسط. هذا، ناهيك عن أن قبول واشنطون بهذه الشروط معناه رضوخ الدولة الأقوى في العالم لإملاءات حفنة من أصحاب العمائم المكابرين الذين ورطوا بلادهم وشعبهم في أزمات خارجية بدلا من أن يركزوا إهتمامهم على الداخل الإيراني المتفسخ إقتصاديا واجتماعيا، ومعناه أيضا عودة حاملة الطائرات والسفن الحربية الأمريكية وقاذفات "بي 52" من منطقة الخليج دون تحقيق أي نتيجة إيجابية، وسقوط ضغوط واشنطون على حلفائها لإيقاف شراء النفط الإيراني، مع كل ما يمثله هذا من خسارة ماء الوجه لإدارة ترامب.
كان هناك ــ بطبيعة الحال ــ الحالمون بتحقيق اليابان إختراقا في الأزمة الإيرانية ــ الأمريكية، ممن راهنوا على أن اليابان دولة ليس لها أجندات خبيثة في المنطقة ولم يسبق لها أن تنازعت مع إيران تاريخيا أو دينيا أو استراتيجيا، وبالتالي فهي وسيط أكثر من مقبول. وكان هناك أيضا من راهن على فرضية قبول الإيرانيين بما يطرحه الوسيط الياباني كونه ليس غربيا وبالتالي فسوف يتعاون معه المتشددون والمحافظون من رؤوس النظام الإيراني الأهوج، أو من راهن على حاجة اليابان للنفط الإيراني (لا يتعدى نسبة ما كانت تستورده من هذا النفط قبل فرض العقوبات الإيرانية 5 بالمائة من إجمالي وارداتها النفطية) كسبب لقيام "أبي" بجولات تفاوض مكوكية. غير أن ما فات كل هؤلاء هو محدودية وضآلة نفوذ  وتأثير اليابان على طرفي النزاع، بالرغم من علاقاتها الطيبة مع طهران وتحالفها التاريخي مع واشنطون.
أما أولئك الذين قالوا أن شينزو أبي سيقاتل من أجل مهمته سعيا وراء أمجاد ومكاسب شخصية قد تجلب له جائزة نوبل للسلام أو تعوضه عن فشله في حل النزاع الياباني ــ الروسي حول السيادة على بعض الجزر المتنازع عليها، أو تعوضه عن بقائه بعيدا عن الملف الكوري الشمالي، فإن قولهم مردود عليه، بل هو من التخاريف التي يهرف بها كل من لا يعرف حقيقة وطبيعة الإنسان الياباني.
د. عبدالله المدني
* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الإيراني من البحرين
تاريخ المادة: يونيو 2019
البريد الإلكتروني: Elmadani@batelco.com.bh


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق