الكتل التعبيريّة في نصّ ( أنصت لصمتك لتكتمل الشجرة بداخلي)
للشاعرة : نعيمة عبدالحميد – ليبيا
يقول ( هيجل ) : الشعر هو الفن المطلق للعقل , الذي أصبح حرّاً في طبيعته , والذي لا يكون مقيّداً في أن يجد تحققه في المادة الحسيّة الخارجية , ولكنه يتغرّب بشكل تام في المكان الباطني والزمان الباطني للافكار والمشاعر .
مما لاشكّ فيه انّ الموهبة قد تموت وتنتهي بالتدريج اذا لم يستطيع الشاعر تطويرها واستثمارها أقصى إستثمار عن طريق الاطلاع على تجارب الاخرين والاستفادة منها والاتكاء على المخزون المعرفي لديه , وتسخير الخيال الخصب في انتاج وكتابة كتابات متميّزة ومتفرّدة تحمل بصمته الخاصة التي عن طريقها يُعرف ويُستدلّ بها على إبداعه , وقد تموت ايضا اذا لم تجد التربة الصالحة والمناخ الملائم لأنضاجها , وقد تنتهي حينما لمْ تجد مَنْ يحنو على بذورها التي تبذرها ويعتني بها ويُسقيها من الينابيع الصافية والنقيّة , فلابدّ من التواصل والتلاقح مع تجارب الاخرين الناجحة والعمل على صقل هذه الموهبة وتطويرها والاهتمام بها وتشجيعها والوقوف الى جانبها قبل أن تُجهض . نحن سعداء جدا في مؤسسة تجديد الادبية ان نستنشق الان ملامح إبداع جميل وحضور مشرق من خلال دعمنا المستمر للمواهب الصادقة والناجحة في هذا الموقع , فلقد اصبح لدينا الان مجموعة رائعة جدا من الشعراء والشواعر الذين يجيدون كاتبة القصيدة السرديّة التعبيريّة , ونحن لم ندّخر اي جهد في مساعدة الجميع عن طريق الدراسات النقديّة والنشر والتوثيق المستمر في المواقع الالكترونية الرصينة وفي بعض الصحف الورقيّة , وابداء الملاحظات من أجل تطوير وإنضاج هذه الاقلام الواعدة , نحن على ثقّة سيأتي اليوم الذي يشار الى كتابات هؤلاء والاشادة بها والى القيمة الفنية فيها ومستوى الابداع والتميّز وما تحمله من رساليّة فنيّة وجماهيريّة .
فلم تعد قوالب الشعر الجاهزة ترضي غرور شعراء السرد التعبيري لذا حاولوا ونجحوا في الانفلات من هذه القوالب ومن هيمنتها ولو بشكل محدود ( في الوقت الحاضر ) , وتجلّ هذا من خلال طرق كتابة النصّ والموضوعات التي يتطرق اليها , وترسخت فكرة التجديد لديهم وخطّوا لهم طريقا مغايرا في كتاباتهم , وصاروا يواصلون الكتابة وياخذون منحا اخر لهم بعيدا عما هو سائد الان في كتابة قصيدة النثر , صارت القصيدة أكثر حرّية وانفتاحا على التجارب العالمية , لقد منحت السرديّة التعبيريّة لكتّابها الحرية والواسعة والفضاء النقيّ الشاسع والأنطلاق نحو المستقبل خاصة حينما يكون التعبير أكثر شبابا وصدقا عن المشاعر الحقيقية المنبعثة من القلب الصافي كالينبوع العذب , فلقد أحسّ الشاعر بمهمتة الصعبة في الكتابة بهذا الشكل الجديد والمختلف والذي نؤمن به وبقوّة , فنحن نؤمن وعلى يقين بانّ القصيدة السردية التعبيريّة هي قصيدة المستقبل لقدرتها على الصمود والتطوّر المستمر نتيجة التجربة الطويلة والتراكم الابداعي , بروعة ما تقدّمه وتطرحه على الساحة الشعرية , نعم أحسّ الشاعر بالانتماء والاخلاص لهذا اللون الادبي الجديد والذي نطمح في قادم الايام ان يكون جنسا أدبيا متميّزا , لهذا استطاع الشاعر ان يطوّع المفردة رغم قسوتها وعنادها وإعادة تشكيلها وتفجير كل طاقاتها المخبوءة , وأن يفجّر من صلابتها الينابيع والانهار وإستنطاقها نتيجة ما يمتلكه من خيال جامح ابداعي وعاطفة صادقة جيّاشة وإلهام نقيّ وقاموس مفرداتي يعجّ باللغة الجديدة .
سنتحدث اليوم عن صوت المرأة الشاعرة في السرديّة التعبيرية ونختار بعض القصائد كي نشير الى مستوى الابداع وكميّة الشعرية فيها , ونستنشق عبير هذه القصائد النموذجية .
انّ حضور الصوت النسائي في السرديّة التعبيرية له تاريخه المشرق وحضوره البهيّ , فمنذ تاسيس موقع ( السرد التعبيريّ ) كان حضور المرأة الشاعرة متميّزا ينثر عطر الجمال ويضيف ألقاً وعذوبة في هذا الموقع الفريد والمتميّز, وقدّمت قصائد رائعة جدا تناولها الدكتور انور غني الموسوي بالقراءات الكثيرة والاشادة بها دائما , وتوالت فيما بعد الاضاءات والقراءة النقدية لهذه التجارب المتميّزة من قبل بعض النقاد ومن بعض شعراءها . فاصبحت هذه القصائد نوعية مليئة بالابداع الحقيقي وبروعة ما تطرحه من أفكار ورؤى ومفعمة بالحياة وروح السرديّة التعبيريّة وخطّتْ لها طريقاً تهتدي به الاخريات ممن عشقن السرد التعبيري وحافظن على هيبته وشكله وروحه والدفاع عنه . لقد أضافت الشاعرة الى جمالية السرديّة التعبيريّة جمالا آخر وزخما حضورياً وبعثت روح التنافس وحرّكت عجلة الابداع فكانت بحق آيقونة رائعة . القصائد التي كتبتها المرأة في السرد التعبيري كانت معبّرة بصدق عن اللواعج والالام والفرح والشقاء والحرمان والسعادة , بثّت فيها شجونها وخلجات ما انتاب فؤادها , ولقد أزاحت عن كاهلها ثقل الهموم وسطوة اللوعة , ولقد جسّدت في قصائدها آلامها ومعاناتها في بناء جملي متدفق , منحت المتلقي دهشة عظيمة وروّت ذائقته وحرّكت الاحساس لديه . كانت وستظلّ زاخرة بالمشاعر والاحاسيس العذبة ومتوهّجة بفيض من الحنان , نتيجة الى طبيعتها الفسيولوجية والسايكولوجية كونها شديدة التأثر وتمتاز برقّة روحها فانعكس هذا على مفرداتها وعلى الجو العام لقصائدها , فصارت المفردة تمتلك شخصية ورقّة وعذوبة وممتلئة بالخيال وبجرسها الهامس وتأثيرها في نفس المتلقي , فكانت هذه القصائد تمتاز بالصفاء والعمق والرمزية المحببة والخيال الخصب والمجازات ومبتعدة جدا عن المباشرة والسطحية , كانت عبارة عن تشظّي وتفجير واستنهاض ما في اللغة من سطوة , كل هذا استخدمته بطريقة تدعو للوقوف عندها والتأمل واعادة قراءتها لأكثر من مرّة لتعبر عن واقعها المأزوم وعن همومها وهموم النساء في كل مكان . فرغم مشاغلها الحياتية والتزاماتها الكثيرة استطاعت الشاعرة ان تخطّ لها طريقا واضحا وتتحدّى كل الصعاب وترسم لها هويّة واضحة الملامح , فلقد بذرت بذورها في ارض السرد التعبيري ونضجت هذه البذور حتى اصبحت شجرة مثمرة . لقد وجدنا في النصوص المنتخبة طغيان النَفَس الانثوي واحتلاله مساحة واسعة فيها معطّرة برائحتها العبقة واللمسات الحانية والصدق والنشوة , فكانت ممتعة جدا وجعلت من المتلقي يقف عندها طويلا منتشيا , وحققت المصالحة ما بين الشاعرة والمتلقي وهذا ما تهدف اليه الكتابة الابداعية .
انّ قيمة المفردة في النصّ الشعري تكمن في نغمتها وصوتها وايحاءاتها واشعاعاتها الموسيقية وكذلك المعنوية التي تنبعث من جرسها , ان للمفردة طاقات يستطيع الشاعر استخدامها كأقصى ما يمكن من أجل شحن النصّ الشعري بطاقات وأنغام تضفي السحر والدهشة . ففي القصيدة السردية التعبيرية يكون معنى السرد ليس السرد القصصي او الحكائي , انما يعني تعظيم طاقات اللغة ونقل المشاعر العميقة والايحاء والتحدث بعمق عن المشاعر الانسانية , فنحن حينما نقرأ نصّا سرديا تعبيريا نجد اللغة تريد السرد الحكائي وسرد حادثة معينة , وتبرز لنا شخصيات ونستشعر بوجود حدث نصّي , لكن في النهاية نرى بان اللغة تتجه وبقوّة نحو بوح شعري ليس المقصود منه الحكاية وانما التعبير وبعمق وشاعرية , فنجد في النصّ كمية هائلة من الشاعرية . ان الكتابة بالطريقة الافقية ( الكتلة الواحدة ) وهذا ما ندعو اليه دائما ونحاول ترسيخ فكرة الكتابة عن طريق تعبيرات كتابية متواصلة وبدون فراغات او سكتات او نقاط بين هذه الفقرات , هذه الطريقة منحت الساعر السردي فسحة وفضاء كبيرين من أجل التحدث بعمق , اصبحت لغته لغة ساحرة تحطم هذا الواقع الى شذرات ومن ثمّ يعيد تشكله عن طريق الخيال الخلاّق والخصب ويحوّل الاشياء الى كمّ هائل من المشاعر والاحاسيس ويجعلنا نتحسس ونستنشق هذه الاحاسيس والمشاعر العذبة وكأنها ينبوع يتفجر من بين الصخور . اذا نحن سنكون أمام نصوص تتوهّج بالدهشة والتكثيف والايجاز وضغط اللغة وتفجير طاقات المفردة ووضعها في مكانها المناسب , وهذا ما وجدناه في هذه السردية التعبيرية للشاعرة نعيمة عبدالحميد / أنصت لصمتك لتكتمل الشجرة بداخلي / . فمن خلال العنوان نستشعر باللغة الصادمة وغرابتها وغوايتها في نفس الوقت , العنوان كان عبارة عن نصّ مدهش ثريّ وهذا ما ندعو اليه دائما , لان العنوان هو العتبة الاولى لدخول عالم الشاعر والسياحة فيه . ان الكتلة التعبيرية هي الوحدة المادية التي يشتغل عليها الشاعر في كتابته للشعر , وانها تمتلك بُعدا جماليا مؤثرا لما تحويه من انزياحات لغوية ورمزية تحيل النصّ الى مقطوعة يتفاعل معها المتلقي ويحاول تفكيكها وهي تنساب الى أعماق النفس , هذا الكتل التعبيرية تحمل زخما شعوريا عنيفا وعمقا تعبيريا حقيقيا .. / وأنا أحرق أبجدية الحروف بلهب الحنين أنصت لأ ناتها و اكتب لك اشراقة تضيئ حميمية تحيلنا الى دخان يسري فوق وسوسة العرف يطهرنا ظل الحب الذي يدخلنا أزقة القصيدة الضيقة كغبار من ذهب / نلاحظ هنا كمية الحنين والاشتياق واللهفة والحميمية في هذا الكتلة التعبيرية المشحونة بكل هذه الهواجس , تصوير مبهر فعلا للمشاعر الانسانية الصادقة نتيجة ما ساورها من قلق واضطراب ووساوس جعلت الشاعرة ترسمها لنا بطريقة تدعو للتأمل والوقوف عندها طويلا . وفي مقطع آخر من المقطوعة نختار / وأنت تهطل فوق اهدابي المحتفية بصمتك في هاتيك الأروقة نهتك صيرورة المادة و ادلق عطري في غرف الكلمات الممتلئة بحشرجة ثملة تتماهى على بتلات الزهور حينها ألقي عليك أسراري الباذخة وينسف هدير شغفي هدنة فتورك لتكمل بداخلي شجرة آثرت البعد و لا أستطيع التنعم بظلها ../ هنا نجد بناء جملي متواصل رائع وكتلة تعبيرية كبيرة زاخرة بالانزياحات العذبة والمفردة المتوهّجة وخيال جامح , لقد أمسكت الشاعرة باللحظة الشعرية ولم تفلت من يدها فكانت ان صورت لنا عوالم شعورية ما كنا سنجدها لو الكتابة بهذه الطريقة الافقية وبروح السردية التعبيرية , لقد استطاعت تجريد الاشياء من خصائصها وحوّلتها الى كيانات تبوح بكل شيء , لقد لامست مفردات الشاعرة الوجدان النقيّ لانها حتما انبعثت من مشاعر نقيّة , فتحقق كل هذا الجمال والتميّز .
النصّ :
أنصت لصمتك لتكتمل الشجرة بداخلي .. بقلم : نعيمة عبدالحميد /ليبيا
وأنا أحرق أبجدية الحروف بلهب الحنين أنصت لأ ناتها و اكتب لك اشراقة تضيئ حميمية تحيلنا الى دخان يسري فوق وسوسة العرف يطهرنا ظل الحب الذي يدخلنا أزقة القصيدة الضيقة كغبار من ذهب،نتوارى في عزلتها المضاءة ككوكب دري لا ينام،هي مرفأ نبضات مجنحة يدور حولها محيط معتم لذلك أدعوك للقفز خلف أسوار القصيدة حيث نورها الخافت و نضوج عنب دواليها في حضورك المشتعل لنرى كيف تكون الحروف الميتة عناقا محرما نحلق عبره و لا نخشى هزات اللغة لأنها ارتباكات زهرة اورقت من رحم حجر اغريقي يضوع أريجها الجالس على حافة الليل بمجون حس هاجر من غور القلب، وأنت تهطل فوق اهدابي المحتفية بصمتك في هاتيك الأروقة نهتك صيرورة المادة و ادلق عطري في غرف الكلمات الممتلئة بحشرجة ثملة تتماهى على بتلات الزهور حينها ألقي عليك أسراري الباذخة وينسف هدير شغفي هدنة فتورك لتكمل بداخلي شجرة آثرت البعد و لا أستطيع التنعم بظلها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق