الزّوال
السّراب يبني عرشه على الرّمل. والأرض شهباء عارية من الظلّ. كنّا -والجحيم يأكل الصّحراء-داخل خيمتنا الوحيدة نفترش الأديم، وقد اشتدّت علينا ريح سموم...
بغتة نفرت إلينا ظبية منهكة، وقد تخلّت عن حذرها الغريزيّ. بجرمها الضّئيل وقفت بيننا تمسحنا بنظرات حزينة. همّ أحدنا بالانقضاض عليها، لكنّ أبي أوقفه بإشارة منه. اتّجهت وسط ذهولنا إلى القِربة المعلقّة وتشمّمت ما تحتها من ثرى، فلمّا قرّبنا إليها الماء نفرت إلى الخارج. بعد حين، عادت ومعها جديان كادا أن يحرضا عطشا... مساءً، كانت رائحة الشِّواء تطبق الآفاق...
يمــــــامة
هكذا دأب الصّحراء، لا يبرد فيها الجحيم إلاّ إذا هزّها العجاج. من فرطه رقصت الواحة بما فيها فأسقطت بلحا وثمارا. ومن كلّ مكان تحرّكت ذرّات الرّمل في الفضاء، فالتقت على أمر قد قُدِر... كنت أعارك الرّيح، فما من جرفة تراب أروم بها سدّ الثّلامات في السّواقي إلاّ وأذرتها هبَاءً منثورًا، لقد فاض الماء ومسحاة واحدة لا تكفي لردّه...
رقصت نخلة فسقط عشّ به أربعة فراخ فاغرة الأفواه. صررتها إليّ... فجأة دوّى على صدري انفجار مكتوم. في اللّحظة الموالية رأيتها تغالب الرّيح في كرِّها عليّ، فما إن بلغتني حتّى خفقت بجناحيها أمام وجهي وأصدرت زُواءً ملتاعا... تذكّرت أميّ فبكيت.
ابن الجِنّ
مستحيل أن يكون من أمّة القطط. لا ندري من أين يأتي ولا إلى أين يذهب. كلّما ظهر إلّا وأذاقنا مرارة الهزيمة وخلّف فينا مزيدا من الغيظ. أسود، رشيق، لا تعجزه الشّواهق ولا الحواجز. يبرز مرّة واحدة كلّ ليلة، يتصفّح وجوهنا بعينه الواحدة في تحدّ سافر، يجمد كصنم، تخطئه أنعلتنا، لا يبالي بصراخنا. فجأة يقفز فيختطف خرنقا ويفرّ في طرفة عين...
تظاهرنا عليه بالحيل، فما أصبنا منه شيئا...
ذات ليلة أفقنا على مواء ملأ الحوش. حينها كنّا نرقد على الرّمل تحت السّماء.. قريبا من أفرشتنا وجدناه يعارك حنشا غليظا، يناور ويلتفّ، وسريعا ما يسدّد ضربته القاتلة...
الأحقاف
حسبنا الربّيع سكن هذه الصّحراء فأحياها بعد موت. وخُيّل إلينا أنّ الأرض الجدباء الحزيزة ستخرج أثقالها فيعمّ الرّخاء. لكن ها هي السّنون تمرّ وأنا وجملي نشقّ هذه الفيافي بحثا عن الواحة المزعومة فلا نجدها. كلّما رأينا سوادا يممّنا نحوه حتّى إذا بلغناه وجدنا الخيبة عنده.. نفذ الزّاد أو كاد، وقذف بنا التّيه والتّجوال إلى الرّبع الخالي. إنّه عالم الأحقاف...
الجوع كافر، ونفسي تراودني بذبح الجمل. هو الآخر رأيته يأكل من حوِيَّــــتِه*، وقد باتت نظرته إليّ غريبة مريبة تنذر بالقتل...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الحويّة: شداد الجمل، تقابلها البردعة عند الحمار.
السّاكتون
إذا أقبلت ليالي الصّيف، فررنا من حرّ بيوتنا إلى خارجها. ندسّ أرجلنا في الرّمل ونركب مراكب الكلام إلى الشّرق والغرب. ولا بدّ أن ترتفع ضحكة هنا وصرخة هناك، أو تنشب معركة ما بين طفلين فيتّسع مداها إلى الكبار.
هبّ النّسيم عليلا وهم يتّكئون على أذرعهم في التّراب. من أحجار قريبة نفرت إليهم تشقّ الرّمل سريعة نشيطة. غرست شوكتها في الأوّل، كتم صرخته وتركها تمرّ إلى الذي يليه. لدغت الثّاني فكتم صرخته و...
بعد ساعة، كان السُّم يجري في دماء الجميع...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق