"لقد نجحت الولايات المتحدة على مدى خمسة عقود من المحافظة على السلام في الشرق الأقصى، وتمكنت من توفير الرخاء والإزدهار لكوريا الجنوبية واليابان من خلال التركيز على التعاون وليس الإنقسام". هذا ما كتبه "سكوت سنايدر" مدير وحدة كوريا الشمالية بمجلس العلاقات الخارجية الأمريكية في مقال بمجلة "فوربس" مؤخرا.
أما مناسبة هذا الكلام فهي الحرب التجارية التي اندلعت بين طوكيو وسيئول خلال الأسابيع الأخيرة والتي باتت تهدد تحالفهما السياسي/العسكري/ الأمني تحت المظلة الأمريكية.
وإذا كانت الحرب التجارية الأمريكية ــ الصينية سببها سياسات الرئيس ترامب في لجم الطموحات الصينية وتقزيمها، فإن سبب الحرب التجارية الكورية ــ اليابانية مختلف تماما. فظاهريا يكمن السبب في مخاوف يابانية حول أمنها القومي جراء صادراتها التقنية الدقيقة إلى كوريا الجنوبية والمحتمل وقوعها في أيدي الكوريين الشماليين طبقا لما صرح به مسؤولون يابانيون. أما السبب الحقيقي فهو خلافات قديمة تعود إلى سبعة عقود مضت حينما احتلت اليابان كوريا الجنوبية ما بين عامي 1910 و 1945، وقامت قوات الإحتلال الياباني بامتهان كرامة مئات الآلاف من الفتيات الكوريات عبر استعبادهن وتسخيرهن للملذات، وقيام الشركات اليابانية بإجبار الكوريين على العمل في منشآتها قسرا. وتأكيدا لكلامنا هذا، لا بد من الإشارة إلى ما حدث في أواخر العام الماضي حينما أصدرت المحكمة الكورية الجنوبية العليا أحكاما ضد شركتين من كبريات الشركات اليابانية (ميتسوبيشي، و نيبون ستيل) تطالبهما فيها بدفع تعويضات جراء إستخدامهما عمالة كورية قسرا.
تلك الأحكام إستفزت السلطات اليابانية فقررت الرد على سيئول عبر فرض قيود للحد من تصدير 1120 مكونا من المكونات التقنية يابانية المنشأ من تلك التي تستوردها كوريا الجنوبية لتصنيع جملة من السلع الذكية على رأسها الهواتف والشاشات التي تصنعها شركة سامسونغ. ليس هذا فحسب وإنما لجأت طوكيو إلى رد آخر تمثل في إزالة كوريا الجنوبية من القائمة البيضاء للشركات التجارية الموثوقة التي تحتوي على شركات 27 بلدا.
غير أن القرار الياباني الذي أتخذ بذريعة أمنية ولم يفصح عن خلفياتها السياسية التاريخية هو في الحقيقة سلاح ذو حدين. صحيح أن كوريا الجنوبية (أكبر منتج للرقائق التكنولوجية في العالم) سوف تتضرر إذا استمرت القيود اليابانية، وستعانى شركاتها من ضغوط شديدة لإيجاد مورد بديل. لكن الصحيح أيضا أن اليابان (أكبر مورد للمواد الكيميائية المستعملة في صنع الرقائق التكنولوجية) ستتضرر أيضا من وراء قرارها المتعجل الذي وصفه الكثيرون من الخبراء والمراقبين بالقرار المتهور والمخالف لإتفاقية منظمة التجارة العالمية، التي تمنع إستخدام التجارة كأداة ضغط لتحقيق مكاسب سياسية، بل القرار الذي قيل عنه أنه بمثابة عملية إنتحار يابانية ذاتية، وذلك إنطلاقا من حقيقة ضخامة الأموال التي ستخسرها الشركات اليابانية جراء منعها من تصدير تقنياتها إلى كوريا الجنوبية. فعلى سبيل المثال، بلغت في العام الماضي وحده قيمة صادرات هذه الشركات من التقنيات اللازمة لتصنيع الهواتف الكورية الذكية وحدها أكثر من 11 مليار دولار.
وقد أدركت حكومة رئيس الوزراء الياباني "شينزو أبي" سريعا الموقف الصعب الذي وضعت نفسها فيه، خصوصا وأن اليابان من أكثر الدول المستفيدة من التجارة الحرة، فدعت إلى مفاوضات لإزالة التوتر بين البلدين الحليفين، لكن تلك المفاوضات لم تسفر عن شيء، وظل الوضع على ما هو عليه إلى أن أقدمت طوكيو في الإسبوع الماضي (ربما تحت ضغوط أمريكية) على بادرة تمثلت في إزالة الحظر المفروض على بعض التقنيات اليابانية (مثل المواد المقاومة للضوء في خط تصنيع الأشعة فوق البنفسجية) التي طلبتها شركة سامسونغ إلكترونكس الكورية العملاقة. وفي رأي العديد من المراقبين أن الخطوة اليابانية هذه ليست فقط محاولة لتخفيف غضب الكوريين الجنوبيين، وإنما أيضا وسيلة لمنعهم من الإعتماد على التقنيات المطلوبة من مصادر أخرى مثل الصين، أو لإيقاف برامج علمية كورية قد تؤدي في نهاية المطاف إلى الإستغناء عن التقنيات اليابانية المستوردة.
وفي هذا السياق، يمكن الإشارة إلى ما قاله الرئيس الكوري الجنوبي "مون جاي إن" تعليقا على القرارات اليابانية، من أنها "جعلتنا نستيقظ لنجدد إقتصادنا وننوع مصادر وارداتنا ونعمل من أجل كوريا متفوقة إقتصاديا على اليابان خلال فترة وجيزة"، مضيفا "ربما ضارة تكون نافعة".
وإذا ما علمنا أن سيئول خصصت نحو 6.5 مليار دولار للإستثمار في مائة عنصر إستراتيجي رئيسي لتوفير إمدادات تقنية مستمرة ومستقرة لصناعاتها بحلول 2024، من خلال الإستحواذ على شركات أجنبية منافسة تمتلك تكنولوجيات عالية المستوى، فإن قرارات طوكيو ربما ستدفعها نحو التسريع في هذه الإستثمارات.
د. عبدالله المدني
أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي من البحرين
تاريخ المادة: أغسطس 2019
البريد الإلكتروني: Elmadani@batelco.com.bh
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق