لم يستطع الكتاب الذين تناولوا الحديث عن رواية أكرم مسلم "بنت من شاتيلا" ألا يتحدثوا عن شخصية تلك البنت، ولكن مع شيء من العرض المباشر الذي لم يتجاوز المتن الروائي نفسه، كما قال المثل: "وفسر الماء بعد الجهد بالماء". لقد أعادت تلك الكتابات النقدية وغير النقدية الشكل الخارجي الحكائي للشخصية دون أن ترى فيها شيئا أبعد من تلك الصورة اللغوية التي رسمها أكرم في الرواية وتلقاها هؤلاء الكتاب تلقيا سطحيا في الغالب.
لقد توقف النقد الروائي عند مفهوم الشخصية، وأعطاها عناية خاصة، إلى درجة أن أحد النقاد أطلق على الشخصيات مصطلح "الناس"، ويستطيع هؤلاء الناس المخلوقون من بنات أفكار الكاتب وخياله أو الذين يستحضرهم على نحو ما من الواقع أن يعيشوا حياة أخرى محملة بأقدار مختلفة أو متشابهة مع مثيلاتها في الواقع. وكلما كانت الشخصية تجمع صفات طبقتها وأبعادها تكون أقدر على أن تكون شخصية روائية ناجحة ومؤثرة، وربما خرجت من القدر الروائي لتكون موزعة في أشتات الناس العاديين، وكأن الروائي يقسم جسم تلك الشخصية في جسوم كثيرة، بعد أن جمعها من جسوم كثيرة، ولهذا يجب أن تكون الشخصية الروائية أبعد من مجرد شخصية واقعية، لأن الواقع وحده وببساطة شديدة لا يصنع رواية ناجحة.
هذه المقدمة تدفعني لأرى "بنت من شاتيلا" على هدي التصور النقدي الخاص بتحليل الشخصيات، ولكن بعيدا عن التوصيف الكلاسيكي بين شخصية رئيسية أو ثانوية، مسطحة أو ثابتة، ولكن بوصفها شخصية نموذجية، تعامل معها المتن الروائي بوعي كامل على أنها نموذج وأيقونة، بوصفها "علامة فارقة"، و"ناجية وحيدة من مجزرة"، أو "موديل مجزرة". فهي تمثل حالة استقطاب للكتابة عنها، وهكذا فعل الصحافيون والإعلاميون بالتعامل معها بهذه الصورة الفاتنة بمأساويتها، ولذلك فإنها تنتبه إلى هذا التعامل المسكوت عن توصيفه في الرواية، ولكنه بلا شك كخطاب مساير للخطاب المعلن هو تصرف لا أخلاقي، ربما.
هل وقع الكاتب بالفخ نفسه الذي وقع فيه الصحافيون والإعلاميون على اعتبار أن هذه الشخصية تصلح لتكون شخصية روائية؟ يعيد السارد قصتها مع الآخرين ليقدم إدانة مبطنة لهذا السلوك، ولكن هل تخلص الكاتب نفسه من سيطرة النموذج عليه؟ لاسيما أنه كالآخرين تجاوز الأخ الآخر للبنت، وهو الناجي الثاني من المجزرة ولكن نجاته كانت بطريقة أقل (شعرية) أو إثارة، فالتمحور حوله أو تقاسم البطولة الروائية والإعلامية مع "بنت من شاتيلا" إذن يفقد الشخصية ألقها الروائي والصحافي والإعلامي، لذلك تم تغييب الأخ "لتحافظ نجاة الأخت على فرادتها". وتكتسب "صفة الناجية الوحيدة". هكذا فعل الإعلام، وهكذا فعلت الرواية بـ "بنت من شاتيلا". ويحاول السارد أن يجيب عن هذه المعضلة الأخلاقية بقوله: "ولأن حكاية الناجية الوحيدة أقلعت كقصة لامعة عن هول المجزرة. اختار الرواة لاحقا التغاضي عن عودة الأخ./ قرروا أن تظل ناجية وحيدة لضمان جودة الحبكة". (ص45).
هنا بالضبط تكمن المساءلة الفنية. أيهما أكثر قدرة على التأثير ناجية وحيدة في ظروف شديدة التعقيد، وكأنها نجت من الموت بمعجزة، وليس فقط بأعجوبة أو بصدفة أم يتشتت هذا التركيز بين شخصين اختلفا في طريقة النجاة، وإن اتفقا بصفة واحدة؟
لقد نجا الطفل من المجزرة بظروف طبيعية، كل الحكاية أنه لم ينم تلك الليلة في البيت، وذهب مع خالته. يبدو الأمر عاديا لا يدفع إلى منطقة الرواية الأشد حضورا وتبحث عن الإثارة، وعليه لا تشكل نجاته "حبكة روائية جيدة"، ولا سبقا صحفيا وإعلاميا مغريا. أما الطفلة التي ستغدو بعد عقدين من الزمن بطلة في رواية تدعى "بنت من شاتيلا" نجت بظروف أكثر دراماتيكية، كانت في معمعة القتل ونجت "بالتماوت"، فقد أصيبت الأم لحظة اقتحام البيت، ثم انسحبت "ارتمت فوق البنت ترجوها هامسة أن تتماوت، كان رأس البنت ملتصقا بتكور البطن، سارعت الأم وهي تختلج إلى تلطيخ وجه صغيرتها بالدم كجزء من تمثيلية الموت". بهذه الظروف العاصفة نجت الطفلة، سبب آخر مغرٍ لأن تكون حالة روائية، لا تقارب حالة الأخ الذي تبدو قصة نجاته قصة باهتة بالمقابل. هكذا يصنع الرواة أبطالهم، وهكذا يهمشون آخرين في سياق حدث واحد.
إن ما حدث في المجزرة وموت آلاف الضحايا وخلفت كثيرا من الحالات الإنسانية التي يلزمها التعاطف والكتابة عنها، تلجأ هذه الكتابة إلى الاختزال والتقوقع حول بطل يحمل كل تلك المآسي لكل هؤلاء الضحايا، وربما هذا هو المخرج الأخلاقي الذي يساعد الروائيين على التركيز على تلك الحالات البارزة، لكنه لا يعفي الصحافيين ولا الإعلاميين في اختزال مجزرة بشعة بنجاة طفلة بأعجوبة.
لعل الرواية في خطابها المستتر تدين وتقضح هذا السلوك غير الأخلاقي، وخاصة أنها لفتت الانتباه إلى كيفية صنع النماذج والأيقونات الإعلامية والصحافية، تلك الأيقونات التي تبرز بين الحين والآخر، كفارس عودة ومحمد الدرة وعهد التميمي بوصفهم حالات أبرزهم الإعلام، لكنهم ليسوا حالات وحيدة ومميزة، فهناك الكثيرون ممن فعلوا مثلما فعلوا بل ربما أكثر، ولكن لم يتصادف أن وجدوا إعلاما ليشهرهم كما تصادف لهؤلاء ولـ "بنت من شاتيلا" التي وجدت تلهو أمام أحد البيوت وتم تعريفها كناجية وحيدة، "كانت تلهو أمام بيت جيران ناجين قرروا استبقاءها حتى يجدوا لها حلا، وكان بعض النشطاء اهتدوا إليها كناجية وحيدة وقدموها للصحافة كقصة مؤلمة". (ص45)
وعلى ذلك، وبالمنطق نفسه، هناك ناجون كثر أصحاب قصص بحاجة إلى أن تكتب، وهناك أيضا مهمشون تتجاوز عنهم روايات مكتوبة، من الأخلاقي أن يكتب عنهم ويلتفت لهم، فلهؤلاء حكايتهم أيضا التي يجب أن تبرز، ويجب ألا يظل الكتّاب مأسورين في تلك الأيقونات الإعلامية التي صنعها الإعلام على حين غرة. ربما منطق الفن يغلب منطق العقل، ولا انتهاكٌ أخلاقيٌّ لأي حق أو خصوصية، ولكنها تبقى فكرة أراها ضرورية للحديث حولها ومناقشتها، لتخفيف هرولة النقاد والكتاب نحو مناقشة النموذج الأبرز والطواف حوله بعد أن حوّله الكاتب إلى حجره الأسود في كعبة روايته الجديدة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق