لم يحدث في تاريخ تركيا الحديث منذ زمن مؤسس الجمهورية الغازي مصطفى كمال أتاتورك أنْ تكالبت المصائب والتحديات تباعا على زعيم من زعمائها كما يحدث اليوم مع رئيسها الحالي السيد رجب طيب أردوغان.
فتركيا التي تعتبر في موازين القوى العالمية دولة متوسطة الثقل والإمكانيات، وبالتالي ليس بمقدورها مناطحة الكبار، وإنْ كانت الجغرافيا السياسية قد منحتها موقعا استراتيجيا فريدا بين الشرق والغرب، أبتْ في ظل أردوغان إلا أن تحاول إستعادة ما كان لها ذات يوم من سطوة وهيمنة وتمدد زمن الدولة العثمانية المحنطة في المتاحف.
وقد رأينا ذلك جليا في سياسات أنقرة تجاه العراق وسوريا ومصر وليبيا وأيضا في خطاب أردوغان تجاه الخليج العربي، والذي حمل في ثناياه الكثير من الغطرسة والوقاحة التي وصلت حد التشكيك في أهلية المملكة العربية السعودية لجهة رعاية المقدسات الإسلامية في مكة المكرمة والمدينة المنورة، دعك من إصطفافها علنا إلى جانب الدوحة في مشاكل الأخيرة مع جاراتها الخليجيات، ودعك أيضا من أسلوب تعليق أردوغان في القمة الروسية ــ التركية ــ الإيرانية الأخيرة في أنقرة على الإعتداء الإيراني على منشآت النفط السعودية في "بقيق"، حينما قال "دعونا نتساءل منْ أعلن الحرب على اليمن؟"، بدلا من أن يدين الحدث الإرهابي الجبان صراحة.
وكنتيجة لهذه السياسات والتدخلات التركية غير المسبوقة يقف أردوغان اليوم عاريا لا حلفاء له سوى موسكو ونظام الملالي الفاجر في طهران. فعلاقات أنقرة متوترة مع مصر، والثقة بينها وبين دول الخليج العربية عدا قطر معدومة، وحلفائها في ليبيا يحتضرون على أيدي قوات الجيش الليبي بقيادة اللواء خليفة حفتر، وطموحاتها في حيازة موقع قدم استراتيجي في ميناء سواكن السوداني عصفت بها ثورة السودانيين ضد نظام عمر البشير الإسلاموي، وتحالفاتها التاريخية القديمة مع واشنطون تظللها الشكوك بسبب روابطها الجديدة مع موسكو، وابتزازها للاتحاد الاوروبي للحصول على مساعدات تحت تهديد إغراق الدول الاوروبية بالمهاجرين لم تنفعها بل أزمت علاقاتها مع الاوروبيين أكثر فأكثر، وهيمنة حزب أردوغان الحاكم (حزب العدالة والتنمية) على القرار في كبرى المدن التركية (إسطنبول) ذهبت أدراج الرياح بفوز الشاب المعارض "أكرم إمام أوغلو (مرشح حزب الشعب المعارض) على رأس بلدية المدينة في الإنتخابات التي أعيد إجراؤها في يونيو/حزيران من العام الجاري.
وهاهو السيد أردوغان يقف اليوم عاجزا حتى حيال رص صفوف حزبه الحاكم ومنعه من الإنفراط في ضوء إستقالة الكثيرين من رموزه الأقوياء الساعين لتكوين أحزاب سياسية بديلة منافسة بعدما طفح بهم الكيل من ديكتاتورية الرجل وتمرده على المباديء الأساسية التي تم تأسيس حزب العدالة والتنمية على أساسها، وذلك طبقا لتصريحات ثلاثة من كبار رفاقه السابقين وهم رئيس الوزراء ووزير الخارجية الاسبق أحمد داوود أوغلو و نائب رئيس الحكومة وزير الخارجية والإقتصاد السابق علي باباجان ورئيس الجمهورية السابق عبدالله غول.
أما في موضوع التنقيب عن النفط في المياه الإقليمية القبرصية الذي إعترضت عليه حكومة أردوغان بصفتها حامية الجزء الذي إستولت عليها أنقرة بقوة السلاح في عملية غزو مفاجئة سنة 1974 زمن رئيس الوزراء الأسبق "بولنت اجيفيت"، وهو جزء يـُعرف بدولة قبرص التركية ولم يحظ إلا باعتراف أنقرة وحدها، فقد تلقى أردوغان صفعة من الإتحاد الأوروبي الذي إصطف مع قبرص باعتبارها عضوا في الإتحاد، وحذر من المساس بحقوقها في إستخراج ثرواتها رافضا المزاعم التركية ومستهجنا في الوقت نفسه تهديدات أردوغان بفتح صنبور المهاجرين نحو أوروبا عبر شواطيء وجزر اليونان.
وبعد الصفعة الأوروبية جاءته صفعة طال انتظارها من المملكة العربية السعودية في صورة التنسيق مع قبرص اليونانية والإعتراف بحقها في ثرواتها النفطية البحرية، طبقا لما جاء في بيان رسمي صدر في 12 سبتمبر الجاري في أعقاب زيارة تاريخية وغير مسبوقة قام بها وزير الخارجية السعودي إبراهيم العساف إلى الشطر اليوناني من قبرص، علما بأن الرياض صبرت كثيرا على إساءت النظام الأردوغاني تجاهها وذلك من باب الحفاظ على روابطها الإسلامية مع أنقرة، لكن يبدو أنّ صبر الرياض قد نفذ فكان لا بد من رد علّ السيد أردوغان يستيقظ معه من أحلامه.
د. عبدالله المدني
*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي من البحرين
تاريخ المادة: سبتمبر 2019
البريد الإلكتروني: Elmadani@batelco.com.bh
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق