في الأنباء أن إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أبرمت صفقة مع حركة طالبان لإحلال السلام في افغانستان المنكوبة بالحروب وعدم الاستقرار منذ أكثر من خمسة عقود متواصلة، وأن الصفقة تتضمن بين أمور أخرى إجلاء معظم القوات الأمريكية من هذا البلد.
وفي الأنباء أيضا أن ترامب ألغى في الأسبوع قبل الفائت إجتماعا سريا كان مقررا عقده في كامب ديفيد بينه وبين من تم التفاوض معهم من ممثلي طالبان في الدوحة وهم ستة من عتاة الإرهابيين ممن كانت واشنطون تحتجزهم سابقا في قاعدة غوانتانامو، وذلك على إثر تبني طالبان لتفجير إنتحاري راح ضحيته جندي أمريكي و11 آخرين في عملية وصفت بأنها تستهدف الضغط على الامريكيين للحصول على مكاسب أكبر قبل تنفيذ بنود الصفقة المشار إليها.
الغريب في الأمر أن صفقة واشنطون مع الطالبانيين حدثت من وراء ظهر حكومة الرئيس الأفغاني الشرعي "أشرف غني" المعترف بها دوليا وبمعزل عنها، وكأنما لا وجود لها على الخارطة السياسية. والغريب أيضا أن قرار ترامب حول إلغاء اجتماعه مع ممثلي طالبان لم يكن قرارا حاسما ونهائيا وإنما تضمن إيحاء بإمكانية عقده في المستقبل، لكن الأغرب من هذا وذاك حقيقة هو أن الصفقة المذكورة ــ رغم أنها ولدت ناقصة وعقيمة وغامضة (بدليل إعتراض مستشار ترامب للأمن القومي "جون بولتون" عليها وإستقالته بسببها) ــ تضفي الشرعية على جماعة إرهابية لفظها العالم بأسره جراء حماقاتها وفرماناتها الوحشية وإنتهاكاتها لأبسط حقوق الإنسان الأفغاني رجالا ونساء واطفالا على مدى سنوات وجودها في السلطة ما بين عامي 1996 و 2001 وهي سنوات عجاف حدث فيها ما لا يمكن وصفه من أحداث بشعة بعلم وإرادة ما كان يسمى "إمارة افغانستان الإسلامية" وزعيمها المتطرف "الملا محمد عمر اخترزاده". هذا ناهيك عما فعلته إمارة طالبان من احتضان تنظيم القاعدة الإرهابي وتوفير الملجأ لقادته وتدخله في شؤؤن الدول المجاورة.
في إعتقادي الشخصي أن واشنطون ترتكب خطأ قاتلا بمحاولة إعادة تأهيل طالبان لأن الأخيرة لن ترضى بأقل من العودة للسلطة في كابول على أنقاض الحكومة الشرعية الحالية وجثث رموزها وكل المتعاونين معها وإنْ إدعت خلاف ذلك لإسباب تكتيكية. وسوف تكون عودتها ــ إن تحققت ــ بداية لحقبة دموية مظلمة أخرى في تاريخ أفغانستان الجريحة والمنهكة أصلا. وفي اعتقادي أيضا أن حوادث القتل والانفجارات التي قام بها الطالبانيون مؤخرا في كابول وغيرها من المدن الأفغانية ليست سوى بروفة لعودتهم المأساوية ورسالة إلى الحكومة الشرعية بأنها لن تفلت من العقاب والانتقام.
أما من يعتقد أن السلام سوف يعم أفغانستان من منطلق أن طالبان قد تغيرت وأنها استوعبت الدرس ولن تكون كما كانت سابقا لجهة الالتزام بالأعراف والمواثيق الدولية فهو واهم.، بل واهم جدا.
ويذكرنا خطأ واشنطون الأفغاني الجديد بالخطأ القديم زمن الرئيس الجمهوري الأسبق رونالد ريغان الذي ورث الملف الأفغاني من سلفه جيمي كارتر في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات.
لقد كانت أفغانستان تعيش حالة سلام وأمان واستقرار وتنمية متناسبة مع مواردها القليلة في ظل ملكية محمد ظاهر شاه الذي تمكن بنجاح من إدارة الانقسامات العرقية والمذهبية والجهوية والقبلية في مملكته واستطاع أن ينتهج نهج الحياد بين المعسكرين الشرقي والغربي زمن الحرب الباردة بهدف الحصول على مساعدات انمائية من كلا المعسكرين في آن. لكن شهية الوثوب إلى السلطة للإطاحة بالملكية وإعلان الجمهورية كانت قد اختمرت في عقل أقرب المقربين من الملك وهو صهره وابن عمه محمد داوود خان فحدث ما حدث على النحو الذي جرى في معظم الممالك العربية في خمسينات وستينات القرن الماضي، فكان الانقلاب الأول بداية لانقلابات أخرى إكتوى منها الأفغان وأوقف حراك بلادهم نحو التنمية.
ففي أواخر السبعينات استولى على السلطة في كابول مدنيون وعسكريون ممن كانت الملكية الافغانية قد أرسلتهم للتخصص والتدريب والتعليم في الجامعات السوفيتية، مدشنين بذلك نظاما ماركسيا شيوعيا في بلد كل سكانه من المسلمين القبليين المحافظين. ورغم كل ما قيل وقتها عن هذا النظام الجديد وتجاوزاته وتقييده لمظاهر الديمقراطية وحرية التعبير، فإن الأفغان كانوا ــ على الأقل ــ يعيشون في ظله بسلام وأمان كما كانت حرية العبادة متاحة وضروب التنمية مستمرة على نحو ما شاهدته شخصيا في زيارة إستطلاعية لكابول في تلك الفترة.
غير أنّ ما أفسد المشهد هو القرار الأمريكي المدعوم من حلفاء واشنطون في الغرب والشرق الأوسط بتكوين جبهة على الحدود الباكستانية الأفغانية لإسقاط النظام الأفغاني الشيوعي ضمن عملية التنافس على النفوذ. وكان وقود الجبهة هم الأفغان الفارون من بلادهم والمتطوعون العرب والمسلمين الذين قاتلوا باسم الجهاد كما هو معروف.
نعم، لقد سقط نظام الرئيس الشيوعي نجيب الله على يد المجاهدين بمجرد إجتياحهم كابول، لكن الأوضاع في افغانستان لم تعد إلى سابق عهدها بسبب تفشي ثقافة الكلاشينكوف في أوساط الأفغان العائدين والصراع على الغنائم بين أمراء الجهاد وهو ما جعل إسلام أباد تسارع إلى خلق حركة طالبان وتسليحها ودفعها نحو كابول لاستلام السلطة بحجة حماية مصالحها الاستراتيجية في هذا البلد المتاخم لحدودها والمتداخل معها عرقيا وثقافيا. وبقية القصة معروفة.
د. عبدالله المدني
* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الأفغاني من البحرين
تاريخ المادة: سبتمبر 2019
الإيميل: Elmadani@batelco.com.bh
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق