"الثّورة ككلّ جرأة: في وقتها ومكانها عبقريّة وانتصار وفي غير ذلك حماقة واندحار". (ميّ زيادة)
لتكون الثّورة في وقتها ومكانها عبقريّة، ينبغي أن تستند إلى الوعي. ولا بدّ من الانتباه إلى دلالة كلمة "الثّورة" حتّى لا يلتبس المعنى على النّاس فينطلق بحماسة المندفع بردّات فعل تفجّر الكبت المتأثّر بتراكم المشاكل الّتي يرزح تحتها الإنسان.
الثّورة تعني اصطلاحاً التّغيير الأساسيّ في الأوضاع السّياسيّة والاجتماعيّة يقوم به الشّعب في دولةٍ ما. ما يعني أنّ الثّورة بمعناها الاصطلاحيّ تختلف عن الاحتجاج بمعنى الاعتراض على أوضاع سياسيّة واجتماعيّة. ولئن كانت الثّورة تعني التّغيير الجذريّ في الأوضاع السّياسيّة والاجتماعيّة، تطلّب هذا التّغيير وعياً خاصّاً نما بنموّ الإنسان الثّقافيّ والمعرفيّ والحضاريّ فيستحيل عبقريّة وانتصاراً. وأمّا إذا خلا من الوعي فما هو إلّا حماقة تؤدّي إلى الفوضى المدمّرة والهلاك الحتميّ. والحماقة عكس الحكمة، تعبّر عن فوضى العقل وانعدام القدرات المنطقيّة الموجّهة لأي احتجاج أو معارضة أو استنكار لوضع ما. ولئن كانت الثّورة تغييراً أساسيّاً يقوم به الشّعب فلا بدّ لهذا الشّعب أن يكون واعياً بما يكفي ليحدّد أهدافه المتلازمة وأهداف ثورته وإلّا أتى فعله مجرّد تعبير عن غضب عارم، متى زال زال معه كلّ مطلب.
وحتى لا يكون الكلام وعظاً وإرشاداً وتنظيراً وإنّما تسليط للضّوء على التّفاصيل الّتي تكمن فيها الحقائق المؤدّية إلى تحقيق الأهداف، لا بدّ من تحديد عناصر الوعي الّذي قد يتمّ قمعه بأساليب عدّة:
- العنصر الأول: الوعي بتاريخ الشّعب وتبيّن تفاصيله والتّعلّم منه. فالشّعب الّذي تحتفظ ذاكرته بأهوال تاريخه ومصائبه الّتي أنهكت الوعي والعقل الجمعي فتفرّد كلّ فرد أو كلّ مجموعة في آراء خاصّة أو انتماءات خاصّة نتج عنها انغلاق خوفاً من الآخر المنفرد بآرائه وانتماءاته. الوعي بالتّاريخ يعني الابتعاد عن التّفاخر السّاذج والتّمجيد السّخيف للتّناحر والقتل وتبرير سفك الدّماء والمثابرة على تجميل الصّورة وخدعة طيّ صفحة الماضي دون البحث الجدّي في تصفية القلوب وتنقية الأذهان والسّعي إلى حاضر أفضل من خلال منهجيّة سلوك أفضل.
- العنصر الثّاني: الوعي بالمسؤوليّة وتحمّلها بجدّيّة، واعتبار الشّعب مشاركاً بما وصل إليه الواقع من سوء. فغير صحيح أنّ الشّعب لا يتحمّل المسؤوليّة في الأحوال الرّديئة الّتي تصل إليها الشّعوب. ومن غير الصّحيح أنّ الحكومات وحدها هي من تتحمّل المسؤوليّة. فالشّعوب تنال الحكومات الّتي تستحقّها، وهذه الحكومات لم تأتِ من كواكب أخرى وإنّما هي من صلب المجتمع. وما أتت إلّا بمؤازرة من الشّعب. لا ريب أنّ المسؤوليّة تتفاوت بين الدّولة الّتي تدير البلاد والشّعب إلّا أنّ هذا التّفاوت لا يلغي مسؤوليّة أيّ فرد.
- العنصر الثّالث: الوعي بأنّ الحماس هو غير السّعي إلى تحقيق الأهداف. وبالتّالي لا بدّ من وضع أهداف محدّدة ليتمّ التّغيير الجذري. وذلك يتطلّب عملاً دؤوباً واجتهاداً وتعباً حتّى يتمّ التّغيير. وأمّا الشّعارات فهي ابنة اللّحظة وتتضخّم بقدر ما يتفلّت الوعي ويثمل الإنسان بالحماس والفرح الّذي ينتج عن إفراغ الغضب ونشوة الحرّيّة المؤقّتة في التّعبير عن الوجع والألم. الحماس وليد اللّحظة وأمّا السّعي إلى تحقيق الأهداف فمسيرة نحو التّطوّر والتّقدّم.
- العنصر الرّابع: الوعي بأنّ تطوّر الشّعوب يقوم على نظريّة بسيطة وهي أن يؤدّي كلّ فرد عمله على أكمل وجه، مهما كان بسيطاً. ففي كلّ مرّة يحصل فيها تقصير أو استهتار تتأثّر مسيرة التّقدّم والنّموّ الاقتصاديّ والاجتماعيّ والسّياسيّ.
- العنصر الخامس: الوعي بحضور الآخر المختلف، أيّاً كان اختلافه واحترام حضوره بل والدّفاع عنه إذا لزم الأمر، بمعزل عن الأحكام المسبقة والشّتائم الّتي تعكس ذهنيّات مريضة غير مؤهّلة للمطالبة بالحقّ. وكلّ حقّ يقابله واجب، وكلّ واجب يقابله معرفة بهذا الواجب وكلّ معرفة يقابلها إعادة بناء للمفاهيم والتّصوّرات لبلوغ المعرفة بالمُطالَب به. فمن يطالب بإسقاط النّظام لا يعي جيّداً أنّه يتّجه نحو الفوضى الّتي ستتجلّى لاحقاً بالخروج عن النّظام والتّصرّف بهمجيّة. ومن يطالب بتشريع القوانين المواكبة للحداثة عليه أن يتعهّد بتطبيقها.
- العنصر السّادس: الوعي بأنّ مقولة أنّ الشّعب مصدر السّلطات خدعة كبيرة في بلدان ترزح شعوبها تحت وطأة السّعي وراء لقمة العيش فقط وتحت وطأة البطالة وتراجع العلم. يكون الشّعب مصدر السّلطات حينما يعي قيمته كشعب يحاسب دون ريبة وخوف من هم موظّفون في خدمته. وبقدر ما تتضخّم هذه المقولة في الأذهان بعيداً عن الوعي ينتج عنها تمرّد أعمى وحماس مفرط يُدخل الإنسان في فوضى مدمّرة.
- العنصر السّابع: الوعي بقيمة المحبّة الحقيقيّة بين الأفراد بغض النّظر عن الدّين والانتماء، والتّعاون من أجل تحقيق هذه المحبّة على ألّا تبقى ورقة اختياريّة يوم يكون الحماس سيّد الموقف. فالمحبّة هي الأساس وعليها تُبنى الأوطان وبها تتقدّم الشّعوب وتنمو وتتطوّر وتفهم أنّ الغلبة دائماً للمحبّين الّذين يبذلون أنفسهم ويقدّمون من ذواتهم ليكبر الوطن. المحبّة تبني والحقد يدمّر. المحبّة تنظّم الفكر والشّعور، وأمّا الحقد فجهل وعقم فكريّ وشعوريّ. المحبّة اتّجاه نحو إنسانيّة الإنسان وأمّا الحقد فعودة إلى حالة الهمجيّة الأولى وتعزيز للنزعة الفتك والتّخريب والانحلال.
تأتي ساعة تُحدَّد فيها مصائر الشّعوب وهي ساعة العقل والعقل فقط، بعيداً عن المشاعر المفرطة، والحماس المندفع، والشّعارات الفضفاضة، ونشوة الانتصار الخادع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق