دموعُ السماوي/ د. عدنان الظاهر


أيلول ـ أكتوبر 1998
(( كنتُ أميلُ كثيراً إلى البكاء وأنا صغير، ولحد الآن وأنا أقتربُ من الستين / الشاعر والصديق المرحوم عزيز السماوي )). 

(( دلللولْ  يُمّهْ دلللولْ ))
(( عدوّكْ عليلْ وساكنْ الجولْ )).

أُمّي وأنا في مهدي
تلهجُ بالشكوى
وتغني للريفِ مقامَ النوحِ على أيكِ
تبكي ليلاً وأنا أُصغي :
لماذا تبكي أُمّي… لماذا تبكي ؟؟
تندبُ حظاً يتعثّرُ من مهديَ حتى لَحدي… 

ماذا لو كفّتْ أُمّي
تركتْ طحنَ الروحِ وجرشِ الضيمِ
ماذا لو جفَّ البحرُ بأحداقِ العلقمِ والسُمِّ
ماذا لو سكتَ الحزنُ النابحُ فيها دهرا
مُذْ سومرَ حتى ما بعدَ السابعِ من نيسانِ ؟؟

قال المِكُ الضِلِّيلُ :
(( فقلتُ له لا تبكِ عينُكَ إنمّا     نحاولُ مُلكاً أو نموتُ فنُعذَرا )) 

هل حقّاً نملكُ شيئا ؟؟
لا يملكُ مثلُك أو مثلي إلاّ
مملكةَ الظُلمةِ في الدنيا والأخرى
ومَلاكاً للرحمةِ يأتينا من نارِ جهنمَ بالسلوى.

لا تبكِ عزيزي…
لا تكشفْ أحشائي
جرّبتُ الداءَ أتاني أسودَ محمولاً من أُمّي
فاللونُ القاتمُ يطغى في المجرى.

إرفعْ كالنخلةِ رأسا
نحو سماواتِ بلادٍ خانتني
قطعتْ حبلاً في رَحِمٍ أقصاني
طحنتْ بالهجرِ عظاماً ناتئةً في صدري
لا ترفعُ أعلاماً في برٍّ أو بحرِ
تُنكِرُ أني مولودٌ فيها
وبأنّا كنا نبني بيتاً من رملِ
وبأنّا كنا نلهو صيفا
ونُقبِّلُ ـ إنْ جِعنا ـ سَعَفاتِ نخيلِ الأهلِ. 
(( نخل السماوة يكول )) 
(( طرّتني سَمْرةْ ))
(( سعف وكَرَبْ ظليتْ )) 
(( ما بيَّ تَمْرةْ )) 

كلاّ…
أصرخُ كلاّ كلاّ كلاّ
هل تسمعُني ؟؟
هل يسمعُ شكوايَ عزيزٌ في منفى ؟؟
ما زالَ فسيلُ النخلِ يمدُّ ظِلالاً للأهلِ
يضربُ في طينةِ بابلَ جذراً أقوى من صخرِ
ويُظلُّ بيوتاً
وقفتْ يومَ الشدّةِ شامخةً ظهراً في صدرِ
ويمدُّ جسوراً ما بينَ النهرينِ
لعبورِ سفينةِ بحّارٍ ضلّتْ ما بينَ الساحلِ والرملِ
يبحثُ عن مأوىً مثلي أو مرسى
يسألُ صاحبةَ الحانةِ في الدنيا السفلى
عمّا يأتي بعدَ الموتِ : ـ 
الحانةُ ـ قالت ـ لا تسقي بحّاراً لا يرسو فيها
غادرها سِرّاً والمقهى
ماذا يأتي بعدَ الهجرةِ في الحاناتِ السفلى ؟؟
بَشَرٌ، قالتْ…
يمتدُّ جذوعاً فوقَ نعوشٍ تمشي بالموتى 
وسفائنُ قارونَ مُعطَّلةٌ تتهرأُ أخشاباً في مرسى.
(( لا يا هلي الظِلاّمْ )) 
(( ما رَحمْ عدكمْ ))
(( حنّوا عليَّ عادْ ))
(( موش آنه بِنْكُمْ )) ؟؟
ظلموني…
ظلموني حقّا
ظلموني حيّاً ـ ميْتا
ما حنّوا
جعلوني ألهو… وأحاولُ أن أنسى
وأُكلِّمُ أحجاراً صُمّاً بُكْما
كي أدفعَ شيئاً يُقلقُني عنّي 
فأرى دمعاً ورماداً مشتعلاً يجري
تحتَ وِسادِ حرائقِ هجراني
لا أعتبُ بعد الآنَ، على مَنْ عَتبي
والدهرُ يسافرُ في مركبِ أحزاني ضدّي ؟؟

سلّمتُ المفتاحَ لصاحبةِ الحانِ فكانتْ 
مثلي سكرى
تتلهّى بالجمرةِ في نارِ لساني
هل مرّتْ عَرَباتُ السُكَّرِ والعنبرِ والجيشُ الآشوريُّ ؟؟
قالت كلاّ …
مرَّ المَلِكُ الضِلِّيلُ بتاجِ عروسةِ آبارِ النارِ
تتبعهُ عَرباتُ الموتِ وأسماءُ القتلى
ناتئةً تصرخُ ناموا تحت الأرضِ جياعاً ناموا
أو قوموا
حانَ الوقتُ وقامَ الموتى
قوموا
قوموا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق