بعد أن فقدتُ الأمل بهذه الطبقة السياسية اللبنانية التي تعتاش على دماء اللبنانيين. وتَنْقلنا من فضيحة الى مصيبة الى فاجعة. وعلى ضوء اهمالهم وفسادهم والحرائق التي تجتاح لبنان. فتحت كتاب التاريخ علَّني استعين بأحد الخالدين لأفهم لماذا لا يثور هذا الشعب رغم أوضاعه المأساوية. قفز نسيب عريضة من بين صفحاته. وبمهارة علاء عبد الفتّاح المسجون في زنزانات السيسي. وخبرة المدونين الشباب الملاحقين في كل الأقطار العربية. وجَّهَ دعوة بعنوان: الشعب يريد الحياة، وجَّهها الى كل أبناء الشعب اللبناني، على جميع وسائل التواصل الاجتماعي، لملاقاته في ساحة الشهداء.
غصَّت الساحات بالجموع الزاحفة من كل حدب وصوب، أكثر من أربعة ملايين لبناني تجمّعوا حوله، اغرورقت عيناه فخراً بهذه الجموع الأبية، فصرخ: يا شعب لبنان العظيم، أيها الشعب اللبناني العنيد، يا أبطال جبال الصوّان، لماذا لا تتحركون وتثورون على هذه الطبقة السياسية التي أوصلتكم الى مستوى غير مسبوق من الذل والمهانة؟ لماذا تسكتون وهم يلتهمون أمام أعينكم، مستقبلكم ومستقبل أولادكم؟ صيانة الطوّافات لحمايتكم من الحرائق لمدة عشر سنوات كاملة تكلّف أقل من ليلة واحدة يقضيها أحد سياسييكم مع غانية . فهدرت الجموع وتعالت أصوات تتطالب بالسير الى قصور جميع السياسيين ومصادرتها وتوقيف أصحابها. وتابع: تجهيز الدفاع المدني لخمس سنوات كاملة، وتأهيله ووضعه بجهوزية عالية ليرد عنكم الكوارث، لا تكلف مقدار ما يصرفه مسؤول كبيرواحد على عرس ابنه او ابنته من مال اختلسه من عرق جبينكم. فتعالت الاصوات مجدداً مطالبة بالزحف على جميع مؤسسات الدولة والقاء القبض على كل المسؤولين وانشاء محاكم شعبية لمحاسبة كل الفاسدين ونصب المقاصل في الساحات العامة. تعملق عريضة أكثر وعلت نبرة صوته فغطَّت مساحة كل لبنان المنكوب بهذه الطبقة السياسية فتنحنح وصاح: يا أحفاد فخر الدين وطانيوس شاهين وأنطون سعادة وفرج الله الحلو وسمير قصير، يا أحفاد الوف المناضلين والمقاومين من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الانسانية، كيف تقبلون العيش بهذا المستوى من المذلّة بينما نوّابكم والوزراء والرؤساء يغرقون بالفساد، ويسرقون تعبكم، ويهرّبون ثرواتكم الى الخارج، ويغرقونكم في ديون ستقطع ظهر اولادكم والأحفاد؟ فهاجت الجماهير وقرَّرت الزحف ومحاصرة مجلس النواب، وقطع كل الامدادات عنه حتى يعيدوا الاموال المنهوبة أو يقضوا في داخله جوعاً وعطشاً غير مأسوف عليهم. وقبل لحظات من الانطلاق، تعالت الصفّارات المذهبية، كل واحدة منها تدعو أتباعها للاصطفاف خلف زعيمها وقائدها المفدّى. وفي لمحة بصر، تفرّقت الجموع. كل قطيع باتجاه. كل زعيم على رأس قطيعه، محمولا على الأعناق. وتوحَّدت الهتافات: بالدم بالروح نفديك يا زعيم.
لم يبق حول نسيب عريضة الا العشرات. فنظر الى الجموع الحاملة مذلِّيها على أكتافها، اغرورقت عيناه بدموع الأسى، فتمنى الموت الأبدي لنفسه وتمتم: يا أحفاد ال...، يا أولاد ال... يا... واختفى صوته تماماً. كاد أن يقع أرضاً لو لم تسعفه أيدي جبران ونعيمة وحدّاد وباقي رفاقه في الرابطة القلمية. قدَّموا له ديوانه "الأرواح الحائرة" الذي خرج من المطبعةَ بعد أيام قليلة من وفاته. فسرَّ به كثيراً. ولده الوحيد يراه لأول مرة. عادت الدماء تتدفق في الشرايين. فتحه على قصيدة كان قد قالها عن شعبنا منذ حوالي الثمانين عاماً وقرأ:
ذَلَّلوه قتَّلوه حمَّلوه فوقَ ما كان يُطيق.
رفع ناظريه فلم يرَ من الجموع الا أقفية الزعماء المرفوعين على الأكتاف فأكمل:
حَمَلَ الذلَّ بصبرٍ من دهورٍ فهو في الذُلِّ عريق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق