في العرض العسكري الضخم في ساحة "تيان إن مين" ببكين في الأول من أكتوبر الجاري والذي صاحب إحتفالات الصين بالذكرى السبعين لإنتصار الثورة الماوية وتأسيس جمهورية الصين الشعبية سنة 1949 لاحظ المراقبون، وبينهم المئات من العسكريين الأجانب، ثمة أمور غير مسبوقة في مثل هذه المناسبة السنوية التي تكشر فيها بكين عن أنياب جيشها الأحمر (ثاني جيوش العالم من حيث الإنفاق العسكري، الذي قدره معهد ستوكهولم لأبحاث السلام العام الماضي بـ 250 مليار دولار)
من غير المسبوقات، عرض الصين لمئات الأطنان من المعدات العسكرية الثقيلة (نحو 40% عرضت للمرة الأولى). واشملت هذه المعدات أسلحة متطورة مثل صواريخ باليستية نووية مدمرة بعيدة المدى، وطائرات استطلاعية مسيرة فائقة السرعة.
وقد توقف المراقبون طويلا أمام الصاروخ "دونغ فينغ 41" أو "DF – 41" المعروف بالوحش الصيني كونه الأبعد مدى من نوعه في العالم (يصل مداه ما بين 14 ــ 25 ألف كلم)، وبالتالي فهو قادر بسهولة على الوصول نظريا إلى الأراضي الأمريكية وضرب أهداف منتقاة، خصوصا وأنه يستطيع حمل 10 رؤوس نووية، ويمكن إطلاقه من منصات متحركة مثل الشاحنات والقاطرات خلافا للجيل السابق من الصواريخ التي كانت تطلق فقط من منصات ثابتة. ومما قيل عنه أن الصين شرعت في بنائه في الثمانينات وأجرت عليه الإختبارات سنة 2012، علما بأن مجمل برامج الصواريخ الصينية هو نتاج تعاون صيني ــ روسي بدأ قديما زمن الإتحاد السوفيتي، وحينما توقف التعاون لجأت بكين إلى شراء تصاميم روسية ونسخها وتطويرها رغم ما واجهتها من صعوبات.
كما توقف المراقبون أمام الصاروخ "دونغ فينغ 17" أو "DF- 17" الذي تزيد سرعته عن سرعة الصوت بخمسة أضعاف ويتراوح مداه ما بين 1800 ــ 2500 كلم، ويتميز بقدرته الفائقة على تضليل أجهزة الرادار من خلال إنطلاقه نحو الهدف على إرتفاع منخفض. لكن الأهم هو قدرته، عند بلوغه إرتفاعا معينا، على إطلاق طائرة شراعية حربية مثلثة الشكل تطير بسرعة 7 آلاف كلم في الساعة ويصعب اعتراضها او التكهن بمسارها.
وإذا كان هذا مؤشر على عقيدة صينية جديدة لبناء قوة عسكرية مهابة تبعد عن البلاد الأخطار التي ما برحت قيادة الرئيس الصيني الحالي " شي جينبينغ" تحذر منها في السنوات الأخيرة على ضوء تصاعد التنافس بين بكين وواشنطون، وقيام الأخيرة ببناء تحالفات آسيوية ضد الصين، فإن ظهور الرئيس الصيني في الاستعراض مرتديا بدلة المعلم "ماو تسي تونغ" الرمادية بدلا من الزي الغربي الذي حرص دوما على إرتدائه لإعطاء إنطباع للعالم الخارجي بأن بلاده لم تعد تنظر إلى الوراء منذ الإصلاحات الاقتصادية التي دشنها سلفه الأسبق "دينغ هيسياو بينغ" في السبعينات، معطوفا على رفع صور ضخمة له في هذه الهيئة تحديدا، لا تفسير له سوى الحنين إلى ماض أحاله الصينيون إلى خزائن التاريخ وأهالوا عليه التراب، ورغبة شخصية دفينة للرجل بالبروز كقائد أوحد ممسك بزمام الأمور بقوة لا حدود لها على النمط الماوي.
من الأمور الأخرى التي إستوقفت المراقبين أيضا، ووصفوه برسالة صينية موجهة للأمريكيين تحديدا مفادها "أنه إذا كان للولايات المتحدة حلفاء فإن للصين أيضا حلفاء"، هو مشاركة قوات رمزية من دول عدة في الاستعراض العسكري جنبا إلى جنب مع قوات الجيش الأحمر الصيني بأفرعها المختلفة. حيث شوهدت قوات تنتمي إلى روسيا وكوبا ومنغوليا، وقوات تنتمي إلى الدول التي تربطها بالصين مصالح ومنافع متأتية من مشروع طريق الحرير الذي رصدت له بكين مالا يقل عن تريليون دولار مثل: أفغانستان وباكستان وكازاخستان وقرقيزستان وطاجيكستان. إضافة إلى قوات أقل عددا من كمبوديا ولاوس وصربيا ومصر والمكسيك وبعض جزر الباسيفيكي التي أغرتها الصين بالمساعدات والوقوف سياسيا إلى جانب حكوماتها ضد المطالبين بالديمقراطية وحقوق الإنسان (مثل فيجي تحديدا) وفانواتو وجزر السالمون وكيبرياتي وكلها دول أعضاء في الأمم المتحدة، وقطعت علاقاتها مع تايوان بضغط صيني. أما الغائب الأبرز في العرض فقد كان الحليف الأقرب للصين وهو كوريا الشمالية، لسبب غير معروف.
وإذا ما عدنا إلى الأسلحة الثقيلة التي جرى عرضها في الإحتفال فإن الهدف منها كان القول بأن الجيش الأحمر الصيني قادر على تحدي القوة العسكرية الأمريكية المنتشرة في منطقة آسيا والباسيفيكي وما وراءها. فالصاروخان الباليستيان المذكوران آنفا يشكلان بالفعل تحديا للأمريكيين وحلفائهم الآسيويين، حيث يمكن، في أي عملية عسكرية سريعة ومفاجئة، أن يدمرا مراكز قياداتهم وسيطرتهم ومطاراتهم. ولعل في تصريح الجنرال "جون هيتين" نائب رئيس الأركان المشتركة للجيوش الامريكية والذي قال فيه حرفيا:"ليست لدينا دفاعات بإمكانها مواجهة نشر مثل هذه الصواريخ ضدنا" ما يشير إلى صعوبة الوضع بالنسبة للأمريكيين.
د. عبدالله المدني
*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي من البحرين
تاريخ المادة: أكتوبر 2019
البريد الإلكتروني: Elmadani@batelco.com.bh
عبارة الهامش:
ظهور الرئيس الصيني في الاستعراض مرتديا بدلة المعلم "ماو تسي تونغ" الرمادية (....) لا تفسير له سوى الحنين إلى ماض أحاله الصينيون إلى خزائن التاريخ وأهالوا عليه التراب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق