هل حقاً في بابلَ أسواق ٌ من نار ؟ نعم ولكنْ ، إنقلبت بابلُ بأهلها ودمّرها زلزالٌ مرعب بعد أن غزتها جيوش ممالكَ مجاورة فأحرقت ما أحرقت وقتلت من قتلت وسبت باقي الأحياء وخاصة النساء والأطفال كما كانت تقتضي تقاليد وجنون ذاك الزمان . إذا إنقلب كل شئ في بابل فما الذي يمنع إنقلاب الأسماء وشكل وترتيب الحروف في الكلمات ؟ الجزء يتبع الكل وكان التدمير والخراب عاماً شاملاً كلياً كما هو معروف . فلا عجبَ إنْ إنقلب الفعل ( رنا ـــ يرنو ) إلى كلمة ( نار ) والنار شقيقة الفعل رنا بل وتؤمه السيامي لأنَّ فيهما عين الحروف الثلاثة [ نون أليف راء ] . الآن يفهم القارئ الكريم ولا سيما القارئ الحلاوي والقارئة الحليّة إياها أصل ومغزى ( أسواق النار في بابل ) ... أسواق النار !! قف ْ ، نقطة إعتراض نظامية : من ترى يجازف بحياته فيدخل سوقاً من نار ٍ وما تخلّف النارُ إلا الرماد ؟ أدخلْ ... قالت له حبيبته ، أدخلها ... يا نارُ كوني على هذا العاشق العابد الولهان برداً وسلاماً . دخلتُ ، وكيف لا أدخل وقد أمرتني آلهتي أنْ لا أتردد وأن لا أخشى ناراً ولا حطباً ولا أسلحة دمار ٍ شامل ٍ ؟ أضافت إنه مجمع أسواق عصرية تجد فيه الإبرة والكومبيوتر والتلفزيون والثلاجة وباقات الورود الطبيعية فضلاً عن جناح الأثاث المنزلي والتحافيات وكل ما قد يخطر على بال المتسوّق . كومبيوتر تلفزيون ثلاجة ؟! كيف تعمل في الحلة هذه الأجهزة بدون كهرباء ؟ قالت لا تهنْ ولا تحزن يا هذا ، في بيوت أهل الحلة مولدات خاصة تبدأ العمل لحظة أنْ ينقطع عنها كهرباء الدولة المحصّنة بسور سليمان !! كم ساعةً في اليوم يا ربة َ الحلة وبابل َ تقطع دولتكم عنكم الكهرباء ؟ ساعتان لنا ، للشعب ، وأربع ساعات للحكومة أي وللذكر مثلُ حظ الأنثيين ... فالشعب لغوياً مذكر والحكومة أنثى أو خنثى وهذا هو الأصح (( ساعتان مقابل أربع ساعات أي ساعة للشعب وساعتان للحكومة أي 1 × 2 )) . ما شاء الله ما شاء الله ! تلكم هي القسمة الضيزى ... ما زال القانون القديم ساري المفعول حتى في زمان دمقراطية الكركري والمصقول والحامض حلو . عدتً إلى ربة بابلَ أسائلها عن أمور كثيرة لا أفهمها خاصة ً وقد غادرتُ الحلة َ منذ قرون سبقت طوفانَ نوح . سألتها : لمن تعود ملكية هذا المجمع الهائل الجديد ومن يقوم على خدمته وتمشية أمور زبائنه ؟ قالت لا أحدَ يدري ، بل ولا من أحد يتجرأ على وضع مثل هذا السؤال ، بل وليس لهذا السؤال من معنى . كل أمورنا في بلاد عراقستان أو سورستان تجري غامضةً في أغلب جوانبها ومن يسأل لا يجد جواباً على سؤاله . هكذا غدت حياتنا ولقد تعوَّدنا عليها أو الأصح قد روّضنا أنفسنا على تقبل الموجود والمفروض والمقسوم وعلى الدنيا العفاءُ .
قبل أن ننهي جولتنا المتعبة في شتى أجنحة أسواق نار بابلَ قلت فلأسأل الربّة [ تعمل نصف وقتها مديرة ً للأسواق مجاناً تشجيعاً لإقتصاد السوق الحر ] هل في سوقكم جناح خاص للدراجات الهوائية ؟ فتحت عينيها الجميلتين الكحيلتين ربة ُ بابلَ التي إنقلبت فجأة رأسمالية الهوى والقناعة ثم قالت : سؤالك يا غريبُ هذا وجيه . ليس لدينا بعدُ جناح خاص للدراجات الهوائية . سنفتتح من أجلك هذا الجناح حفاظاً على البيئة من التلوث ولا سيما الورود التي أنت قبل غيرك تعرف كم أحبها وطالما عملتُ مع حمورابي وزيرة ً للبيئة وصحة الحيوان . سنحذو حذو الصين وسننافسها في كثرة ما لدينا من دراجات هوائية تجوب شوارعنا وطرقنا .
رأيتُ أنَّ من اللائق أن ْ أقدم َ للملاك الذي أتى بي إلى هذا المجمع ـ أسواق النار ـ هدية ً باقة َ ورد ٍ غالية الثمن من المتوفر في بعض أجنحة هذه الأسواق . لم أسألها ليقيني أنها تعشق الورود الجميلة وتهوى أنْ أسميها : يا أغلى وأجمل وردة في الوجود وإنها حقا ً كذلك . إنحنيت أمامها وعرضتُ لها ما حملتُ بيديَ اليمنى لها من باقة ورود مختلفة الألوان والأشذاء فلم أجدها كما كنتُ أتوقع أمامي . غابت ربّة ُ بابلَ ووزيرة البيئة فيها . فتشت عنها في أجنحة المُجمّع ، مُجمّع النار ، فعثرت عليها في الجناح الخاص بالألبسة النسائية المستوردة خصيصاً من أرقى دور الأزياء الإيطالية . مددتُ لها يدي التي تحمل باقة الورود فصدت عنها وأشاحت بوجهها القمري الملائكي عني وراحت تدقق في بعض بدلات العرائس وتقارن بعضها مع مقاسات طول قامتها وسعة كتفيها وقطر خصرها فوقفتُ ذاهلاً حائراً صعقتني المفاجأة . هل أتت بي من أجل هذا الغرض ولا من شيء ٍ آخرَ عداه ؟ أن تختارَ لها بدلة عرس بيضاء اللون من الحرير وإكليل ماس وزمرّد أخضر ؟ ما علاقتي بعرسها خاصة ً وإني غير مسبوق بهذا الأمر ولم يجر ِ بيننا الحديث عنه لا الآن ولا في سالف الزمان ؟ إرتدت البدلة البيضاء وراحت تستعرضها أمام مرآة كبيرة تمتد من السقف حتى الأرض . سألتني ، وأنا ما زالتُ ذاهلاً كمن فقد نصف وعيه ، ما رأيك بهذه البدلة يا خطيب ؟ يا خطيب ؟ تلفتُ حولي عسى أنْ أجدَ مَن خاطبت سوايَ فإني لست الخاطب بل ولا أصلح أنْ أكون خاطباً ولا عريساً . لم أجد في كابينة تجريب مقاسات الملابس سوانا فسألتها وجلاً مستحياً من نفسي لا منها : هل وجهت مليكتي السؤالَ لي أم لسواي ؟ قالت مستنكرة ً وهل رأيتَ أحداً سوانا في هذا المكان الضيق الذي لا يتسع إلا لإثنين ؟ قلتُ مرتجفَ النبرات بل لا أرى إلاك يا سيدتي النبية . لا أرى نفسي ولا أريد أنْ أراها وأنا لم أزل هناك حيث كنتُ لأكثر من ثلاثين سنةً . قالت حسناً ، إنسَ نفسك ، كيف ترى هذه البدلة وهذا الإكليل ، هل يناسبانني أم ترى لك رأي ٌ آخر ؟ لا من رأي آخرَ لي سيدتي وحبيبة قلبي وعمري ، لا من رأي ٍ لي ، رأيكِ هو رأيي . ضيّقت عينيها الساحرتين المعبأتين بكل سحر بابلَ ثم قالت : هل أصلح زوجة ً لك ؟ وقعتُ على الأرض من شدة هول المفاجأة وصدمة السؤال وغرابته . رشت قليلاً من الماء على وجهي فأفقتُ متثاقلاً واهناً مغلوباً على أمري . أعادت السؤال إياه نفسه ولكن بنبرة رقيقة فيها الكثير من الإغراء الأنثوي فلم تحظَ مني بجواب . لا أجرؤ على القول نعم ولا أجرؤ على القول لا وتلك مصيبة المصائب : الوقوف محايدا ً بين الجنة والنار . تذكرتُ أنَّ إسم هذا المجمع هو أسواق النار في بابل . فإختيار النار أولى بي وأجدى . سأقول لها (( لا )) ... سيدتي وحبيبتي وربتي لا تصلحين !! بل أنا الذي لا يصلح لك زوجاً . فات زمن الزواج ومرَّ أكثر من قطار على سكك حديدي وعبرنا أكثر من جسرِ حديدٍ وإسمنت وخشبٍ وضاقت بي مضائق الدنيا وإحترقت السفن . رمت البدلة على الأرض وقالت سوف لن أتقبل بعد اليوم منك ورودك . خذها وقدمها لغيري من صديقاتك الأجنبيات. كف َّ عن مراسلتي وتوقف ْ عن تسميتي بالحبيبة والنبية والربّة. في بابلَ غيري الكثيرات من الربّات وأشباه الربات . عد ْ لصاحبتك عشتار آلهة الجنس والجسد والخصب والتناسل . إنها تصلح لكل الرجال حتى لو كانوا من أمثالك . عدْ إليها فأنت لا تليق إلا بها وهي لا تليق إلا بأمثالك . لم ترتدِ عشتارُ يوماً بدلة عرس ولا إكليل ماس ٍ وزمرّد أخضر . كل لياليها أعراس جنس رخيص وكل حياتها فوضى فما حاجتها للزواج أو الأكاليل ؟ يا حبي ، قلتُ خائفاً مرتعداُ ، لكني قدمتُ لك أغلى ورود بابل وآشور فرفضتيها مستنكفة ً قبولها من رجل يعشقك حد َّ الذوبان الصوفي الحلولي فيك ِ . رجل ٌ لا يسميك إلا ربتي ونبيتي وحبيبتي وكل أجدادي وتأريخي وحياتي . رجلً تغاضى حتى عن ماضيك حيث كنتِ شبيهة ً أو بدلاً من عشتار آلهة الجنس والتناسل وأنت تعرفين مَن هي عشتار تلك . حلّت فيك وحللتِ فيها حتى إنفصمتما ساعةَ وصولي بابلَ ممتطياً صهوةَ جواد أدهم ملبياً دعوة عشتار . أفلم ْ تكوني أنتِ بلحمك ودمك وصيفة ً لعشتار هذه ؟ أفلمْ تخدمي في بلاط الملك الجبار حمورابي كواحدة من سبايا بني إسرائيل في بابل ؟ أفلم ْ ترقصي وتغني مع غيرك من الراقصات والمغنيات في حفلات الملك الليلية الحمراء والخضراء وبقية الوان المجون والطرب ؟ نسيتُ ماضيك سيدتي وغفرت لكِ إذ أحببتك حباً سماوياً ساميا ً لا نظيرَ له ورفعتك في عيني وإحساسي إلى مقام النبيات والربّات . تدخل إلهُ بابلَ الأكبرُ السيد مردوخ فأسرَّ لي قائلاً : إنك يا غريبُ على حق بشأن هذه السيدة . أنا أشهد لك أني رأيتها مع غيرها من سيدات مجتمع بابل تغني وترقص وتعزف في الكثير من حفلات مجون صدام حسين وولده عَدي . ولا أرى من فرق ـ أضاف َـ بين الترفيه عن صدام والترفيه عن الملك حمورابي ولا بين مَن ترفه ُعن هذا وذاك !! الترفيه ترف ٌ والترف واحد لا متعدد الوجوه . تعكّرت الأجواء وتلبّدت السماءُ بالغيوم السود ثم تساقط المطر مدراراً فأطفأ نيرانَ مجمّع أسواق بابل . إختفيتُ هرباً من خوفي وعاري وسط الدخان الكثيف الأسود الذي ملأ المكان ولا أدري بعد ذلك مصير مَن أحببتُ حتى الوله والجنون . {{ حياتها أكثر أهمية ً من حياتي}}.
هل من عودة ثانية لبابل وأسواق النار فيها ولعشتارها البديل التي رفضت ورودي ثم أشعلت النار فيَّ وفي السوق الذي قادتني إليه ؟
أرسلتْ لي رسالة بالبريد الألكتروني تقول فيها : لا يا صديقي ، لم أرفضْ ورودك أبداً وكيف أرفضها من رجل عظيم ٍ مثلك ؟ وهكذا هي قاسية متجبرة في صحوها لكنها رقيقة جداً في منامها وعالم أحلامها فهل أتبعها وأصدقها في صحوها أم في حلمها ؟ مرة ً أخرى أجد نفسي حائراً بين خطي النار والجنة : عالم اليقظة وعالم المنام . اليقظة أقسى عليَّ من النوم !! صرتُ أحلم . أحلم أنها قالت لي : لماذا تسأل عن إسم رئيس جامعة بابل ، هل تنوي العودة ؟ لا أصدّق !! تعالَ وسو ِ معاملة تقاعدك . تعالَ لأراك . تعالَ كي نلتقطَ الصور في بعض متنزهات بابل ونتمشى في شوارعها . تعالَ كي ترى جنة العبير وبستان الخلود الملحقتين بحدائق قصري الملكي . تعالَ كي أُريك كيف يرقص نخيل بابل بهجة ً بعُرس مقدمك وكيف تهتز أمواج نهر الفرات طرباً لحضورك . تعالَ كي تراني كما أنا بشعري الكستنائي الناعم الحريري الذي أخذ الشيب يتكاثر فيه لتفكيري فيك وكيف أداري هذا الشيب ببعض الحناء . هل تعرف أو تتذكر الحناء ؟ أنا معجبة بك !
أجلْ يا حبيبة أعرف الحناء . كان في قديم الزمان رجل كبير السن أعمى يدور في درابين الحلة صارخاً بأعلى صوته : حنّة عَجم والقول عالتجروبة ... أي تجربة هذه الحناء هي المحك المعوّل عليه . لعل أبناء جيلي ومَن قبلنا وبعدنا يتذكرون هذا الرجل المسكين الذي يكسب قوتَ يومه وهو ضرير . لا تموت بابلُ ما دام فيها أمثال هذا الرجل الكادح الأعمى الشريف . إنها بحاجة لأمثاله عميانَ ومبصرين وليست بحاجة إلى آلهة وأرباب وملوك .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق