عاشقةُ الخطَّ في أمريكا الشمالية/ د. عدنان الظاهر


((جعلتني أعودُ لمخيّلتي أبحثُ فيها عن نفسي لم أجدها أكثرَ وضوحاً ونضجاً إلّا من خلال توصيفاتك لي. أنا لا أمانعُ ، إذا أحببتَ ، أنْ تُظهرَ إسمي عَلناً ... بالعكس، سيكون هذا شرفاً أحملهُ على اكتافي ما حييتُ . أنت حرٌّ بجغرافيتي إفعلْ بها ما تشاء . توقيع : فاطمةُ الزهراء . في رسالة منها لإبن مُقلة بعد أنْ فاتحها في أنْ يتخذَ منها موديلاً لرسوماته يعرضها ثم يبيعها والرزقُ مناصفةً بالتساوي )).

وصلت سيدتنا البتولُ مرسمَ الخطّاط ( إبن مُقلةْ ) فلم يصدّقْ عينيه وهو المُصّدَّق أبداً. تلعثم وتعثّرَ بأذيال جلبابه الواسع الفضفاض ولم يدرِ ما يقولُ ولا كيف يرحّبُ بهذه الزائرة التي خالها هبطت عليه من السماء العاشرة علماً أنه هو الذي دعاها لزيارته هناك وهو مّنْ أعطاها الكارد الخاص به وما فيه من معلومات تفصيلية حول عنوان البيت وأرقام تلفوناته الثابت منها والمحمول . عرض عليها في حينه في لقائه الأول معها خلال اللقاء التلفزيوني أنْ يتخذَ منها نموذجاً ، موديلاً ، يعرضه في معارضه القادمة ويتنافسُ به مع باقي كبار خطاطي ورسامي العالم من مختلف الشعوب والأقوام بما فيهم الإسباني بيكاسو والعراقي هاشم محمد الخطاط ورسام الكاريكاتير البغدادي الساخرالمعروف غازي وغيرهم من المشاهير . هكذا يتصرفُ بعض الناس حين يداهمهم أمرٌ مفاجئ جاء قبل موعده أو من غير موعد . قادها إلى حديقة داره وأعدَّ لها مائدةً جديرةً بها وبأمثالها من الضيوف الساميين . طلبت مع الطعام الشاي الأخضر مع النعناع واللوز كعادة أهل الشمال الإفريقي فكان لها ما أرادت . لزمَ الفنانُ الصمتَ طوال فترة الغداء إحتراماً للضيف السامي والعالي المقام تاركاً لها حرية التصرّف فإنْ شاءت تكلّمت وهي في الأصل والطبع قليلة الكلام كثيرة الإنصات ... وإنْ شاءت لاذت مثله بالصمت حتى يحين أوانُ الكلام وتنضجُ فُرصةُ تفتح القرائح والرغبة في الحديث . كان إبن مقلة الخطاط مبهوراً بها مسحوراً بما يرى غير مُصدِّقٍ حقيقةَ كونها وصلت القارةَ الأمريكية وإنها تجلسُ معه وتشاركه مائدةَ طعامه وإنها سوف تجلس أمامه موديلاً لم يرَ مثيلاً له من قبلُ لا في أمريكا ولا في الشرق الأوسط ولا في شمال إفريقيا ... لا بين البربر ولا في الأمازيغ . أرادَ أنْ يسألها هل وجدتْ صعوبةً في الوصول إلى داره ؟ إبتسمت فغرّدت البلابل واصطفقت الغصونُ وصدحت موسيقى وخيّلَ له أنْ قد حضر بيتهوفن وموتسارت وسيد درويش وفريد الأطرش بصحبة شقيقته أسمهان يمشي خلفهم الرسامُ الهولندي رمبرانت والفرنسي رينوار وفان كوخ مجدوع الأذن . أين فائق حسن ؟ سألهم إبن مقلة فقالوا بصوتٍ واحد : سيأتي بعد قليل بصحبة حافظ الدروبي وجواد سليم. قدّمهم للضيفة العزيزة فقالت عن الرسامين أعرفهم واحداً واحداً وطالما زرتُ بلدانهم ودخلت متاحفهم وشاهدت معروضات لوحاتهم . أما باقي الضيوف من مشاهير الموسيقى فموسيقاهم لا تفارقني ولا أفارقها وهي معي في النهار كما هي معي في الليل وخاصةً في ليالي الشتاء الطويلة حين أجلس أمام جهاز التلفزيون لعل صاحب الإنترفيو الذي جمعني وإبن مقلة ذات يومٍ أنْ يظهرَ فيه مرةً أخرى يقدّمُ بعض برامجه الذائعة الصيت . نشر الخطاطُ إبن مقلة شاشةً سينمائية واسعةً جداً في حديقة داره فذُهلَ الضيوفُ جميعاً إذْ رأوا صاحب الإنترفيو فيها يقابلُ الفنان مُصَدَّق الحبيب في بغداد يوجّهُ له السؤال الأول : ما سبب زيارتك بغدادَ والموديل الذي قد إخترتَ بعد أنْ وقعتَ في غرامه هناك في هذه الساعة ، في بلدك أمريكا ؟ قال شاحبَ الوجهِ مرتعدَ الفرائصِ والكفيّن : جئتُ لأصطحبه معي ضيفاً سامياً أرسمُ لوجهه نماذجَ كثيرةً منوّعةَ الهيئاتِ والحجومِ والقياسات مختلفة الألوان ثم أختار بموافقتها بالطبع واحداً منها أُشاركُ فيه في معرض دولي قادم ثم أعرضه للبيع في محلات سوذبي 
Sothbey
لبيع اللوحات الفنية في لندن وأتقاسم الأرباح معها 50 % 50 مناصفةً . تململت الضيفة الموديل مقرّبةً كأسَ شاي النعناع الأخضر من قرمز شفتيها فدارت الدنيا في رأس إبن مُقلة صاحب الضيافة ! الموديل المثالي ها هو ماثلٌ في بيته أمامه بحضور جمعٍ غفيرٍ من كبار الرسامين وملوك الموسيقى فكيف يزورُ مصدق الحبيب بغدادَ الجواري والف ليلة وليلة باحثاً عنها ليختارها أنموذجاً يرسمه لكي يبيعه في أسواق النخاسة لا أسواق الفن ؟ الفن ليس للفن ... الفنُ للحياة وفي خدمة أغراضٍ إنسانية ، قال رمبرانت رافعاً كأسَه وصوتَه معاً ، وليس للبيع والشراء وتزيين جدران الملوك والسلاطين والأثرياء . هزَّ بيتهوفن رأسه مؤيداً إعلان رمبرانت رغمَ أنه لم يسمعْ شيئاً مما قال الرسام الهولندي . كان الحَرَجُ واضحاً على قسمات وخطوط وجه البتول الموديل الأنموذج الذي أطار بعقول الفنانين كأنهم لم يروا في حياتهم مثلَ هذا الوجه وكأنهم لم يرسموا له ما يماثله أو يدانيه أو يضاهيه بل وكأنهم ما أمسكوا يوماً فرشاةً ولم يخلطوا لوناً ولم يعرضوا صورةً . مرّت حيواتهم سُدىً هباءً في هباء . نعم ، أحرجها ظهور مصدق الحبيب في بغداد يبحث عنها ليوقّعَ عقداً معها أمده عامٌ واحدٌ يتحملُ خلاله كافة نفقاتها الحياتية واليومية مع تأمينٍ صحيٍّ كاملٍ وسَكَنٍ عاليَ المستوى ثم يتقاسمان الأرباح التي تدرّها عليهما ما يبيعان من لوحات لها ولوجهها في شتى الأوضاع.
لكي يعالجَ حَرَجها ويُداريهِ قال لها إبنُ مُقلةْ  أمام بقية الضيوف : هل تفضلين يا مليكتي وخالقتي من جديد ، هل تفضلين العملَ مع ذاك الباحث عنك في بغداد أو العملَ معي هنا في الولايات المتحدة الأمريكية وأنا كما ترين في نعمةٍ وافرةٍ سابغة أمتلكُ داراً واسعة حولها حديقةٌ عامرةٌ وفي الكراج سيارتان من أحدث الطُرُز فماذا يملك ذاك الآخر الأستاذ الأكاديمي المهلوس الذي قضى عمره في تدريس الأولاد ولا يعرفُ أين أنتِ في هذه الدنيا . لم تستطعْ مليكةُ وساحرةُ الفنانين أنْ تعلّقَ أو أنْ تُجيبَ . كان واضحاً لبيتهوفن أنها تميلُ لذاك الآخر المثقف الأكاديمي وإنْ كان متواضعَ الحال إذا قورن بأوضاع الخطّاط الذي جمع ثروةً طائلةً يبيع ويشتري ويسمسرُ وثقافته محدودة . أطرقت السيدةُ المَهيبةُ إطراقةً طويلة وهي غائبة في تفكير عميق لا قرارَ له . حين تُطرق السيدةُ البتولُ تتدلى بعض خُصلات شعرها الكستنائيِّ الطبيعيِّ فتغطي جانباً كبيراً من جبينها العريض المستوي الفخور المُجلل بالكبرياء الخالي من التكبّر. أعبدُ هذه الملاك حين تغرق في التفكير . عالماها غريبان أشدّ الغرابة ، عالمٌ ظاهرٌ ملموسٌ يتحرّكُ وينطقُ ويمشي ويأكلُ الطعامَ ، ينفعلُ ويتألمُ ويكظمُ الغيضَ وقد يخرجُ عن طورهِ . أما عالمها الآخر فإنه أشدُّ غرابة وأبعدُ غوراً وأشدُّ تماسكاً وأكثرُ هيبةً . عالمها مزدَوَجُ الطبيعة، عالمٌ ملموسٌ محسوسٌ وآخرُ ليس مرئياً وغيرَ ملموسٍ. لها القدرة على دمجهما معاً وإحلالهما في جسد واحد حاضر ـ غائب ، متحرك ـ ثابت ، ناطق ـ صامت ، فاعل ـ مُنفعل ، مضيء ـ مُعتم ، ساحر ـ مسحور ، بشر ـ ملاك . أجلْ ، لفاطمةَ القدرة على جمع كل هذه المتناقضات وصهرها معاً في صهريج خفيٍّ سرّيٍّ حرارتُهُ كحرارةِ الشمسِ وأكثر . وحين تبردُ الشمسُ أو تغيبُ تتجلّى مليكةُ الفنِّ وسيّدةُ الفنانين لرائيها في أعظم وأروع صورةٍ مع ميلٍ قويٍّ للصمت وفي صمتها المزيدُ من قوّة السحرِ والمزيد من الغموض الآسر. جمالُها الآخّاذُ حصيلةُ جمع المزدَوَجاتِ والسحرِ الإضافيِّ ثم الجمال . لذا أحبّها صامتةً ففي صمتها خشوعٌ وصلاةٌ ونجوى ، وفي خشوعها أبديةٌ مطلقةٌ . لم تقطعْ في الأمر . طلبت مهلةً مناسبة لتفكّرَ فيه وتراجعَ مجمل أوضاعها الإجتماعية والشخصية والوظيفية فالخيارُ صعبٌ والبتُّ فيه أكثر صعوبةً . 
حين آوت لفراشها في حجرة نومها الخاصة إتصلت عبر الموبايل بالدكتور التائه في بغداد وعرضت عليه الأمر طالبةً رأيه وهل لديه رغبة فيها لأنَّ الرجلَ الآخرَ راغبٌ فيها . أجابها على الفور بما يلي : قضيّتُ عمري أبحثُ عن موديل يشبهك وها قد وجدتك فكيف لا أرغبُ فيك ؟ هذا أنا لكنَّ القرارَ قرارُكِ أولاً وآخِراً . قالت بل قد قررتُ وانتهى الأمرُ الذي كنتما فيه تختصمانِ . إني معك أيها الإنسانُ المثقفُ الفنانُ . إني معك فقيراً أكنتَ أم مُوسِراً ثريّاً . إني أقفُ مع وبجانب الإنسان لا مع المالِ والثروةِ والجاهِ . جوهرُ الوجود الأسمى لا من وجودٍ حقيقيٍّ له إلا في الإنسان الإنسان مثلك . قال ، وقد أغضىً حياءً ، أخجلني قولكِ هذا يا سيدتي ثم أضاف ، لكنك أنت الآنَ مع الخطّاط في بيته ضيفةً فكيف السبيلُ للوصول إليكِ سيدتي ؟ قالت لا من مشكلة في هذه المسألة . إما أنْ تتركَ بغدادَ ومفخخاتها وأحزمتها الناسفة وتأتي ثانيةً لهذا البلد الذي أنا اليومَ فيه ، أو أنْ أتركَ أنا هذا البلدَ المنسوفَ أصلاً وآتيكَ ملتحقةً بكِ في بغدادَ وخيرات دجلتها السابقة ! فكّرَ الفنان مُصَدَّق طويلاً وهو ينفثُ أدخنةَ سيجاره الذي يحملُ صورةَ كاسترو بلحية تشبهُ لحيته ... فكّرَ ونفثَ ثم فكّرَ وأعاد النفث الكثيف ثمَّ قال : هل لديكِ سيدتي مانعٌ في أنْ أستشيرَ صديقي صاحب الإنترفيو السابق الذي جمعني وإياكِ ذاتَ يومٍ فيه ؟ قالتْ لا مانعَ لديَّ ، أعرفُ رأيَ صديقك الثقة . قال لها تصبحين على خير يا مالكةَ زمامي ومليكتي وحبّي وموحيتي وإمامي .
أقفلتْ الموبايل ونامتْ لكنَّ صاحبَ ضيافتها الخطّاط إبن مقلة لم ينمْ . كانَ طوالَ وقت المكالمة التلفونية هذه يسترقُ السمعَ من خلالِ لواقطَ صوتيّةٍ سريّةٍ منصوبةٍ في أماكنَ مخفيّةٍ من حجرة نومها .   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق