قَبْلَ أَنْ يَرْتَعِشَ القَلَم.. ديوان شعر جديد للشاعر حسين مهنّا/ شاكر فريد حسن

عن مكتبة كل شيء في حيفا، صدر حديثًا للشاعر حسين مهنّا ديوانه الجديد بعنوان " قَبْلَ أَنْ يَرْتَعِشَ القَلَم "، ويأتي بعد سلسلة من الاصدارات الشعرية والقصصية والروائية.

حسين مهنّا شاعر مجيد، ومن حرّاس حركتنا الشعرية والأدبية وثقافتنا الفلسطينية الوطنية الملتزمة، يقطن في بلدة البقيعة المتربعة كالعروس على صدر الجليل الأعلى، ويتمتع بمنزلة ومكانة مرموقة وواسعة بين مجايليه، وفي الوسط الثقافي الفلسطيني.

هو عاشق الكلمة الجميلة الرقيقة الانسيابية، وشاعر القضايا الإنسانية والوطنية والطبقية والجمالية، وصاحب ثقافة تراثية واسعة، وفكر تقدمي تنوري ورؤية إنسانية واضحة، لا يحيد عنها. يمارس الكتابة الشعرية والقصصية والروائية منذ أواخر الستينات، ويحرص على كتابة الشعر الغنائي المموسق الطلي، محافظًا على أصول الشعر الكلاسيكي من وزن وقافية، فضلًا عن شعر التفعيلة والمنثور. ولقصائده وأشعاره نكهة فلسطينية وجليلية محببة، مطعمة بأريج أزهار الجليل، وصفاء عيون بقيعته.

وديوانه الجديد " قَبْلَ أَنْ يَرْتَعِشَ القَلَم " جاء في 95 صفحة من الحجم المتوسط، ويتضمن مجموعة من قصائده التي كتبها ونشرها في السنوات الأخيرة، متنوعة الاغراض والمضامين والموضوعات ذات الطابع الإنساني الوطني العاطفي والرثاء، وتحمل الكثير من أشجان الحب وهموم الوطن وأحزان الإنسان.

وعلى الغلاف الأخير يقول حسين مهنّا : " بهذه الرباعيات أكون قد أكملتُ مشروعي الشعري الذي بدأ أواخر سنوات الستين.. أتممته برضى تام على ما قدمته للمكتبة العربية من شعرٍ خاطب الذات والوطن والإنسانية.. رفيقي في طريقي صدق الإحساس وحُبُّ النّاس الذين لولاهم لكان الشعرُ زفرةً في الهواءِ لا يسمعها أحدٌ .. أدري أن لا تقاعد في الشعرِ، ولكنّي أحببتُ أنْ أنزل عن شجرته العالية وذراعاي قويتان، وعقلي يرى ما لا يرى، قاطعًا على الأيام طريقها برؤيتي عاجزًا، وقلمي يرتعِشُ في يدي .. سأظلُّ وفيًّا للغتي العربية آخذ من أعماقها ما طاب لي من لَآلِها وأنثره في حقل الأدبِ راجيًا أن يُعطي منتوجًا يكون قمحه أضعاف زُؤانِهِ ".

وكما في قصائد دواوينه السالفة، تتسم البنية الشعرية لدى حسين مهنّا في هذا الديوان ، بتعدد التلاوين الأصيلة، واختيار اللفظة الرقيقة العذبة، الايقاع الداخلي الحي، واللغة الرشيقة، والصور الشعرية الايحائية والمجازية الثرية المبتكرة، التي تفيض جمالًا فنيًا ونغمًا هادئًا وشجيًا ورونقًا تعبيريًا.

وهو ينقلنا في نصوصه إلى عوالم البلاغة التي تتقد عشقًا ودفئًا وحرارة وتصويرًا وايحاءات واستعارات وكنايات وتشبيهات لا أحلى ولا أجمل، وإلى عوالم مليئة بالعواطف والمشاعر الجياشة المتقدة.

وغني عن القول، أن تجربة حسين مهنّا في هذا الديوان عميقة الأبعاد، ملتحمة بالإحساس الشفاف الحميم العفوي الصادق، ويمكن للقارئ والمتلقي أن يستشعر، من خلال التدفقات الشعورية في نصوصه، بقوة العاطفة وجيشانها ولهيبها وروعتها.

ومن أجواء الديوان  اخترت قصيدته في عشق عروس الكرمل " حيفا "، حيث يقول:

حيفا تسيرُ مع الزَّمانِ،

فلا تشيخُ

ولا يحولُ رُواؤُها.

وتظلُّ حيفا قِبلَةً لِلعاشِقينَ

فلا تميلُ

ولا تبوحُ بِحُبِّها إلّا لِكرمِلِها

وبَحرٍ

عانقَ المُدُنَ القريبةَ والبعيدةَ

ثُمَّ عادَ لِكي ينامَ بحِضْنِها.

وتنامُ حيفا بعدَ أَن تغفو شوارِعُها

وتصحو قَبلَ أَن تصحو زوارِقُ صَيدِها.

ومَعَ انبِلاجِ الفَجْرِ تَغسِلُ وجهَها

بِشُموخِ كَرمِلِها

وترفعُ لِلسَّماءِ يدينِ طاهِرَتينِ

تدعو رَبَّها كي يَحفظَ الباقينَ من أَبنائِها

ويُعيدَ غيّابًا نسَوا أَن يأْخُذوا مَعَهُمْ

قُلوبَهُمُ..

فلا حُبٌّ يكونُ ولا أَمانٌ بَعدَها.

***

ونُحِبُّ حيفا واسمَها العَربِيَّ

رغمَ تبدُّلِ الأَسماءِ والدُّخَلاءِ

ظَلَّتْ تَكتُبُ التّاريخَ بالعربِيَّةِ الفُصحى

وتبني ما تَشاءُ منَ الصَّحائِفِ

والمدارِسِ

والكنائِسِ

والمساجِدِ

والمعابِدِ

والنَّوادي

والمقاهي

والمَلاهي…

أَقسَمَتْ أَن تَبتَني وَطَنًا عُروبِيًّا

على وطَنٍ تَشَوَّهَ بالرَّطانَةِ والهَجانَةِ…

أَقسَمَتْ أَن تُسدِلَ الأَسدالَ عن زَمَنٍ رذيلِ

وتُعيدَ ما تركتْ لنا الأَيّامُ من زمنٍ جميلِ.

***

حيفا عروسُ البحرِ لكنْ للمُتيَّمِ

بلسَمُ القلبِ العليلِ

وأَقولُها هَمسًا لِخوفي من عيونِ الحاسِدينَ،

أُحِبُّها..

وأُحبُّها..

ويُحِبُّ كَرمِلَها جَليلي.

حسين مهنّا يعيش قصيدته بكل خلجة ونبضة من خلجات ونبضات قلبه، يغازل حروفها، ويعانق كلماتها، كل همه هو قضايا الوطن والمسحوقين والكادحين والمعذبين في الأرض، والكلمة الرائقة الصادقة الهادفة النابضة من الاعماق، والمعبرة عن الإحساس والشعور الداخلي.

وفي المجمل، حسين مهنّا صوت شعري استثنائي خاص، مغرم بالقصيدة، ممسكًا بناصيتها بإشراقة زاهية، متخذًا من الالتزام منهجًا وطنيًا وطبقيًا صادقًا، في نقل مشاعره وافكاره وأحاسيسه، والتعبير عن الحالة الوطنية والهم والوجع والجرح الفلسطيني والألم الإنساني. استطاع شق دربه ومواصلة مسيرته الإبداعية بزخم شعري، وصدق في الأداء والبوح، والشفافية والرهافة والجمالية الفنية والعفوية والبساطة الآسرة التي يغلف بها قصائده. ولعلني على ثقة أن القارئ سيستمتع بالديوان مثلما استمتعت بقصائده المخملية الحريرية المنوعة.

وإذا كان صديقنا وشاعرنا حسين مهنّا قد أعلن تقاعده عن الشعر، فنحن نقول له " دخول الحمام ليس مثل الخروج منه "، فلا تترك الساحة والميدان لحميدان. إنني إذ ابارك لصديقي الشاعر حسين مهنَّا بصدور ديوانه الجديد، أشكره على هديته المتواضعة، التي أدخلت البهجة والغبطة لقلبي، متمنيًا له عمرًا مديدًا، وعطاءً وافرًا، وعاطاك ألف عافية يا أبا راشد على ما قدمت في مجالات الشعر والأدب والكفاح وسلك التدريس، ولك الحياة. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق