اتفاق واشنطون وبكين التجاري .. الشيطان في التفاصيل/ د. عبدالله المدني

جميل أن ينتهي عام 2019 وقد شهد منتصف شهره الأخير إتفاق واشنطون وبكين مبدئيا على إنهاء عشرين شهرا من الحرب التجارية بينهما، بكل ما صاحبها من تهديد ووعيد وأفعال وردود أفعال. هذه الحرب التي ظل العالم كله متخوفا من تداعياتها المدمرة ليس على طرفيها فحسب وإنما على العالم بأسره بسبب إرتباط الإقتصاد العالمي بشكل أو بآخر بكل ما يصدر من القوة الإقتصادية الأولى عالميا ممثلة في الولايات المتحدة، والقوة الإقتصادية العالمية الثانية ممثلة في الصين.
على أن المخاوف والقلق من حدوث إنتكاسة تعيد عقارب الساعة إلى الوراء، وهو إحتمال وارد بسبب إختلاف طبيعة النظامين الأمريكي والصيني وحجم تنافسهما على الساحة الدولية، يجعل ما تمّ الإتفاق عليه مجرد خطوة صغيرة في رحلة طويلة شاقة تحفها المصاعب، دعك من انعدام الثقة بين الطرفين وتوجس كل منهما من الآخر.
صحيح أن الطرفين أعلنا توصلهما، على قاعدة المساواة والمصالح المشتركة، إلى صيغة ينهيان بها حربهما، شملت موافقة واشنطون على تعديل ما تفرضه من رسوم جمركية على البضائع صينية المنشأ، بحيث تبقي على رسوم جمركية بنسبة 25 بالمائة على واردات تصل قيمتها إلى 250 مليار دولار، وتخفض الرسوم بنسبة 7.5 بالمائة على بضائع وسلع صينية أخرى تصل قيمتها إلى 120 مليار دولار، وتعليق فرض رسوم أخرى كانت مقررة، على أن تقوم الصين في المقابل بشراء كميات ضخمة من المنتجات الزراعية والطاقة والسلع الأمريكية المصنعة (قيل أن أثمانها قد تصل إلى 200 مليار دولار خلال عامين). ليس هذا فقط وإنما استجاب الصينيون أيضا، بموجب الإتفاقية، لطلب رئيسي ظل الرئيس دونالد ترامب يلح عليه شخصيا، معتبرا إياها في صلب شكاوي بلاده من سياسات بكين الاقتصادية، وهو أن تقوم الصين بإجراء إصلاحات هيكلية على نظامها الإقتصادي والتجاري والمالي، ولا سيما ما يتعلق بحقوق الملكية الفكرية ونقل التكنولوجيا والسياسات الزراعية والخدمات المالية ومسائل تداول العملة وأسعار صرف النقد الأجنبي.
وطبقا لما تناقله المراقبون وبعض المصادر الرسمية الصينية فإن الإتفاق يشتمل أيضا على نظام قوي لحل المنازعات والخلافات إذا ما حدثت، وأنه (أي الإتفاق) سوف يحمي مصالح الشركات الأجنبية العاملة في الصين مقابل منح الحماية القانونية للشركات الصينية في تعاملاتها مع الولايات المتحدة الامريكية.
كل هذا، بطبيعة الحال، أمر مفرح، خصوصا إذا ما نجحت المرحلة الأولى وانتقل الطرفان إلى المراحل التالية كما هو متفق عليه. غير أن الشيطان يكمن في التفاصيل. نقول هذا لأن الأنباء حول الإتفاق الأمريكي ــ الصيني اقتصرت على إحتوائه على تسعة فصول متعلقة بحقوق الملكية الفكرية، ونقل التكنولوجيا، والمنتجات الغذائية والزراعية، والخدمات المالية، وأسعار صرف النقد الأجنبي، والشفافية في التعاملات، والتوسع التجاري، وحل المنازعات. وبعبارة أخرى لم يتطرق الإتفاق كثيرا إلى  تفاصيل ما قبل به الصينيون في كل قضية من القضايا المشار إليها، الأمر الذي يترك الباب مفتوحا أمام كل طرف ليقدم تفسيراته الخاصة، وهو ما قد يعقد المسائل مستقبلا.
وقد لوحظ شيء من التباين والإختلاف سريعا، بل قبل أن يجف حبر الإتفاق. فالأمريكيون سارعوا للقول أن المفاوض الأمريكي حرص بقوة على أن يشتمل الإتفاق على آلية محكمة لتنفيذ ما وافق عليه الجانب الصيني لتفادي ما حدث سابقا عندما كانت بكين تعد ولا تنفذ تعهداتها حسب قولهم، مضيفين أن قيادة الرئيس ترامب وإصراره على الحصول على تنازلات من الصين لعبت دورا هاما في التوصل إلى الإتفاق. أما الصينيون فقد أكدوا من جانبهم أن أي تنازلات تمت الموافقة عليها كانت أصلا ضمن خطة البلاد لتعزيز الإصلاح الإقتصادي والاستجابة للحاجات الداخلية المتزايدة ومقتضيات التنمية الإقتصادية، والإرتقاء بالمتطلبات الإستهلاكية لأكثر من مليار وثلاثمائة مليون صيني، وذلك طبقا لتوصيات المؤتمر السنوي المركزي الأخير للعمل الإقتصادي الذي إختتم أعماله في  12 ديسمبر 2019 تحت القيادة المركزية الموحدة للحزب الشيوعي الصيني، وليس إستجابة لضغوط مارستها عليها الإدارة الأمريكية مثلما يحلو للأخيرة أن تردد في خطابها الإعلامي.
من جانبها، وفي السياق نفسه، ذكرت وكالة بلومبرغ أن فكرة توصل واشنطون وبكين إلى إتفاق تجاري على مراحل كانت من بنات أفكار الرئيس الصيني شي جينبينغ، وإنه قصد بها أن يقدم نصرا سياسيا لنفسه ولنظيره الأمريكي معا. بمعنى أن يتيح للرئيس ترامب فرصة الإدعاء أنه برفع الرسوم على المنتجات الصينية قد اجبر بكين على تقديم التنازلات المطلوبة، بينما يستطيع الرئيس الصيني في الوقت نفسه أن يبدو منتصرا هو الآخر من خلال القول أنه أجبر ترامب على خفض الرسوم التي فرضها على السلع الامريكية، وتعليق فرض رسوم جديدة.
د. عبدالله المدني
* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي من البحرين
تاريخ المادة: يناير 2020
الإيميل: Elmadani@batelco.com.bh

عبارة الهامش:
لوحظ شيء من الإختلاف سريعا، بل قبل أن يجف حبر الإتفاق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق