"لم يتم انجاز شيء عظيم في العالم من دون شغف"1[1]
لكي يصبح إنسان عادي بطلا شعبيا وينظر إليه الناس بإعجاب وتقدير لا يتطلب الأمر أن يهزم أصعب الجيوش ويحطم أعظم إمبراطورية وإنما يكفي أن يظهر شجاعته بإنقاذ حياة الآخرين المهددة لكي يحصل على هذا الشرف ويمكنه أن يشتغل على تحطيم بعض الأرقام القياسية في المسابقات الرياضية لينال ذلك.
يقضي البعض حياتهم بأسرها وهم يحاولون أن ينجزوا أمرا عظيما يدخلون به التاريخ من بابه الكبير ولكن ظنهم يخيب ويصطدمون بالعراقيل ومعاندة القدر وقد يصير العمل البطولي الذي قاموا به مجرد خرق لنمط المجتمع وخروج عن السياق العام للثقافة التي ينتمي إليها ويجني الخسران والإدانة والتبخيس بدل الإشادة والتثمين وفي المقابل قد يلقى عمل جزئي قام به شخص عادي نجاحا كبيرا ويحظى بالقبول والإعجاب من عدد كبير من الناس دون أن يكون القائم به قد وعد بذلك وكان ينتظر هذه المآلات السارة.
يتراوح العمل البطولي بين النجاح غير المنتظر والإخفاق الحتمي وبين الإعجاب المقترن بالدهشة والذم الناتج عن الاستغراب ويظل يتحرك في المباغتة وخارق للعادة ومتخلص من كل حساب وبرمجة مسبقة فمن لم يحلم في يقظته ولم يتمنى بأن يصبحا بطلا يسجل اسمه بأحرف من ذهب في كتب التاريخ؟ وكيف يصير الإنسان بطلا تاريخيا؟ وهل يقدر الشخص بمفرده على تغيير وجه التاريخ ومسيرة الشعوب؟ ومن يصنع البطل؟ هل تنبع البطولة من الصفات الذاتية للفرد أم وليدة ظروف اجتماعية وأحداث تاريخية؟
يمكن تعريف السلوك البطولي بوصفه تسلح المرء بالشجاعة قصد التمكن من تجاوز الخوف من الخطر المحدق واستعمال وسائل الفطنة والإرادة وقوة الشكيمة بغية التغلب على العراقيل وبلوغ الهدف المحدد.
حول هذا الإشكال نجد أطروحتين: أولى تقر باستحالة تحول الفرد إلى بطل دون وجود عوامل موضوعية والثانية تراهن على ذلك وتنطلق من واقع أسبقية الوجود على الماهية ومن حال الحرية في نحت المصير.
تتنزل مسألة البطولية ضمن معنى التاريخ وغائيته والأسباب التي تدفع بعض الأشخاص العاديين إلى أن يتحلوا إلى عظماء في نظر شعوبهم بفضل ما أنجزوه من أعمال وقاموا بهم من تضحيات وما بنوه من مؤسسات بالنسبة لبلدانهم ويكون ذلك على الصعيد العلمي والثقافي أو السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
بهذا المعنى ترتبط الدول بالزعماء والقادة والحكام وتتذكر الشعوب الشعراء والفنانين والرياضيين وتخلد الثقافات الصفوة من العلماء والأدباء والفلاسفة وتعتز المجتمعات بالرموز والملهمين والمبدعين والعباقرة.
تعد التضحية من أجل المصلحة المشتركة أحد المعابر نحو البطولة والتخليد وتعتبر الممارسة الإبداعية الشكل التعبيري الثاني عن العبقرية ويترتب عنه الإعجاب من المجتمع والاعتراف من الدول الأخرى.
بيد أن المحرك البديهي للعمل البطولي هما العقل النظري أي الذكاء البشري والعقل العملي أي الإرادة ويمكن أن نضيف إليهما العاطفة والانفعال والتعلق والشغف بوصفها حالات شعورية تدفع الشخص إلى التغلب على الصعوبات ورفع التحديات وبلوغ الغايات والانتصار على العراقيل ومعانقة الإبداع والتفوق.
إن الشغف هو الذي يحرك لدى الإنسان العادي الميل نحو المجازفة والإقدام والعزم على الفعل العسير وهو الذي يدفعه إلى التحمل والمكابدة بغية استكمال المسار وإتمام الفعل وبلورة المشروع وانجاز المطلوب وتحويل الغرض الشخصي إلى فائدة عامة والغاية الجزئية إلى غاية كلية والهدف الضيق إلى هدف كوني. كما يعتقد الناس أنهم ينجزون أفعالهم بذواتهم ومن أجل أنفسهم ومجتمعاتهم ولكنهم لا يعلمون كما يقول هيجل حيلة العقل ومكر التاريخ فهم مجرد وسائل وأدوات لغايات مطلقة وأفعال كلية ويحققون مصالح الآخرين، وبالتالي " من مصلحة الشعوب والأفراد الخاصة أن يسعوا إلى البحث على أنشطة حيوية والحصول عليها ، ولكن في الوقت نفسه هم وسائل وأدوات لشيء أكثر ارتفاعا وأكثر شمولا يتجاهلونه وينجزونه دون وعي"2[2]. إن تخطي المصلحة الشخصية وبلوغ المصلحة المشتركة يتطلب الالتزام والتضحية ويقتضي الانتقال من حالة استهداف الغاية الذاتية إلى حالة استهداف الغاية الكلية وبالتالي الرضا بوضعية الوسيلة والأداة بغية النضال في سبيل بلورتها على أرض الواقع وتحريض الآخرين عليها وتوجيه أنظارهم نحو تحصيلها. إن الإصغاء إلى حركة التاريخ والاندراج في المسار الذي يؤدي إلى المعنى من الوجود في العالم واكتساب القيمة يتطلب متابعة الأهداف الخاصة بالأفعال التي تقوم بها الذوات بمفردها وبمعية أغلبية المجموعة دون أن يستوجب ذلك اندراج الشغف في نظام عقلاني وقيام البطل بحركة إرادية وتصميم واعي بالمرام. كما لا يمكن استنساخ الحركة البطولية فهي وليدة ظروفها وبيئتها وعواملها الخاصة بها والتاريخ لا يعيد نفسه مرتين إلا في شكل ملهاة أو مأساة ويستحيل تقليد الملاحم والهام العباقرة وإنما الاكتفاء بالاقتداء بهم ويمكن التقريب بين تاريخ الأفراد وتاريخ البشر وبين التجارب الخاصة للشغف والتجارب الكلية للعقل. إذا كان الفعل البطولي نابع من اختيار مشترك ولتزم مجتمعي وتصميم جماعي فإن النتيجة تكون التوفيق والنجاح وإحراز النصر وتحقيق الممتنع وذلك بقهر الخوف والعجز والتطوع لفائدة الوطن وصاله العام. بهذا المعنى يكون الفعل البطولي ثمرة الحرية والتحكم في الذات وحسن التصرف مع العالم الخارجي وتنظيم العلاقة مع الأفراد الآخرين والتعويل على القدرات الذاتية واستثمارها مع قدرات المجموعة. ولا يقتصر الفعل البطولي على حماية الحياة الخاصة ولا يتعلق بالانتفاع الشخصي وطلب الشهرة والبحث عن المجد والجري وراء الألقاب واللهث وراء الربح والإصرار على مراكمة الثروة المادية بطرق ضالة بل ينبني على نكران الذات والفعل الحصيف والتسلح بالقيم الكونية والتمسك بالمبادئ والسير على الدرب والاستفادة الذكية من السير الذاتية للفاعلين في التاريخ والمصلحين الاجتماعيين والثوار المجددين والأنبياء المخلصين وقراءة إيقاع الأحداث وفهم قوانين التقدم ومبادئ التغيير ومنطق التاريخ ووجهة العالم الراهن. غاية المراد إن النزعة البطولية عند سارتر تتمحور في التزام الفرد من خلال الفعل باتخاذ قرار وجودي يتحمل بمقتضاه مسؤوليته إزاء التاريخ والإنسانية ويمضي في انجازه دون أن يبالي بالمحن التي يتعرض لها والمخاطر التي يواجهها وبالصعوبات التي تواجهه وأن يستبسل في الدفاع عن خياره الحياتي ويجد في استكماله. والحق أن قيمة الفعل البطولي تعود إلى حماية الحياة لدى الآخرين وتشجيعهم على نيل حرياتهم والدفاع عن كرامتهم ولا تقتصر على تحقيق مصالح الذات وبلوغ نتائج فورية ترضي أنانية الإنسان عبر وسائل سهلة ومتاحة. في هذا السياق يقارن سارتر بين البطل والجبان:" ما يريده الناس هو أنك ولدت جبانا أو بطلا. يتم صياغة أحد الانتقادات التي نصدرها غالبًا لطرق الحرية ، على النحو التالي: ولكن في النهاية ، هؤلاء الأشخاص الذين هم أغبياء جدًا ، كيف ستجعلهم أبطالًا؟ هذا الاعتراض يضحك إلى حد ما لأنه يفترض أن الناس يولدون أبطالاً. وهذا هو ما يريده الناس في الأساس: إذا ولدت جبانا ، فستكون هادئًا تمامًا ، ولا يوجد ما يمكنك فعله ، وستكون جبانا طوال حياتك ، مهما فعلت ؛ إذا ولدت بطلاً ، فستكون هادئًا تمامًا ، وستكون بطلاً طوال حياتك ، وستشرب مثل البطل ، وستأكل مثل البطل. ما يقوله الوجودي هو أن الجبان يصبح جبانا، ويصبح البطل بطلا؛ هناك دائمًا احتمال لم يعد الجبان جبانًا، وأن يتوقف البطل عن أن يكون بطلاً. ما يهم هو الالتزام التام ، وهذه ليست حالة معينة ، إجراء معين يرتكبها تمامًا"3[3]. فإذا كان هيجل يعتبر الحركة البطولية مسجلة ضمن منطق التاريخ الذي يتجاوز الإرادات الفردية بحيث تغيب الصدفة وحرية الاختيار وتحضر مشيئة التاريخ وحيلة العقل فإن سارتر يمنح الكائن الإنساني شرف المحاولة بأن يضع البطولة والتجاوز والتفوق مشروع حياته والتزام نضالي يجرب فيه التحرر والإبداع. في نهاية المطاف أليست الرسل والأنبياء والزعماء والحكام والقادة كانوا في البدء مجرد أناس عاديين ولكن الضرورة التاريخية ونداء الوجود اصطفاهم لأدوار البطولة ودفعتهم الأزمات إلى معانقة القمة؟ ولماذا لا يكون من الممكن بالنسبة للأبطال أن يختاروا الصيرورة الإبداعية التي ينتصرون بها على الجبن ويكونوا أبطالا؟ ألم يكن ماركس على حق لما جعل التغيير الجذري من مهام الفعل المشترك ضمن البراكسيس الجماعي؟
الإحالات والهوامش:
[1] Hegel G WF, la Raison dans l’histoire 1830, traduit par Kostas Papaioannou, édition Polin, collection 10-18, Paris,1965, p109,
[2] [2] Hegel G WF, la Raison dans l’histoire 1830, op.cit. p110
[3] Sartre Jean-Paul, l’existentialisme est un humanisme, le lâche et l’héros, 1946. édition Gallimard, Paris, 1996.
المصادر والمراجع :
Hegel G WF, la Raison dans l’histoire 1830, traduit par Kostas Papaioannou, édition Polin, collection 10-18, Paris, 1965.
Sartre Jean-Paul, l’existentialisme est un humanisme, le lâche et l’héros, 1946. Édition Gallimard, Paris, 1996.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق