Abū Ğalāl’s Story -The Ring
جامعة هلسنكي
في ما يلي ترجمة عربية لهذه القصّة، التي رواها يوسف بن عفيف بن فيّاض (زبولن) لطيف (ألطيف) الدنفي (١٩٤٠ - ، من مثقّفي سامريي جبل جريزيم، مُتقن لتلاوة التوراة، شاعر ومفسّر) بالعربية على مسامع الأمين (بنياميم) صدقة (١٩٤٤- )، الذي بدوره نقلها إلى العبرية، نقّحها، اعتنى بأُسلوبها ونشرها في الدورية السامرية أ. ب.- أخبار السامرة، عدد ١٢٤٨-١٢٤٩، ١ أيلول ٢٠١٧، ص. ٤٢-٤٥. هذه الدورية التي تصدُر مرّتين شهريًا في مدينة حولون جنوبي تل أبيب، فريدةٌ من نوعها ــ إنّها تستعمل أربع لغات بأربعة خطوط أو أربع أبجديات: العبرية أو الآرامية السامرية بالخطّ العبري القديم، المعروف اليوم بالحروف السامرية؛ العبرية الحديثة بالخطّ المربّع/الأشوري، أي الخطّ العبري الراهن؛ العربية بالرسم العربي؛ الإنچليزية (أحيانًا لغات أخرى مثل الفرنسية والألمانية والإسبانية والبرتغالية) بالخطّ اللاتيني.
بدأت هذه الدورية السامرية في الصدور منذ أواخر العام ١٩٦٩، وما زالت تصدُر بانتظام، تُوزَّع مجّانًا على كلّ بيت سامري من المائة والستّين في نابلس وحولون، قُرابة الثمانمائة نسَمة، وهناك مشتركون فيها من الباحثين والمهتمّين في الدراسات السامرية، في شتّى أرجاء العالم. هذه الدورية ما زالت حيّةً تُرزق، لا بل وتتطوّر بفضْل إخلاص ومثابرة المحرّريْن الشقيقَين، الأمين وحُسني (بنياميم ويفت)، نجْلي المرحوم راضي (رتْسون) صدقة (٢٢ شباط ١٩٢٢ــ٢٠ كانون الثاني ١٩٩٠).
”أبو جلال التَّكْروري
إسْمع، إنّي لم أتعرّف على يوسف بن حبيب بن يعقوب صدقة الصباحي المكنّى يالتكروري أو بأبي جلال التكروري، إذ أنّه رحل عن هذا العالَم قريبًا من ولادتي، إلّا أنّني سمعت الكثيرَ عن أخبار أفعاله ومغامراته. كان عمّي خليل فيّاض (أبراهام زبولن) يروي لي الكثير عنه، وكانت عيناه تلمع تقديرًا عظيمًا لفطنته وقُدرة دهائه. كان يعرِف الخروج من مآزق، حالات معقّدة، في حين عجِز الآخرون عن ذلك.
هكذا، كان بارعًا ومفْعمًا بحكمة الحياة، بحسب وصف عمّي. إنّ القصص الكثيرة التي سمعتُها عنه ملأت قلبي تقديرًا لرجل عرف تدبّر الأمور، كما يقال، في أوقات عسيرة جدًّا عاشها السامريون. يجب ألّا ننسى أنّ حياة السامري في عشرينات وثلاثينات وأربعينات القرن العشرين، لم تكن ذاتَ قيمة في السوق النابلسي. في أحداث تلك العقود، لا أحدَ كان يودِع تعريفة لكفالة حياة السامري. بالكاد كان أبناء السامريين يحصُلون على الطعام واللباس.
حسناً، ذات يوم، قعد بعض وُجهاء نابلسَ كحافظ أره وجمال عبد الهادي وبعض أصدقائهما في الساحة الواسعة التابعة للمنشية [اليوم مكتبة بلدية نابلس]، ولعبوا الشدّة (ورق لعب). ومن ضمن تلك الشِّلة كان أبو جلال التكروري. لماذا دعوه التكروري؟ بسبب حسد بعض السامريين. في الواقع، هكذا لقّبوا أباه حبيب صدقة الذي كان هو وأخوه مفرج (مرحيب) بن يعقوب صدقة في القرن الماضي، الغنيين نسبيًا الوحيدين في الطائفة السامرية. وفي تلك الفترة عُرف ثريّ عربي من عائلة التكروري. وهكذا أطلق السامريون كُنية التكروري على حبيب بن يعقوب صدقة الصباحي، وظلّت هذه الكُنية ساريةً على كلّ نسل/دار حبيب صدقة، في حين أن ذُرِّيَّة أخيه مفرج بن يعقوب صدقة الصباحي، دُعيت باسم دار فرج. ومن القِسم الثالث دار نمر (بيت أريه)، بقيت عائلة واحدة وهي من نسل نمر بن سلامة الصباحي.
دَعْنا نرجع إلى القصّة التي بدأنا بها. في لُعبة الشدّة التي حضرها أبو جلال التكروري، أي يوسف حبيب، خسِر الوجيه جمال عبد الهادي مبالغَ ماليةً طائلة، نفِد كلُّ ما في الصُّرّة التي كانت مربوطةً على جسمه. وقد تغلّبت شهوته للعب على منطقه، وفي مصيبته وضيقه هذا، رفع رأسه ملتفتًا هنا وهناك، رأى أبا جلال السامري جالسًا في رُكن الغرفة يتفرّج على لَعِب الشدّة.
وبما أنّ أبا جلال تاجر وبائعُ أقمشة، لم يخلُ القرش من جيبه، على الأقلّ بكميات غير كبيرة. طلب جمال عبد الهادي من أبي جلال إقراضَه خمس ليرات إنچليزية، لمتابعة اللعب على أمل استرجاع كل ما خسِره. نزع جمال عبد الهادي خاتَمه من على إصبع يده اليمنى وقال لأبي جلال: ”ها هو خاتَمي هذا، أعزُّ عليّ من كلّ شيء آخرَ في حَوزتي، خُذه رهينةً ريثَما أسُدّ الدين.“
كان أبو جلال مستعدًا أن يُقرضه المال حتّى بدون إيداع رهينة، إلّا أنّ جمال عبد الهادي أراد أن يُظهر بهذه الإيماءة مكانته المرموقة بين الناس؛ إيداع رهينة ذات قيمة مالية وعاطفية، مقابل خمس ليرات إنچليزية، وهذا مبلغ هائل في تلك الأيّام. مسألة استرجاع جمال عبد الهادي لما خسِره أم لا، لا تهُمّ قصّتنا؛ المهمّ ما قام به أبو جلال التكروري من أفعال.
الحَذَر مُلْزِمٌ
تاجر أو غير تاجر، نزَل أبو جلال في اليوم التالي إلى السوق، إلى دكّان الصائغ طالبًا معرفة في ما إذا كانت الرهينة، الخاتم، تساوي مقدار القرض الذي أقرضه لجمال عبد الهادي. فحص الصائغ خاتم جمال عبد الهادي وخلُص إلى القول فورًا: قد تكون للخاتم قيمة كبيرة عاطفيًا، أمّا بخُصوص القيمة المالية فالحالة معاكسة ”بتعريفة واحدة تستطيع أن تشتري عشرة خواتم كهذا من الدكّان المجاور“ - قال الصائغ لأبي جلال المنذهِل.
وفجأة استفاق أبو جلال من ذهوله وشعر بعقله الباطن بأنّه قد خُدع والشرّ قادم، وقع ضحية مكيدة؛ لم يكن جمال عبد الهادي ينوي إعادة ماله. كان باستطاعته أن يدّعي دائمًا بأنّّه قد أعطى أبا جلال مقابلًا مناسبا. ثلاثة نهارات وثلاث ليالٍ لم يذق أبو جلال طعم الراحة، وهو يتشاور كيف يمكنه استرجاع ما خسِر. خبّأ خاتمَ جمال عبد الهادي في جيب مِعطفه. وبمرور كلّ لحظة زاد وزن الخاتم؛ أبو جلال كان منشغلًا بالأفكار في هذه الأيّام، إلى أن أشرق وجهه على حين غِرّة.
تمرين لامع
نزل إلى المقهى المجاور للمنشية، حيث يتجمّع كلّ وُجهاء المدينة وزلمهم (لاحسو صحونهم). كان عابسَ الوجه لدرجة أنّ كلّ منِ ٱلتقاه كان يسأله - ماذا جرى لأبي جلال وجعله حزينًا إلى هذا الحدّ؟ دخل أبو جلال المقهى وجلس بجانب شخص لا أستطيع أن أتذكّر اسمه، وكان مقرّبًا من جمال عبد الهادي، من محدّثيه وروّاد بيته. وامتاز ذلك الشخص بخَصلة ”كاتم للسرّ“ بارز ، هذا على سبيل التهكّم؛ كان بالفعل أكبرَ واشٍ ومثيرًا للخصومات. وإذا كنت تكشِف له سرًّا ما، كان قادرًا على الوشاية بك قبل إنهاء كلامك؛ هكذا كان ذلك الإنسان.
عندما لاحظ الواشي، المخبرُ أنّ وجهَ أبي جلال ليس كعادته، سأله للتوّ عن السبب. في البداية، رفض أبو جلال أن ينطِق بكلمة حول كنه مزاجه المغتمّ القاتم، ولكن في النهاية، وبعد محاولات الواشي المتكررة لإقناعه والوعود والأقسام بذقن النبي بكتم سرّ أبي جلال، قبِل أبو جلال أن يكشِف سرَّه الكبير بصوت منكسر محطّم من شدّة القلق والحزن.
” إلى أين أروح وإلى أين آتي. حدث لي حادث حزين جدّا؛ إنّك تعرف السيّد الفاضل جمال عبد الهادي، أودعني خاتمه رهينةً لقرض أعطيته إيّاه، وها حلّت بي المصيبة العظيمة اليوم في ساعات الصباح. تبيّن لي أنّي فقدتُ الخاتم. كلّ محاولاتي للعثور عليه لم تنفع. قُل لي يا صديقي العزيز الآنَ، ما العمل؟ عِدني فقط بألّا تُفشي مصيبتي، لأنّه لو علِم جمال عبد الهادي بأنّي ضيّعت خاتمه لقتلني. ساعِدْني يا صديقي!“، أنهى أبو جلال كلماتِه هذه باكيا.
هدّأ الواشي أبا جلال، وأقسم بأنّه لن يُفشي شيئًا لأحد احترامًا للصداقة بينهما. وألحّ على أبي جلال في الاستمرار في البحث عن الخاتم، ولكنّ الثاني أكّد أن لا أملَ في العثور عليه. لم تمض عدّة لحظات والخبر قد وصل جمال عبد الهادي. ولكي ينال البقشيش همس الواشي بأُذن جمال ”سرّ“ أبي جلال؛ ربّت جمال على كَتِف الواشي وأعطاه هديّة جميلة.
في المساء ذاته، استُدعي أبو جلال إلى بيت جمال عبد الهادي، ودُعي أيضًا أصدقاء جمال الكُثر ليكونوا شاهدين على القسوة التي سيُنزلها على أبي جلال لأنّه أضاع خاتمه ”الثمين“. بعد تُبادل التحايا المعتادة، أخرج جمال عبد الهادي خمس ليرات إنجليزية من حِضنه ونادى أبا جلال: ”يا أبا جلال، تَشكراتي لك على قرضك السخيّ، إنّي رجل محترم وعليّ سدّ الدين، خذ مالَك وأعِد لي خاتمي!“
تسلّم أبو جلال ماله، تفحّصه بمهنية وتظاهر بهلع مفاجىء. أصدقاء جمال عبد الهادي المفسِدون ضحكوا فرحين بشماتة، أمّا جمال فكان قد أعدّ سلفًا سوطًا ليستخدمَه في العِقاب لإضاعة الخاتم، ناهيك عن الغرامة المالية. ”ماذا حدث؟“، سأل جمال عبد الهادي أبا جلال التكروري الذي كان يبحَث بيأس في جيوب معطفه القصير - ”هل أضعتَ الرهينة؟“، سأل مُجدّدًا بصوت يُنذر شرّا.
”لا، إنّي وجدتُه“ - أجاب أبو جلال فرِحًا وبصوت عالٍ، ”كان كلّ الوقت في الجيب الصغير الأعلى، ولم أعرف إلى أن دسستُ الليراتِ الخمسَ التي أعدتَها إليّ، ها هو خاتمك، تفضّل “، ناول أبو جلال جمالَ عبد الهادي الخاتم. ”غلَبتَني، يا أيّها السامريّ“ - أعلنَ جمال عبد الهادي وانطلقت ضَحْكات أصحاب جمال، ونظروا إلى أبي جلال الحكيم نظرةً كلها تقدير واحترام“.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق