أكثر من 11 عامًا على اغتيال الباحث العراقي التقدمي كامل شيّاع، حدث كما كتب حسام السراي كان مفصليًا في الحياة الثقافية العراقية بعد أبريل 2003 لجهة الأبعاد التي حملتها هذه التصفية لأحد الحالمين بعراق آخر غير الذي وصل إليه اليوم.
أول هذه الأبعاد هو قتل مثقف مغترب عاد إلى بلده بعد طول هجرة وغياب، محاولاً الإسهام في بناء مشهد ثقافي جديد عبر منصة مستشارًا لوزارة الثقافة، وثانيهما يتمثل باستحالة التجاور والتشارك في أحيان كثيرة بين العلماني – المدني والأصولي بكل أشكاله وتمظهراته، وإن حدث ذلك لن يسمح لأمثال كامل يلعب أدوارًا كبرى وإحداث تغييرات على الصعيدين السياسي والاجتماعي ايضًا آخر بُعد تُلخصه صورة كامل وقميصه مدمّى على طريق سريع في بغداد 23 أغسطس 2008 بما عنته من سهولة القتل في تجربة العقد ونصف العقد الماضية في بلاد الرافدين، منذ أول مثقف جرت تصفيته هو المفكر قاسم عبدالأمير عجام (2004) وصولاً إلى آخر شهداء الثقافة العراقية الروائي علاء مشذوب (2019).
كتب سراي عن هذا الحدث أو جريمة الاغتيال في الاندبندت عربية لكن الذكرى الحادية عشرة على اغتيال شيّاع وحلمه ببلده تمر ومعها تصدر دار المدى ثلاثة كتب ضمن سلسلة إصدارات للفقيد، الكتاب الأول «تأملات في الشأن العراقي» الذي يبحث فيه مآلات البلد وتحولاته في ظل «العنف الذي اجتاحنا بقوته الكاسحة دفعة واحدة»، إذ ترد على ظهر الغلاف الأخير هذه الجملة العميقة: «نحتاج إلى يقظة أخلاقية مسؤولة وإلى أجيال وأجيال تمتلك ناصية التفكير النقدي، ذلك إن (أعداء المجتمع) هؤلاء هم بناة مستقبله»، والكتاب الثاني: «قراءات في الفكر العربي والإسلامي»، مناقشاً فيه «التجديد المتبادل في الخطاب القرآني بين العقلانية واللاعقلانية.. وكيف يبدو التاريخ في ضوء هذا الصراع وكأنه تعاقب متوتراً في الهداية والضلال»، أما الثالث فجاء بعنوان «الفلسفة ومفترق ما بعد الحداثة» إذ بحث مضمونه في الأفكار الفلسفية التي شغلت أوروبا ودور مدرسة فرانكفورت وتأثيرها ومن ثم اشتباك التاريخ مع أسئلة الحاضر، وعلاقة أفكار ما بعد الحداثة بالايديولوجيات الكبرى.
في كتابه الثاني «قراءات في الفكر العربي والإسلامي» تضمن رؤى عن مفهوم العقل في الإسلام، وثوابت لنقد العقل السياسي، وإشكالية الفكر العربي المعاصر، والإسلام والأخلاق والسياسة، وهل غيّرت العولمة مدار أسئلتنا الثقافية، وعن أسئلة النهضة والتنوير، وهل تحتوي الديمقراطية الصراع الأثني وغيرها.
وعن العنوان الأخير هل تحتوي الديمقراطية الصراع الأثني والذي سنتوقف عنده - كمثال أو نموذج - يقول في مقدمته لاشك إن قدراً غير قليل من الخطأ صاحب الاعتقاد بأن سقوط نموذج الدولة الشمولية هو تأكيد قاطع لصلاحية نقيضها وخصمها اللدود أي نموذج الدولة الليبرالية، ووجه الخطأ هنا أن حسم الرهان لصالح ايديولوجية على حساب أخرى قد آذن بفتح باب التحدي للفكرة المشتركة للنموذجين. يعني هنا فكرة الدولة المركزية القومية أو فوق القومية والتي في رأيه تؤطر المجتمع إما بفعل القوة والزجر أو بفعل الإجماع الحر، وهذا التحدي لم يصدر ظاهراً، عن فكرة تحررية من النوع الذي اشتق من عقلانية عصر التنوير، وإنما عن فكرة «اركيولوجية» ما قبل حداثية تخص الولاءات التقليدية الموضعية، وتجد تعبيراتها في صراعات لم تنحصر في رقعة جغرافية محددة بين أقليات أو أكثريات حول مسائل لغوية أو دينية وعرقية وقومية، ففي البلدان الغربية مثلاً ظهر أن احترام الحقوق الفردية لم يكن كافياً لتطمين المطالب العرقية والثقافية للأقليات، وعلى هذا الأساس ارتكزت حجة دعاة ما يسمى بسياسة الهوية أو الاختلاف التي تفترض أن المجتمع مكوَّن من جماعات متمايزة ثقافياً وليس فقط من أفراد متساوين حقوقياً، المشكلة المطروحة إذن تتعلق بتمثيلية الدولة للمجتمع في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، أو بعبارة أخرى فإنها تتعلق بكيفية التوفيق بين واحدية الدولة وتعددية المجتمع، فإذا منحت أسبقية للأولى على الثانية فسينتهي الأمر إلى تبرير نظام غير ديمقراطي أو شمولي في أسوأ الحالات، وإذا حدث العكس فمن سيحمي الجزء من «امبريالية» الجزء؟ ولمقاربة هذه المشكلة نظرياً ومعالجة تجلياتها الساخنة في العديد من بلدان أوروبا الشرقية وآسيا وافريقيا يستعرض شيّاع كتاب «التعدد وتحديات الاختلاف» الذي جمع اثني عشر مقالاً لعدد من المختصين في علوم الانثروبولوجيا والاجتماع والسياسة، فيقول عن الأول يدرس «كليفورد غيرتز» علاقة التعارض بين الولاءات المدنية والولاءات التقليدية، والتي يسميها الباحث المعروف بالوشائجية، ويقصد بها «معطيات الجوار المباشر وصلة القرابة أساساً» وما يترتب عليها من «الولادة في مجتمع ديني معين أو التحدث بلغة معينة» خلاف الصراع الطبقي الذي يمكن أن يؤدي إلى ثورة، فإن التكتل على أساس العرق أو اللغة أو الدين قد يفرض إعادة رسم حدود دولة واحدة أو أكثر، إنه في الواقع مكنون قابل للتسييس وحقيقة تبلورت على مدى قرون بما يجعل الاعتراف بها وتدجينها من أولى مهام السياسة المدنية للدولة القومية.
النجاح في هذه المهمة التي يشخصها «غيرتز» من خلال أمثلة ملموسة. لتباين أشكال الولاءات في مجتمعات اندونيسيا وماليزيا والهند ولبنان ونيجيريا والمغرب، سيهيئ لنشوء أمم من تكتلات أثنية أو لغوية أو قبلية، وشرط استقرار الدول التي استعارت مؤسساتها أو هياكلها السياسية من الخارج يكمن إذن في تحديث وليس سحق الولاءات التقليدية، وربما يكون القول بالارتقاء بالروابط الحصرية للجماعة لتكوين أمم مركبة مجرد أمنية لأنه قاد في بعض الحالات إلى فصل سياسي بين الهويات الأثنية / الثقافية المثال الكلاسيكي لهذا الاحتمال يتمثل بقيام دولة باكستان التي سبقت ظهورها على الخارطة السياسية جهود قامت بها النخب لإنتاج هوية متميزة للمسلمين قوامها مبادئ الشريعة واللغة الأوردية.
في بعض التجارب الأفريقية، كما يحللها «دونالد هيروتيز» لم تيسِّر الهويات تطوير عملية الديمقراطية وتحول أسلوب الانتخابات إلى ترتيب شكلي لاستبدال هيمنة القبائل على بعضها، أما إذا نظرنا إلى الديمقراطية من زاوية أكثر جدية فلا خيار من البحث على تسويات تفاوضية تهتدي بفكرة العقد الاجتماعي ليس بين أفراد أحرار كما تصوره جان جاك روسو، ولكن بين جماعات متمايزة تنسى مصالحها الخاصة آنياً لتضمنها على المدى البعيد.
إن المطلوب هو إرساء مؤسسات توفيقية لجعل الدولة أكثر تعبيرًا عن التنوع الأثني والثقافي للمجتمع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق