بمناسبة اليوم العالمي للسرطان، جئنا نـحـدد بــالأرقــام حـجـم الـتـقـدم فـي معالجة الأمـــراض الـسـرطـانـيـة. فــي تـقـريـر نـشـرتـه حديثاً الجمعية الأميركية للسرطان، جاء فيه أن الدراسات أثبتت أن نسبة الوفاة من هذه الأمراض قد انخفضت في الولايات المتحدة ٣٠ في المائة منذ سنة ١٩٩١. وبهذا يكون قد وفّر هذا الانخفاض الحياة لمليونين و٩٠٠ ألف شخص كانوا سيلاقون حتفهم لولاه. إن أكـبـر تـقـدم حـصـل كــان فـي سـرطـان الرئة؛ إذ إن نسبة الوفاة انخفضت ٥١ في المائة عند الرجال، و٢٦ في المائة عند النساء. وذلـك يعود ليس فقط إلى انخفاض نسبة المدخنين؛ بل أيضاً إلـى التطور المذهل في معالجة هذا المرض بواسطة العلاج المناعي ِ والعلاج المستهدف. تقول الدكتورة Helena Yu ، وهـــي بــاحــثــة فــي مـعـالـجـة ســرطــان الرئة، وأستاذة في مركز Memoria Sloan Kettering Center Cancer في نيويورك: "إن العلاج المناعي أعطانا الفرصة التاريخية لنجرؤ، ولأول مرة، على الكلام عن إمكانية الشفاء التام من سرطان الرئة" .
والتقدم الكبير الثاني كان في معالجة سرطان الجلد ( Melanoma) ،وذلـك للسبب نفسه. فالدواء "Zelboraf" يستهدف الخلل الـجـيـنـي (genetic mutation) فــي الـخـلـيـة الـسـرطـانـيـة ويـقـتـلـهـا. أمــا أدويـــة الـعـلاج المــنــاعــي، مـثـل " Yervoy " ،و" keytruda" ، و “Opdivo” ،فــهــي لا تـسـتـهـدف الـخـلـيـة السرطانية مـبـاشـرة؛ بـل تستهدف أجهزة المناعة فـي الجسم وتقويها، لتصبح هذه الأجــهــزة ذاتـهـا قــادرة عـلـى تـدمـيـر الخلية السرطانية.
وكـنـتـيـجـة لــهــذه الــعــلاجــات الـجـديـدة والــفــعــالــة، أصــبــحــت نــســبــة الــبــقــاء عـلـى الــحــيــاة لـخـمـس ســنــوات لـــدى المـصـابـين بـــالــــ “melanoma” المـتـقـدمـة، ٩٢ فـي المـائـة، وكـانـت هـذه النسبة قبل سنة ٢٠١١ ،٥ في المائة. إن سنة ٢٠١١ كانت سنة تاريخية؛ إذ إنها كانت الحد الفاصل بين ما قبل العلاج المناعي وما بعده.
ومن أهم الاستراتيجيات اليوم لمعالجة هذه الأمراض، هي المعالجة بواسطة مزيج من العلاجات، وليس بواسطة علاج واحد فـقـط. إن هـذه الاستراتيجية تـدمـر الخلية السرطانية من جهات مختلفة. وقد أثبتت الأبحاث العلمية أن المعالجة بواسطة مزيج مــن الــعــلاج المــنــاعــي والــعــلاج الـكـيـمـيـائـي لـسـرطـان الــرئــة، تـعـطـي نـتـائـج أفـضـل من المـعـالـجـة بــأحــد هــذيــن الــعــلاجــين. وكـذلـك هــو الــحــال فــي مـعـالـجـة الـــــــ"Melanoma" وأمـــــراض ســرطــانــيــة أخــــرى. لــهــذا بــدأنــا نــحــن، ومــنــذ خــمــس ســـنـــوات، فــي مـركـز الــســرطــان الـــذي يـحـمـل اســمــي فــي مـديـنـة هــيــوســتن، بـاسـتـراتـيـجـيـة جــديــدة، وهـي اســتــعــمــال مـــزيـــج مـــن ثـــلاثـــة عـــلاجـــات: المناعي، والكيميائي، والمستهدف. في هذه الاسـتـراتـيـجـيـة يـخـضـع كــل مــريــض لـهـذه العلاجات الثلاثة. ولكن نوع الـدواء في كل واحد من هذه العلاجات يختلف من مريض إلــى آخــر بـحـسـب نــوع المــرض، ومعالجته السابقة، وهويته البيولوجية التي تحددها الــدراســات الـجـيـنـيـة. وبـذلـك يـكـون الـعـلاج مركباً خصيصاً لمريض واحـد معين. وبـذا يختلف العلاج من مريض إلى آخر، بعكس الـعـلاجـات الـتـي كـانـت تـعـطـى فـي المـاضـي لمئات من المرضى، من دون أي اعتبار للهوية البيولوجية للمرض. فــي الــبــدايــة قـمـنـا بــعــلاج المــرضــى في الـحـالات المتقدمة جــداً، والـتـي لـم يستجب فيها المرض للعلاجات التقليدية. ورغم ذلك كانت النتائج مذهلة. ونشرت هذه الأبحاث بـشـكـل مـوجـز فـي أعـمـال المـؤتـمـر الـسـنـوي لـلـجـمـعـيـة الأمــيــركــيــة لمـعـالـجـة الأمـــراض السرطانية ( ASCO (الـذي عقد فـي يونيو (حزيران) ٢٠١٩. وما يميز هذه النتائج أنها لـم تـكـن مـحـصـورة فـقـط فـي سـرطـان الـرئـة والـ"Melanoma" ؛ بل تعدتها إلى سرطانات أخــرى، كـالـبـنـكـريـاس، والـجـهـاز الهضمي، والـلـيـمـفـومـا، وســرطــانــات المـثـانـة والـكـلـى والكبد.
فـي رحلتي مـع الـسـرطـان ولمــدة امتدت ٥٢ عاماً، لم أعـرف مثل هذه النتائج، إذ إن نسبة زوال كل مظاهر المـرض عند المريض (Complete remission ( تفوق ٦٠ فـي المائة. والمميز الثاني أن هذا العلاج يصلح للسواد الأعظم من المرضى؛ إذ إننا لم نتعرف بعد على مرض لا يتفاعل إيجابياً مع هذا المنحى من العلاج. ورغم ذلك، أريد أن أشدد على ما أردده دائماً؛ إذ إنني تعلمت شيئاً كبيراً من تجربتي الطويلة في الأبحاث العلمية. لقد تعلمت التواضع، وتعلمت ألا أبهر بالنتائج الأولية. لذلك نحن ننتظر نتائج الدراسات الأخرى التي يقوم بها زملاؤنا.
وكــم تـعـلـمـنـا مــن عـلـم المــســح الـجـيـنـي وتــحــديــد الــهــويــة الـجـيـنـيـة لــلــمــرض! لـقـد تـعـلـمـنـا أنــه لــو كــان هـنـاك ١٠ مـرضـى من المــصــابــين بــســرطــان الـــرئـــة، فـــإن الــهــويــة الجينية تكون عند كل واحد منهم مختلفة عن الآخر، وبالتالي يجب أن يكون علاج كل واحـد منهم مختلفاً عن الآخـر. لقد تعلمنا أن علاج المريض يجب أن يقاس على قياسه. ومن هنا نشأت اليوم معضلة جديدة، وهي الآلية لتحديد الهوية الجينية؛ إذ إنه ليست هناك مختبرات كافية في العالم قادرة على القيام بهذه الفحوصات بالطرق الحديثة. هــذه المـخـتـبـرات مــوجــودة فـقـط فـي المـراكـز الكبيرة للسرطان. هذه المشكلة هي واحدة من الأسباب التي أدت إلـى هـوة علمية بين الــولايــات المـتـحـدة وبـقـيـة الــعــالــم. فنسبة الـوفـيـات مـن الـسـرطـان فـي إنجلترا هـي ٢٠ في المائة أكثر مما هي في الولايات المتحدة، وهـي ١٠ فـي المـائـة أكـثـر فـي كـنـدا وفرنسا. وبحسب دراسـة نشرت في مجلة "Lancet " البريطانية، فإن المريض بسرطان البنكرياس في الولايات المتحدة تكون عنده نسبة البقاء على الحياة لمدة خمس سنوات، مرتين أكثر من مريض في إنجلترا. وإذا أخذنا مريضاً مصاباً بسرطان المعدة، تكون هذه النسبة في الولايات المتحدة ٣٣٫١ في المائة مقارنة بـ٢٠٫٧ في المائة في إنجلترا، و٢٦٫٧ في المائة في فرنسا. وهناك أسباب أخـرى وراء هذه الهوة ومنها أن دولا مثل إنجلترا وفرنسا وكندا تعمل بأنظمة الرعاية الصحية حسب المفاهيم الاشتراكية؛ حيث تفرض الدولة على الطبيب معايير محددة للعلاج. ففي إنجلترا مثلا لا تشجع أنظمة الرعاية الصحية على استعمال العلاج المناعي في معالجة سرطان الرئة، رغم أن جميع الأبحاث العلمية تؤكد فعالية هذا العلاج.
نـحـن عـلـى عـتـبـة عـصـر جــديــد، عصر العلاج المناعي. والإحصائيات التي أشرنا إليها تعكس قسماً من الحقيقة، ولا تعكس كل الحقيقة. فهناك أمران تتجاهلهما هذه الإحصائيات؛ الأول وهو أن أكثر من ٩٠ في المـائـة مـن المـرضـى المـصـابـين بـالـسـرطـان لا يتلقون أي عـلاج فـعـال. والأمــر الثاني هو أن الذين يخضعون لعلاجات فعالة، يتلقى ١ فــي المــائــة مـنـهـم فـقـط عــلاجــات حـديـثـة ومتطورة يستعمل فيها العلاج المناعي.
إن الـوعـد كبير والأمــل أكـبـر. الإحـبـاط ليس خـيـاراً، والمحبطون لا يمكنهم صنع المـسـتـقـبـل. نـصـف قـــرن مــن الــصــراع ضـد الـسـرطـان. لقد تعلمت أن أحــدق فـي النور البعيد وألا أخاف الظلمة التي تملأ المكان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق