في سوريا، حيث تتشابك الحملات الاستراتيجية، وبعد العملية العسكرية التي شنتها تركيا في شرق الفرات، أسفر موقف الولايات المتحدة المتأرجح بين الانسحاب من سوريا أو المكوث فيها عن تغير جذري في مواقف الأطراف المؤثرة في الساحة السورية.
يقول المحلل السياسي التركي تورغوت أوغلو إنه مع دخول الأزمة متعددة الأبعاد مرة جديدة، بدأت فيها قواعد الحرب واللعبة تتغير مرة أخرى، وبينما حدثت الأطراف الفاعلة بسوريا مواقفها في ضوء المعادلة الجديدة، بدأ يظهر لنا من هم الخاسرون في هذه الحرب التي شبَّ لهيبها في مارس 2011 ولم تضع أوزارها منذ تسع سنوات، ونشاهد كيف أن كل واحد من اللاعبين يلعب أوراقه الأخيرة لزيادة حصته على طاولة المساومة حسب أجندته وجدول أعماله بالساحة السورية.
إن أكبر الخاسرين في سوريا، لسوء الحظ، هم أبناء تلك المنطقة، أما الخاسرون -كما يقول أوغلو- في المسرح السياسي والساحة الدولية فهم، بلا شك، الإسلاميون السياسيون الذين يستبدون بالسلطة في أنقرة، وعلى رأسهم أردوغان.
ويقول أيضًا: «لا أعني أن الخاسر الأكبر هو تركيا بمجملها؛ لأنني واثق بأن الشعب التركي سوف يحل يومًا ما مشكلاته مع الدول المجاورة بعد أن يتخلص من الحكومة الحالية، بل أتحدث عن مجموعة من الأفكار السقيمة وغير المواتية التي يسميها بعض الاستراتيجيين (العثمانية الجديدة) أو المعروفة باسم (الإسلام السياسي)».
فاز أردوغان بجميع الانتخابات التي خاضها في تركيا، إلا أن خسارته في انتخابات بلدية إسطنبول في مارس 2019 تعتبر بداية النهاية لنجاحاته في السياسة الداخلية، وتوالت خسارته في السياسة الخارجية أيضًا، وحتى في القضية السورية كان راجعًا من أستانا وسوتشي محبطًا وصفر اليدين، ولما دخل إدلب لوحده عجز حتى عن حماية جنوده، بل ساق أبناء شعبه إلى الموت.
وعمل الإسلاميون السياسيون على إطاحة الأسد منذ اليوم الأول، وأجّجوا الصراعات في سوريا من أجل إشباع نزعة (العثمانيين الجدد) ودعموا الجيش الحر وغيره من المجموعات الإسلامية المسلحة تحت مسمى «المعارضة السورية»، وصرّح أردوغان في بداية الاشتباكات بسوريا في أغسطس 2011 بأنها «قضية داخلية سورية»، ثم رجع بعد شهر ليصرّح على النقيض وينفخ في النار قائلاً: «سنذهب إلى دمشق في أقرب وقت ممكن، وسنصلي في المسجد الأموي»، وكان هذا انعكاسًا لما يكمن في عقله الباطن، لكنه ما لبث أن أفلس بعدما تحطم بالواقع المعيش.
ودفع الأتراك نتيجة هذه السياسة الفاشلة ثمنًا باهظًا، إذ تحالفت الولايات المتحدة الأمريكية بشكل وثيق مع الأكراد السوريين، ولم تجرِ إطاحة الأسد، وظهر الأكراد على المسرح السوري لاعبين فاعلين، واضطرت تركيا إلى استضافة ما يقارب خمسة ملايين من اللاجئين، إضافة إلى عناصر «داعش» الذين تأويهم تركيا.
وإذا أضفنا إلى ذلك موجات الهجرة الجديدة التي ستضم عشرات الآلاف من اللاجئين الجدد، فسندرك حجم الخسائر التي ستتعرض لها تركيا في نهاية المطاف.
وقد فهم الناس في البداية إدراج تركيا في سوتشي على طاولة المفاوضات بوصفها راعية في إدلب على أنه نجاح (مكسب) لتركيا، لكن في عام 2015 كانت جبهة النصرة الإرهابية (الذراع السورية لتنظيم القاعدة) مستولية عليها، وأما بالنظر إلى الواقع الحالي في إدلب فأصبحت المنطقة مشكلة بالنسبة لتركيا أكثر من سوريا.
لماذا؟ أو بالأحرى ما السبب؟
الأمر لا يحتاج إلى تحليل؛ لأن السبب في غاية الوضوح، وهو أن إدلب التي تقوم حكومة حزب العدالة والتنمية بحمايتها ورعايتها، هي آخر معقل للمنظمات الإرهابية المنتمية إلى الإسلام السياسي المتطرف، والعالم كله يعلم أنه ليس هناك طريق لوصول السلاح والذخيرة والمساعدات إلى هؤلاء القتلة إلا عبر تركيا.
ويعتقد أن هذا الموقف سوف يتسبّب في إحراج رئيس حكومة حزب العدالة والتنمية أكثر من إخفاقاته في أستانا وسوتشي.
في تقرير لها، أكدت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية أن أكبر مخاوف أردوغان بعد تقدم القوات الحكومية السورية في إدلب، هي موجة اللاجئين التي تعقد وضعه السياسي في تركيا، مشيرة إلى أن تركيا سعت لاستجداء المساعدة الروسية لوقف تقدم الجيش السوري وتثبيت وقف إطلاق النار؛ خشية نزوح مئات الآلاف من المدنيين باتجاه الحدود.
في حين يرى الكاتب التركي ياوزبيدر في صحيفة أحوال التركية المعارضة أن تصعيد أنقرة العسكري المتعمد الذي شهد التوغل في إدلب، وهي محافظة سورية معترف بها قانونًا، أدى إلى تحريك عناصر مختلفة بين الأطراف الفاعلة الرئيسة المشاركة في الصراع المتفاقم.
من ناحية تجد موسكو نفسها في مواجهة درس مرير مفاده أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ليس وديعًا على النحو الذي توقعه الرئيس الروسي بوتين. يجد بوتين أن انعدام الثقة التاريخي المتأصل بين تركيا وروسيا قد تأكد مرة أخرى، ولا عجب في أن يشعر بوتين بتحدٍّ هائل من أردوغان في لعبة الشطرنج الجيوسياسية، وقد تكون هذه اللعبة أكثر صعوبة من الآن فصاعدًا.
بالنسبة لبوتين، تعد تركيا تحت حكم أردوغان مكونًا مهمًا في الاستراتيجية الروسية لإضعاف الكتلة الغربية، لا سيما حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ومع ذلك فإن طبيعة هذه الأهمية تجعل من الصعب على موسكو ببساطة أن تنحي أنقرة جانبًا وهي تتخذ الخطوات الحاسمة لمساعدة سوريا على إعادة السيطرة على أراضيها.
وذكرت الصحيفة أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يندفع وراء أطماعه في السيطرة على حقول النفط والغاز التي يستطيع الوصول إليها في المنطقة منتهزًا الفوضى التي أحدثتها الحروب الأهلية في عدد من الدول، خاصة في سوريا وليبيا!
ودفع الانهيار الاقتصادي الذي عصف بتركيا أردوغان إلى المسارعة لتدارك ما يمكن تداركه، والحؤول دون مزيد من التأزم الذي وقع فيه الاقتصاد الوطني، وذلك من خلال البحث عن افتعال الحروب مع الآخرين من أجل الهيمنة على منابع النفط والغاز التي من شأنها أن تضخ الحياة في اقتصاده المنهار، أو تسعفه ببعض الأموال في المدى القريب المنظور ليحمي نفسه وحزبه الحاكم من السقوط.
وانعكست آثار الانهيار الاقتصادي على مختلف تفاصيل الحياة بالنسبة للشعب التركي الذي بدأ يدفع ضريبة سياسات أردوغان التي يصفها معارضوه بالفاشلة وتدخلاته في شؤون الآخرين، مع مسعاه الدائم لمواصلة أسلوب التضليل الدعائي، وإلهاء الرأي العام التركي بمسائل لا تهمه.
ويستغل أردوغان المليشيات التابعة لتنظيم إخوان المسلمين والتنظيمات الإرهابية الأخرى، لتكون أذرعه للتغلغل في الدول والمجتمعات التي كان الوصول إليها مستعصيًا عليه، بهدف تحقيق أطماع واستراتيجيات (العثمانيين الجدد).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق