حول خرافة أن اليابان إلى زوال!!/ د. عبدالله المدني

قرأت مؤخرا في موقع "خبر مصر" عرضا شيقا لكتاب صدر مؤخرا عن دار "تالندييه" الفرنسية. الكتاب، الواقع في 237 صفحة، يحمل عنوانا مثيرا هو"اليابان .. نموذج إلى زوال". وفيه تحاول مؤلفته "فاليري نيكيه"، عبر طرح مائة سؤال وجواب التبشير بأن هذا البلد الآسيوي العملاق سينتهي كقوة إقتصادية وصناعية ومالية عالمية عاجلا أم آجلا.
هذا الزعم يذكرنا بما قاله الكثيرون قبل نحو عقدين، وما لازال يردده البعض بسذاجة إلى اليوم، من أن الولايات المتحدة الأمريكية ستنتهي قريبا كقوة عظمى وسوف تحل الصين مكانها في إدارة شؤون العالم، فقط لأن الأخيرة باتت تحتل الموقع الثاني على رأس هرم إقتصاديات العالم، ولكأنما عظمة الأمم تتأتى فقط من العامل الاقتصادي دون عوامل أخرى مساندة على رأسها الأسلحة الناعمة المتنوعة المعروفة.
المشكلة في طروحات المؤلفة الفرنسية حول زوال اليابان أنها ليست صادرة عن مراقب أو محلل مغمور، وإنما صادرة عن باحثة متخصصة في الشأن الآسيوي وحاصلة على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة باريس السابعة عن أطروحة بعنوان "العلاقات الصينية السوفياتية 1937 ــ 1945"، وكانت قد نالت قبل ذلك درجة الماجستير في العلوم السياسية من جامعة السربون العريقة. والمشكلة الأخرى أن مزاعم زوال اليابان لا يستقيم مع الوظائف والمناصب التي شغلتها المذكورة، ومنها إدارتها للمركز الآسيوي التابع للمعهد الفرنسي للعلاقات الدولية وتأسيسها وقيادتها لقسم متابعة الاستراتيجيات الصينية والأسيوية في المعهد المذكور، ناهيك عن عملها كمحاضرة لسنوات طويلة في كلية الدفاع والمدرسة الحربية الفرنسيتين بباريس، وزياراتها الميدانية للدول الآسيوية بما فيها اليابان.
تبني المؤلفة مزاعمها المذكورة على جملة من العوامل منها نهوض الصين إقتصاديا وصناعيا وبالتالي إختطافها موقع اليابان السابق كثاني أقوى اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي تسبب في صدمة لطوكيو ويأس في صفوف اليابانيين. وردنا على هذه الإشارة هو أن اليابان التي استطاعت النهوض من كبوة هزيمتها المرة في الحرب العالمية الثانية بما في ذلك حالة اليأس والفوضى التي أعقبت تدمير مدنها بالقنابل النووية في سابقة تاريخية فريدة، قادرة بإرادة وتصميم شعبها الخلاق، وبقيمها المتوارثة عبر الأجيال في الخلق والابتكار والولاء والطاعة وتقديس العلم والعمل والوقت، ونظامها الديمقراطي المؤسساتي الفعال، أن تستعيد مكانتها العالمية، خصوصا وأنها في حالة تصالح مع نفسها ومع معظم جاراتها وحليفاتها ولا تواجه تحديات كبيرة كتلك التي تواجهها منافستها الصينية.
تزعم المؤلفة أن من العوامل الأخرى المؤدية إلى زوال اليابان حالة الشيخوخة السائدة في صفوف شعبها وتدني معدلات المواليد الجدد واللتين ستؤديان بدورهما إلى تناقص تدريجي في عدد السكان الفاعلين ليصل في عام 2060 إلى 87 مليون نسمة منخفضا من عدده الحالي البالغ 128 مليون نسمة. ومع أن هذا الحديث من باب التوقعات فإن المعروف هو أن الكثافة السكانية العالية لا تعمل دوما في خدمة إرتقاء ونهضة الأمم، بل لها من السلبيات أكثر من الإيجابيات حيث أن الكثرة العددية تستنزف مقدرات الأمة وتلقي بأعباء ضخمة على الحكومات لجهة كيفية إدارتها وتوفير الخدمات الضرورية وفرص العمل لها، ناهيك عن الضغوطات التي تخلفها على البنى التحتية. وفي هذا السياق يمكننا الإشارة إلى حجم التحديات السكانية المرعبة في الهند والصين، بل وفي دول أقل سكانا بكثير مثل الفلبين ومصر اللتين تجاوز عدد سكان كل منهما حاجز المائة مليون نسمة.
العامل الثالث في قائمة السيدة نيكيه هو نتيجة للعامل السابق وهو حسب قولها تقلص عدد الأيدي العاملة اللازمة لاستمرار دوران الآلة التصنيعية والابتكارية اليابانية. وهنا نسيت المؤلفة أن هذا العامل يمكن تجاوزه عبر الاستعانة بالأيدي العاملة الأجنبية بعد تدريبها على قيم العمل اليابانية وتوطنينها كما فعلت وتفعل كل الدول الصناعية الكبرى من تلك التي تشكو من قلة عدد الأيدي العاملة الماهرة مثل كندا واستراليا، بل أن الولايات المتحدة  رغم عدد سكانها الكبير نسبيا لم تجد حرجا في الإستعانة بكفاءات أجنبية في مجال من المجالات الحيوية التي تخدم وتعزز إقتصادها مثل صناعة البرمجيات التي إعتمدت فيها على عقول وسواعد الهنود وغيرهم. ويمكن أن نضيف هنا أن اليابان هي إحدى الدول الرائدة في إحلال الآلة محل البشر من خلال الريبوتات.
تنتقل المؤلفة بعد ذلك إلى دور المرأة في المجتمع الياباني وتصفه بالدور المهمش الذي يحمل في ثناياه سقوط النموذج الياباني اذا ما استمر على حاله. ويبدو هنا أن المؤلفة لم تطلع على ما حدث في اليابان في السنوات القليلة الماضية منذ حقبة رئيس الوزراء الأسبق "جيتشيرو كيزومي الذي مرر في البرلمان بنجاح تشريعات ثورية غير مسبوقة لصالح المرأة اليابانية ودورها في الحياة العامة فنقلها من مجرد ربة بيت إلى وزيرة للخارجية ووزيرة للدفاع وعمدة لطوكيو وسفيرة وقاضية وغيرها. 
وكي نكون منصفين، يُحسب للمؤلفة إشارتها لبعض الخطوات اليابانية التي من شأنها تجنب زوال البلاد (حسب قولها) مثل زيادة معدل إنتاج الفرد، وتبني سياسات مشجعة على الانجاب وتكوين أسر جديدة، ورفع سن التقاعد، والسماح للإمهات بالإستمرار على رأس العمل، لكن إستنتاجها العام كان أن هذه الخطوات غير كافية وأن اليابان زائلة لا محالة.
د. عبدالله المدني
*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي من البحرين
تاريخ المادة: فبراير 2020 
الإيميل: Elmadani@batelco.com.bh 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق