يعيش العالم اليوم حالة من انعدام التوازن ليس فقط بسبب فيروس كورونا والذي قد يكون أحد نتائج انعدام التوازن هذا، حيث لا يمكننا الحكم على أسبابه قبل هدوء العاصفة، إذا ما تسنى لنا ذلك، ولكن انعدام التوازن سببه الأساسي الإنحطاط السياسي والثقافي والعنصرية والتطرف والشعبوية والإستغلال…
حتى لا تبقى الأجوبة والأسئلة بسيطة أو مبسطة يطرح اليوم سؤال جوهري، هو كيف لنا أن نكسر ونتجاوز المحرّمات السياسية والمالية والدينية التي شكلت حالة انعدام التوازن؟
لقد أصبحنا وجهاً لوجه في مواجهة هذه التحديات أقله نظرياً، وأصبح الصمت مرفوضاً، وهذا ما قد يتحول إلى الجانب العملي، وتصبح المواجهة سياسية أذا ما توفرت ظروف العمل السياسي أو تتحول الى ثورات على المظالم التي تسود العالم.
ويمكن ان نلقي نظرة على بعض هذه التحديات
أولاً- سياسياً، هل الديمقراطية هي أفضل نظم الحكم؟
ثانياً- مالياً، هل الليبرالية هي أفضل النظم الإقتصادية؟
ثالثاً- دينياً، هل فقدت المنظومة الدينية مصداقيتها؟
قد يقول قائل إن الديمقراطية هي أساس الحكم العادل، حيث المساءلة والرقابة وحرية التعبير وحقوق الإنسان الخ. لكن التمعّن والتدقيق في سير العملية الديمقراطية تجعل المرء يدرك أن تلك الديمقراطية أفرغت من مضمونها لصالح العمليات الإنتخابية، والتي تحوّلت إلى سيرك بهلواني يتحكم بمساره المال والإعلام، الذي يتركّز في أيدي النسبة القليلة من بلدان العالم وفي داخل الدولة الوطنية. حتى في أعتى الديمقراطيات لم يعد هناك حرية تعبير رغم توافر المعلومة وسرعة وصولها، إلا أن إغراق الناس بالكم الهائل من المعلومات، المضلِلة منها او الصادقة يقود إلى فقدان البوصلة والضياع في بحر من الأكاذيب أو الحقائق الأدواتية المكرّسة لأجل الوصول إلى السلطة، واستمرارعملية الخداع والتحكم والقمع المستتر والعلنيّ إذا ما اقتضت الضرورة والأدلة أكثر من أن تعّد أو تحصى.
مالياً، وإقتصادياً، يبلغ الناتج القومي العالمي الفعلي ما يقارب 90 تريليون دولار. ولكن حجم البورصة العالمية يبلغ 300 تريليون دولار.هذا الفرق الشاسع بين الإقتصاد الفعليّ، والإقتصاد الوهمي الإفتراضي، جعل العالم بؤرة أزمات مالية وإقتصادية كانت تظهر كل عشرين إلى ثلاثين عاماً، ولكن بفضل التطور التكنولوجي وسرعة الإتصالات تقلّصت هذه المدة الزمنية لتتكرر كل 10 أعوام إن لم يكن أقل.
فهذا النظام الذي تحكمه ضوابط الجشع والطمع والإحتقار، أوجد هوّة كبيرة بين الفقراء والأغنياء، لدرجة إختفاء الطبقات الوسطى التي تعتبر بيضة القبّان وصمام الأمان في النظام الإجتماعي، فازداد الفقراء فقراً وازداد الأغنياء غنى، وانهارت دول، وتفشّت الأمراض، واختفت القيم بفعل هذا النظام الذي كرّس اقوياءه كل ما يملكون من جبروت مالي، إعلامي، إقتصادي وعسكري لإحكام قبضتهم على العالم كما تقدم في الشق السياسي الذي سبق الحديث عنه، وأصبحت الخصخصة إحدى أهم أساليب النهب المنظم لثروات الشعوب، حيث سيطرت شركات عابرة للقارات والأوطان على مقدرات وثروات الشعوب، وفرضت نمط الإستهلاك في أكبر عملية ربط إقتصادي عرفتها البشرية، أدّت إلى انعدام تكافؤ الفرص الوظيفية والمعيشية والخدماتية بكل أشكالها الصحية والتعليمية والإقتصادية.
ولا يخفى الدور الذي مارسته وما زالت مؤسسات العولمة الإقتصادية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية، التي مارست سلطتها المكرّسة لقهر الدول الفقيرة وإحكام السيطرة على أنظمتها السياسية والإقتصادية خدمة للدول الغنية وتكريس أستغلالها ضد أرادة الشعوب، اليونان والأرجنتين خير مثال.
أما من الناحية الدينية، كان الدين ولا يزال شئنا ام أبينا يلعب دوراً مهماً ومحورياً في حياة الشعوب سلباً اوإيجاباً، والشواهد التاريخية أو المعاشة أكثر من ان تَعد وتُحصي الحروب الدينية في العصور القديمة، او العصر الحديث والذي سنركّز عليه لانه شكّل ولا يزال الحدث في أكثر من منطقة من العالم.
منذ أواسط القرن العشرين، كان الدين العنصر الأساسي في الصراعات السياسية، منها الحرب في ايرلندا بين الكاثوليك والبروتستانت، الحرب في سيريلانكا، الحرب في قبرص، إستقلال باكستان ذات الأكثرية المسلمة عن الهند، الحرب في أفغانستان، والتي تحالفت فيها الولايات المتحدة الأميركية مع القاعدة لقلب النظام الموالي للإتحاد السوفياتي السابق، قبل أن يحصل الطلاق بين الجانبين وينقلبان على تحالفهم ويدخلان في مواجهة على أسس دينية، وهذا ما أكدته تصريحات كل من الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش وأسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة عندما قال الأول بأهل "الخير وأهل الشر" وقال الثاني "بأهل الكفر وأهل ألإيمان". ولا يمكن أن ننسى فلسطين حيث استعملت الصهيونية البعد الديني (أرض الميعاد) لإحتلالها فلسطين والتي تريد تكريسها دولة يهودية، حروب الإبادة في رواندا والصحوة الدينية التي أدت الى قيام الثورة الإسلامية في إيران عام 1979.
أما في القرن الحالي، فالحرب في بورما وطرد المسلمين بعد تنفيذ عمليات تطهير عرقي، وصولاً لظهور داعش (بغض النظر عن من شكّلها وموّلها وقوّى شوكتها واستثمر فيها) فقد عمدت الى تكفير وهدر دم كل من يعاديها على أسس دينية أو مذهبية. وما يحصل في الهند حالياً من التضييق على أسس دينية من قبل الهندوس التي تلقى رعاية الحزب الحاكم على الأقلية المسلمة.
أما في الغرب أو الدول الديمقراطية فقد أعلن الرئيس الأميركي وعلى أساس ديني حذر دخول مواطني بعض الدول الإسلامية الى الولايات المتحدة، ولم تشذ اوروبا عن القاعدة حيث أصبحت ظاهرة الإسلاموفوبيا شعاراً لقوى اليمين العنصري في دول الإتحاد الأوروبي.
إذن، كيف ولماذا انحرفت الأديان عن الرسالة الإنسانية؟!
بالطبع، لم يأتِ هذا الإنحراف من فراغ، بل نتيجة استثمار طويل الأجل من قبل القوى التي تملك المال والسلطة والإستخبارات والإعلام، التي لم تألُ جهداً من أجل استغلال الدين، وبتواطؤ من مؤسسات دينية لنشر الفوضى والنزاعات وتأليب اتباع الأديان والمذاهب على بعضها البعض، للحفاظ واستمرار سيطرتها على مقدرات وثروات الشعوب والدول التي دمرتها الخلافات الدينية، وخير دليل على ذلك العراق بعد الإحتلال الأميركي الذي زرع وغذّى الفتنة المذهبية التى ما زالت نيرانها تحت الرماد، هذا بالإضافة الى تهجير الأقليات المسيحية.
وهنا، لم يكن خافياً دور الإعلام التضليلي في تشويه الحقائق، لا بل خلق الأكاذيب بعيداً عن أخلاق المهنة المفترضة، حيث ظهر جلياً التواطؤ الواضح والجلي بين سلطتي المال والإعلام، والأخطر من ذلك ان الأدوات التي خلقها الغرب، وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية بالتعاون مع بعض الأنظمة الذين ذهبوا بعيداً في خدمة المشروع الأميركي، رافعين راية الدين للتغطية على مشاريع لا بعد ديني لها على الإطلاق، والبعد الإقتصادي فيها ظاهر للعيان ( النفط والغاز وطرق الإمداد وخطوط الأنابيب) وما حصل في الحرب على سوريا خير دليل على ذلك، وهذا ما اعتراف به وزير خارجية قطر حمد بن جاسم حين تحدث عن التهاوش على الطريدة (أي سوريا)، والمعروف ان قطر ودول الخليج كانت تموّل داعش وتمدها بالمال والرجال والسلاح والخدمات اللوجستية وغيرها.
من هنا الى أين؟!
رغم كل الضجيج الذي يرافق أزمة فيروس كورورنا، والحديث عن أن عالم ما بعد كورونا سيختلف عن عالم ما قبل كورونا، فهذا كله نوع من الكليشه لأن العالم عالم الغموض سيستمر رغم كل شيء، فقبل سنوات كانت ثورة المعلومات والإتصالات عنوان التغيير، ولكن ماذا كانت النتيجة، فالأدوات كالإنترنت وغيرها من وسائل التواصل الإجتماعي كانت وما زالت تحت سيطرة القوى التي كانت تسيطر على وسائل الإعلام التقليدية من صحافة وراديو وتلفزيون وكتب، ومن أجل الحفاظ على هذا الإمتياز والاستئثار نرى كيف تعمل الولايات المتحدة لمنع مؤسسة الإتصالات الصينية هواوي من المشاركة في بناء الجيل الخامس من الهواتف المحمولة.
أخيراً، وبالمختصر إنها الخيانة، خيانة القيم والمبادىء الإنسانية لخدمة أباطرة وقوى المال والإقتصاد والإعلام والدين. هذه القوى المتآمرة التي لا يرفّ لها جفن على الإنسانية المصلوبة على صليب المصالح أولا واخيراً.
Email:abbasmorad@hotmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق