عن لبنان والمخيمات الفلسطينية وسياسيات التمييز.. مصير مشترك في مواجهة "وباء كورونا"/ فتحي كليب

في التقييم الاولي لـ "الحرب الكونية" ضد تفشي وباء كورونا، يبدو واضحا ان المنتصر، حتى الآن، هي هذه الجرثومة الصغيرة التي تمكنت من تجاوز تدابير عسكرية واجراءات امنية في دول عادة ما توصف بأنها تتمتع بأنظمة امنية ليس سهلا اختراقها. لكن الذي حدث ان لا هذه الاجراءات ولا كل ما انتجته تقنيات الامن والتجسس و "التنبؤ" في القرن الواحد والعشرين تمكنت من ايقاف هذا العدو الزاحف الذي ضرب مسؤولين امنيين وعسكريين وسياسيين وتقنيين واطباء، وطال بشروره كل فئات المجتمع، وليس مرئيا بعد ان هزيمته باتت قريبة..

قد يكون المنتصر ايضا في هذه الحرب هم دعاة التسامح والانفتاح والمساواة الذين طالما دعوا وعملوا من اجل نبذ والغاء "ثقافات التمييز والعنصرية"، فجاء هذا الوباء ليطال بمصائبه وويلاته جميع الطوائف والمذاهب والاعراق والجنسيات: الاغنياء كما الفقراء، البيض والسود، مسيحيون .. مسلمون ويهودا، دول كبرى وصغرى، شعوب متقدمة ومتخلفة.. لذلك وقف امين عام الامم المتحدة انطونيو غوتيريز ليدعو العالم الى "وقف إطلاق نار فوري في زوايا العالم، الذي يواجه عدوا مشتركا لا يكترث بالجنسية أو العرق أو الفصيلة أو الإيمان، بل يهاجم الجميع بلا هوادة".

مناسبة هذا الكلام هو سؤال مكرر ويتردد على السنة اللاجئين الفلسطينيين في لبنان عن مدى استفادتهم من بعض المساعدات التي تقدمها الدولة اللبنانية ومؤسساتها المختلفة، بعد ان اعتادوا على مسار سيء من المعاملات التمييزية المكرسة بقوانين وأنظمة اصبحت لدى البعض، من قوى وافراد اشبه بثقافة تستحضر في محطات مفصلية، خاصة عندما يتعلق الامر بالحديث عن حقوق فلسطينيي لبنان والمسؤولية التي تتحملها الدولة عن الواقع الاقتصادي والاجتماعي والنفسي الصعب الذي يعيشه اللاجئون الفلسطينيون..

مع نجاح "فيروس كورونا" في شل الحياة الاقتصادية والعامة في معظم دول العالم، فمن الطبيعي ان تلجأ العديد من الدول الى حزمة اجراءات اقتصادية هدفت الى دعم مواطنيها اقتصاديا، لكن لم يلمس ان دولة ميزت بين مواطن ومقيم او حصرت المساعدات بفئة دون غيرها، كما الوباء الذي لم يميز. والامر هنا لا يقتصر على دول غنية واخرى فقيرة، بل ان الهدف المشترك بين الجميع كان انجاح الاستراتيجية العامة للدول تحت عنوان واحد: "العزل المنزلي"، والذي لا يمكن ان يحقق النتائج المرجوة منه الا اذا التزم جميع من يقيم فوق البقعة الجغرافية التي تستهدفها تلك الاستراتيجية.. وحتى يلتزم جميع المواطنين والمقيمين منازلهم، كان لا بد من طرف يأخذ على عاتقه مهمة تأمين الاحتياجات المعيشية للمعزولين، ربما ليس من باب الانسانية، بل انطلاقا من ادراك عام بأن شخص واحد قادر على افساد كل ما انجزه المجتمع من خطوات وقائية..

هذه الخلاصة نفترض انها ليست غائبة عن اذهان المسؤولين في لبنان، والدولة بجميع مؤسساتها معنية بمحاصرة وباء كورونا في جهات لبنان الاربعة، واي تمييز في هذه الحالة قد يرتد سلبا على الجميع. وهذا ما عبر عنه رئيس الجمهورية العماد ميشال عون الذي قال بتاريخ 15 آذار "ان الدولة ستوفر الحماية للمواطنين والمقيمين"، وهذا كلام رجل مسؤول يعرف معنى كلامه كما يعرف معنى ان يبقى شخص ما خارج اطار حماية المجتمع والدولة، خاصة في هذه المرحلة حيث اولوية الجميع هي محاصرة الوباء والقضاء عليه فوق كل الارض اللبنانية..

وانسجاما مع ما قاله رئيس الجمهورية، اقر مجلس الوزراء بتاريخ 14 آذار حزمة مساعدات بمبلغ (18) مليار ليرة سيخصص للأسر الأكثر فقراً من خلال حصص غذائية ومواد تنظيف بقيمة (180) ألف ليرة لبنانية، وعاد المجلس بعد اسبوعين وقرر حزمة اخرى بـ (75) مليار ليرة كمساعدات اجتماعية. وهنا ايضا افترض ان جميع المقيمين في لبنان سوف يستفيدون من هذه المساعدات، التزاما بكلام الرئيس بشأن توفير الحماية للجميع، والمقصود هنا الحماية الصحية والاقتصادية.

وبعيدا عن منطق التمييز الذي لا نتمنى له او لأصحابه النجاح، فان العديد من المراقبين، المحليين والدوليين، ينطلقون في معالجتهم لهذه المسألة من ان هناك ثلاثة فئات من المقيمين في لبنان، ولكل واحدة ظروف اقتصادية واجتماعية تختلف عن الاخرى: الاولى هي فئة المواطنون الذي يحظون برعاية الدولة اللبنانية ومؤسساتها الصحية والاقتصادية المختلفة، وتتابع اوضاعها الصحية وفقا للاستراتيجية الصحية التي تديرها وتشرف عليها وزارة الصحة. وهناك فئة اللاجئين السوريين الذين لا مرجعية صحية تتابع اوضاعهم، خاصة بما يتعلق بتفشي وباء كورونا، الا بعض مؤسسات الامم المتحدة. وبسبب الكثافة السكانية المرتفعة وعديد المشاكل التي تشكو منها هذه الفئة، فهناك من يحذر من كارثة جدية على المستوى الصحي، اذا لم تحسن المرجعيات المعنية طريقة تعاطيها مع هذه التجمعات. ولهذه الغاية يجري الحديث عن اتصالات وصلت الى مرحلة متقدمة بين الدولة اللبنانية والمفوضية العليا لشؤون اللاجئين لبناء مستشقى ميداني باشراف المفوضية، خاصة وان عدد النازحين السوريين المقيمين لبنان كبير الى درجة تعجز الدولة عن توفير متطلباته الصحية والحياتية..

تبقى الفئة الثالثة، وهي فئة اللاجئون الفلسطينيون الذين يقيمون في (12) مخيما تتوزع على جميع المحافظات اللبنانية وتنعدم فيها شروط الحد الادنى للحياة. وهذه المخيمات ورغم ان مرجعيتها الصحية هي وكالة الغوث، الا ان طبيعة الخدمات الصحية التي تقدمها الوكالة تبقى قاصرة على الاستجاية لتحديات انتشار "فيروس كورونا" وهذا ما يطرح جملة تحديات صحية واقتصادية:

في الجانب الصحي، فان المخيمات وحتى اللحظة ما زالت خارج استراتيجية الدولة الصحية وفقا لما قاله مدير عام الاونروا في لبنان. وسيكون التعاطي مع اللاجئين الفلسطينيين في اطار مكافحة وباء كورونا وفقا للتالي؛

1) ستقدم وكالة الغوث المساعدة لكل مريض يحتاج لإجراء فحص أو يخضع للعلاج من فيروس كورونا في مستشفى رفيق الحريري الجامعي أو أي مستشفى آخر يكون معتمدا من قبل وزارة الصحة العامة، سواء لإجراء الفحوصات او لعلاج الحالات المصابة.

2) ستعتمد وكالة الغوث نفس السياسة الإستشفائية المقرة حالياً بالنسبة للاجئين الفلسطينيين المصابين بفيروس كورونا، على ان تقدم الاونروا مبلغا معينا وتتكفل السفارة الفلسطينية في لبنان بتغطية الباقي.

وهذا يعني ان اي مريض يعاني من عوارض وبائية لها علاقة بفيروس كورونا، لن يكون مطلقا في اختيار طريقة العلاج او المستشفى، بل ان الاونروا ستكون ملزمة بمتابعة الحالات التي تلتزم بالشروط المطروحة سابقا، وهي التواصل مع وزارة الصحة على الخط الساخن وبالتنسيق مع مسؤول الاونروا الصحي المعتمد في المنطقة.. وهذا ما يؤهل المريض للاستفادة من الفحوصات المخبرية التي ستكون على نفقة الاونروا..

في الجانب الاقتصادي: منذ بداية العام الحالي، وقبل تفشي الوباء وانتشاره في لبنان، اجمع اللاجئون الفلسطينيون على مطلب "خطة طوارئ اقتصادية" تديرها وتشرف عليها الاونروا. وكانت خلفية هذه الدعوة نابعة من التداعيات السلبية للتحركات الشعبية اللبنانية التي امتدت لأكثر من ثلاثة اشهر، مع كل ما رافقها من توقف العمال الفلسطينيين عن مزاولة اعمالهم، إن كان بسبب اجراءات وزارة العمل السابقة او بسبب قطع الطرق وشل الحياة الاقتصادية لعدة اسابيع.

غير ان هذا المطلب، ورغم احقيته وعدالته، فقد ظل معلقا بالهواء ولم يجد آذانا صاغية من قبل وكالة الغوث والدول المانحة.. ومع بدء تفشي وباء كورونا، ادركت الوكالة، وان بشكل متأخر، اهمية وضرورة هذا المطلب، فأصدرت نداءها الشهير الى الدول المانحة في النصف الثاني من شهر آذار الحالي بقيمة (14) مليون دولار للاقاليم الخمسة، وستكون حصة اللاجئين في لبنان من هذا المبلغ ما يزيد قليلا عن مليون دولار.. غير ان هذا النداء ما زال مجرد سيناريوهات طموحة على الورق نأمل الاستجابة السريعة لها من قبل الدول المانحة..

بموازاة ما تقوم به وكالة الغوث، والصعوبات المالية التي تشهدها موازنتها، قرر مجلس الوزراء اللبناني تخصيص مبلغ (93) مليار ليرة للاسر الفقيرة التي تضررت بنتيجة اجراءات التعبئة العامة وما رافقها من شلل في الحياة الاقتصادية.. هنا نعود الى ما سبق ذكره حول ضرورة شمول الخطة الاقتصادية لجميع المقيمين، خاصة اللاجئين الفلسطينيين، الذين لا مرجعية خدماتية قادرة على توفير احتياجاتهم المعيشية، وبالتالي فان مسؤولية الدولة اللبنانية في شمول المخيمات باستراتيجيتها تنبع من مصلحتها ومصلحة جميع المقيمين في ابقاء الجميع في منازلهم، ومن ضمنهم طبعا الفلسطينيون الذين همس بعضهم سرا بضرورة عزل المخيمات واغلاقها صحيا، اذا ما توفرت شروط ذلك، خاصة اذا ما تتطلب الواقع الصحي ذلك وتوفرت المستلزمات الحياتية والمعيشية اليومية للاجئين المحشورين داخل مخيماتهم..

وامام ما يمكن ان يواجهه مطلب مد استراتيجية الدولة الاغاثية الى المخيمات، لاسباب انسانية وصحية وواقعية، من عقبات ورفض من بعض الذين اعتادوا واستمرأوا منطق التمييز السلبي، خاصة ضد الفلسطينيين، فان المسؤولية الانسانية والاخوية تفرض على الدولة اللبنانية تقديم الاسباب الموجبة لتأمين الحد الادنى من احتياجات الفلسطينيين الحياتية، وعلى خلفية ان مصلحة اللبنانيين والفلسطينيين تفرص ذلك. امام هذا ينتصب السؤال التالي: ما هي الاحتياجات المعيشية الفعلية للاجئين الفلسطينيين في هذه المرحلة؟

من المؤكد ان الاحتياجات الحياتية للاجئين تكاد لا تحصى، نظرا لمسار طويل من الحرمان والمعاناة التي تمتد الى اكثر من ربع قرن منذ استعادت الدولة اللبنانية سلطتها على اراضيها، لكن ما نتحدث عنه راهنا هو الحد الادنى مما يمكن للمرجعيات المعنية ان تقدمه، سواء الدولة اللبنانية بمؤسساتها ومرافقها الرسمية او البلديات او وكالة الغوث وتقديمات منظمة التحرير والفصائل او ما يمكن ان تقدمه المؤسسات الاجتماعية وغيرها من رجال اعمال ومتمولين فلسطينيين..  ويمكن في هذه الحالة تقدير الاحتياجات استنادا الى المسوحات الاجتماعية والاحصاءات الرسمية اللبنانية وتقديرات وكالة الغوث..

فاستناد الى التعداد العام للسكان والمساكن الذي اجرته الدولة اللبنانية بالتعاون مع مركز الاحصاء الفلسطيني عام 2017، يتضح ان عدد الاسر في المخيمات والتجمعات الفلسطينية المختلفة يزيد قليلا عن (52) الف اسرة، فيما تشير وكالة الغوث ان عدد حالات برنامج شبكة الامان الاجتماعي يبلغ نحو (61) الف شخص اي ما يعادل (12 الف اسرة)، فيما تفيد بعض المعطيات ان عدد الاسر التي تعيش في فقر مدقع تتجاوز هذا الرقم لتبلغ اكثر من (100) نسمة..

من الناحية الشكلية، يبدو ان الرقم السابق ليس بالرقم الذي يمكن ان يثقل كاهل دولة وفصائل ومؤسسات ومنظمات دولية. ولو افترضنا ان الاسرة الواحدة تحتاج الى نحو (100) دولار خلال فترة زمنية ليست بالطويلة، وفقا لما حدده مجلس الوزراء اللبناني بالنسبة للاسر اللبنانية (180 الف ليرة لبنانية)، فان المبلغ المطلوب، في حده الاقصى لا يتجاوز (مليون ونصف المليون دولار امريكي)، وهو مبلغ قريب من المبلغ الذي طلبته وكالة الغوث في نداءها للدول المانحة. ونظريا، تبدو قيمة المبلغ ليست بالكبيرة قياسا الى عدد المرجعيات التي بامكانها تقديم اكثر من ذلك بكثير، بل ان مؤسسة اجتماعية واحدة قادرة على تأمينه من جهة مانحة، وهو ما يطرح ضرورة توحيد جهود الاغاثة بما يضمن ايصال المساعدات الى اكبر عدد من مستحقيها، خاصة وان بعض الاطراف الفلسطينية بدأت بشكل فعلي بعمليات التوزيع، لكن ما يعيب بعض هذه العمليات انها تفتقر للشفافية وتتعاطى مع اللاجئين بانتقائية وبخلفيات حزبية ليست في وقتها..

ومع ذلك، فلا ينبغي لكل ما يمكن ان يقدم ان يكون بديلا عن كون وكالة الغوث التي ستبقى الجهة المعنية باغاثة اللاجئين الفلسطينيين، باعتبار ذلك جزءا من التفويض الممنوح لها. لكن بالخلاصة العامة، فان مواجهة وباء كورونا، وكما هو مسلم به على المستوى العالمي، لا يمكن مواجهته باجراءات صحية فقط واهمال الاجراءات الاقتصادية والاجتماعية، وحتى النفسية، التي يمكنها ان تدعم الاستراتيجيات العامة للدولة.

 في السابق، حين اقفلت المخيمات، على بؤسها ومعاناتها، لم يشعر اصحاب هذه السياسات بنتائج سياساتهم، بل ربما شعروا ولم يكترثوا. والارقام اليوم تقدم صورة مأساوية عن حقيقة الاوضاع الكارثية داخل اسوار المخيمات التي تئن تحت وطأة اوضاع اقتصادية اسوأ بكثير مما تعيشه الاسر اللبنانية الفقيرة، ومبعث الخطر ابرزته نتائج المسح الاقتصادي والاجتماعي الذي اجرته الاونروا بالتعاون مع الجامعة الامريكية في بيروت عام 2015 وجاء فيه ان (95 %) من اللاجئين الفلسطينيين ليس لديهم تأمين صحي ويعتمدون اعتمادا كليا على الاونروا، وأن ثلثهم يعانون من أمراض مزمنة، اي ان ثلث الشعب الفلسطيني في لبنان عرضة للموت في حال تمكن وباء كورونا من دخول المخيمات، وحينها لن يكون الفلسطيني فقط وحده الضحية، لأن واقع الحرمان الحالي الذي يعيشه ابناء المخيمات لا يمكن ان ينتج سوى بطالة وأمراضا واوبئة لن تتمكن اجراءات الدولة الامنية على مداخلها ان تمنع تمددها ووصولها الى خارج المخيمات، وهذا ما نحذر منه منذ الآن التزاما بالقاعدة الصحية الراهنة بأن افضل طريقة لمحاصرة وباء كورونا هي الوقاية. فهل من يأخذ هذا التحذير على محمل الجد؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق