كشف وباء كورونا جليا مآزق معظم الدول بالعالم ومعضلاتها البنيوية والتقنية واللوجستية والسياسية والاقتصادية وهشة كيانها… تجليات هذا المأزق نراقبها يوميًا … من جهة في التخبط بالاستراتيجيات والتكتيكات المتبعة لمواجهة انتشار الوباء وكسب الوقت الذي يحتاجه العلماء لإيجاد دواء أو مصل ومن جهة أخرى في محاولة الأنظمة السياسية لحماية مؤسسة الدولة من الانهيار .
في خضم المعركة ضد وباء كورونا وإرهاصاته وغوغاء الإعلام وتركيز البعض على دس ونشر المعلومات الكاذبة المبنية على فكر المؤامرة تم التناسي، ومن قبل جميع الأطراف، الرسمية والشعبية والدينية ومؤسسات المجتمع المدني بألوانها، عن طرح سؤال مركزي اخلاقي يتعلق في ماضي البشرية بدولها وشعوبها وانظمة حكمها المختلفة ومستقبل هذه المنظومة …
السؤال الذي أود تسليط الضوء عليه بهذه الأسطر هو:
كيف نفسر حقيقة ان كل الدول كانت دائما على اهبة الاستعداد لشن الحروب وقتل الأنسان وتدميره ولم تكن مستعده للدفاع عن صحته وحياته ومستقبله؟
بكلمات أخرى : الدول، بغض النظر عن نوع نظام حكمها وتركيبتها الاجتماعية والدينية ، وبتقبل نسبي من شعوبها … إما عن مضض أو عن قناعة تامة، تُسَلح جيوشها واجهزتها الأمنية باحدث الأسلحة والتقنيات العسكرية وتتسابق فيما بينها بتطوير الأسلحة الفتاكة واقتناءها وصيانتها … ولم تعير اهتمامًا كافيًا في البحث عن طرق ووسائل لحماية صحة الأنسان ومستقبله!
نعم البشرية ومنذ سبعين عام ونيف كانت وما زالت تروض نفسها بشتى الوسائل على تقبل قتل الآخر، العدو … بحجة الدفاع عن الوطن ! ولم تعطي اهتمام كاف لصحة الأنسان وحياته… هذا ما تثبته كمية الأموال التي تصرف سنويا على التسلح والعسكر !
هذا المأزق الأخلاقي اتضحت معالمه بعدم جاهزية معظم الدول ومؤسساتها المتشعبة لمثل هذه الحالة التي تعيشها البشرية منذ مطلع هذا العام . الكل يتخبط في مواجهة وباء كان متوقع ان يأتي في أي وقت كما توضح عدة وثائق ودراسات للخبراء.
دراسات عديده بهذا الاتجاه أعدها الأخصائيون بطلب من النخبة السياسية بعد انتشار وباء سارس SARS سنة 2003 بآسيا ووباء ايبولا EBOLA سنة 2013 في أفريقيا.
دراسات وابحاث تمت في دول عديده مثل ألمانيا وروسيا والولايات المتحدة والصين وإيران ودولًا إسكندنافية وأوروبية أخرى … وعلى سبيل المثال لا الحصر قدم الخبراء الألمان بالتعاون مع المعهد الحكومي الرسمي لمواجهة الأوبئة والأمراض الفتاكة، روبرت كوخ RKI، سنة 2012 تقريرًا مفصلًا يرسم بأدق المعلومات ما يحدث الان جراء وباء كورونا … هذا التقرير، الذي دمغ ب "سري للغاية" تم استلامه من قبل الحكومة الألمانية وأودع في الدواليب دون ان يعيره احدا اهتمام كاف… مثل هذه التقارير والدراسات استلمتها حكومات أخرى بالعالم كما ذكرت أعلاه … وجميعها تصرفت كما تصرفت الحكومه الألمانية.
الموضوع لم يبقى باطر الدراسات الحكومية الرسمية بل تم طرح هذا الموضوع، إمكانية انتشار وباء فتاك بالعالم، في العديد من المؤتمرات العلمية ومؤتمرات منظمة الصحة العالمية… النتيجة، كما نراها اليوم، كانت مفعمه باللامبالاة والتجاهل من قبل المسؤولين بالصف الأول … وهذا هو الوباء يفتك في مرحلته الأولى بارواح عشرات الآلاف من الأبرياء في أنحاء المعمورة واحد لا يعرف كم سيكون العدد النهائي للوفيات وكم هو كُبر الضرر الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الذي سيلحق بالبشرية جراء وباء كورونا .
مقابل هذه اللامبالاة بخطر محتمل ان يقع في كل لحظة ويعرض البشرية لخطر وجودي… كوباء كورونا، وحقيقة عدم الجهوزية الكافية لمواجهته ؛ رغم تحذير الخبراء من ان النتائج ستكون كارثية على صحة الانسان والبشرية ومستقبلهم … نرى كيف دأبت كل حكومات الدول بالعالم على زيادة مصاريفها للتسلح ورفع الميزانيات المخصصة للجيوش والأجهزة الأمنية بحجة ان عليها ان تكون مستعده لحرب يمكن ان تقع!
هنا لا بد من الإشارة على ان الأكثرية الساحقة من دول العالم وشعوبها لم تخض حربًا أو نزاعا مسلح يهدد وجودها منذ اكثر من سبعين عام … وان الأمراض الفتاكة والمجاعة تهدد مستقبل البشرية اكثر بكثير من أي نزاع مسلح …
الحقيقة المرة هي ان الجماهير في كل الدول بقطاعاتها الواسعة تتقبل تبريرات النخب الحاكمة عن أهمية التسلح وصرف الأموال الطائله وتغض النظر عن النقص المزمن في قطاع الصحة والتعليم والأبحاث التي تخدم الانسانيه!
في سنة 2018 صرفت دول العالم ما يقارب 1,8 ترليون دولار (1.8000.000.000.00) على التسلح بحسب ما تورده المنظمة السويدية العالمية SIPRI لمراقبة التسلح بالعالم . وتصدرت لائحة الدول الأكثر صرفًا على التسلح في هذه السنة الولايات المتحدة الأمريكية بحوالي 649 مليارد وبعدها الصين بحوالي 250 مليارد وتأتي روسيا بحوالي 61 مليارد في المرتبة السادسة بعد السعودية والهند وفرنسا . السعودية صرفت حوالي 68 مليارد على التسلح واحتلت المرتبة الثالثة بالعالم وهذا ليس وضع استثنائي بل هو الحال الطبيعي منذ سنين طويله وهو معدل صرف ال سعود السنوي على السلاح الفتاك. وإذا قارنا المصاريف على التسلح بالدخل القومي الإجمالي للدول لرأينا ان دوله مثل السعودية التي تصرف حوالي 8,8% من دخلها القومي على السلاح وتحتل بهذا المكانة الأولى بالعالم !
الكارثة توضح إذا قارنا مصروف الدول على مجال الصحة والتسلح مع بعضهم البعض … هنا نرى ان دوله مثل السعودية لا تظهر في لائحة ال 45 دولة الأوائل بالعالم بالصرف على مجال الصحة … المرتبة ال 45 تحتلها إندونيسيا وهي تصرف حوالي 3,1% من دخلها القومي على مجال الصحة.
للمقارنة تصرف إسرائيل على التسلح سنويا حوالي 16 مليارد دولار سنويا. وصرفت سنة 2014 حولي 2600 دولار سنويا على كل فرد في مجال الصحة بينما صرفت السعودية في مجال الصحة حوالي 2500 دولار للفرد الواحد فقط. وتحتل السعودية المرتبة 68 بالعالم بالصرف على قطاع التربية والتعليم وهي تصرف حوالي 5,1% من دخلها القومي على هذا المجال( احصائيات 2008).
الازمه الأخلاقية التي تمر بها البشرية جراء وباء كورونا ، والتي برأيي أزمة من صنع البشر ، تظهر بشاعتها إذا نظرنا إلى حقائق مخيفة عن عدم جهوزية أماكن عديدة في العالم لمواجهة مثل هذا الوضع … هذا هو الحال في معظم الدول الأفريقية ودول امريكا اللاتينية والدول العربية رغم ان هذه المجموعة من الدول هي التي تتصدر لائحة الدول بالصرف على التسلح مقارنة بدخلها القومي.
في القرن الواحد والعشرين، كما اوضح وباء كورونا، تتفوق الدول والشعوب على بعضها البعض ليس بتعداد جنودها ونوعية أسلحتهم وحيازتها على الصواريخ والقنابل النووية الفتاكة ولا على جهوزية الجيوش على خوض الحروب … التفوق هو بالعلم والأبحاث لمواجهة اخطار بيئية ووبائية … التفوق هو بالتعاون المشترك من اجل البشرية وليس بالتنافس على القدرة الى تدميرها.
نحن في الشرق الأوسط بشكل خاص وفي العالم بشكل عام، علينا ان نعي ان الحروب التي شنت وان الجيوش التي جهزت وان الأجهزة الأمنية المخابراتيه التي بنيت لم تكن يوما لحماية الإنسان بقدر ما هي لحماية أنظمة الحكم الباليه التي كشفت عوراتها في هذا الوباء .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق