في ما يلي ترجمة عربية لهذه القصّة، التي روتْها صُبحية بنت مصباح بن إبراهيم صدقة الصباحي (أوره بنت نور بن أبراهام تسدكه هصفري) [١٩٢٢-٢٠١٢، من مسنّات الطائفة الحولونية] بالعبرية على مسامع الأمين (بنياميم راضي صدقة ١٩٤٤-)، الذي نقّحها، اعتنى بأسلوبها ونشرها في الدورية السامرية أ. ب.- أخبار السامرة، عدد ١٢٤٨-١٢٤٩، ١ أيلول ٢٠١٧، ص. ٥٥-٥٧. هذه الدورية التي تصدُر مرّتين شهريًا في مدينة حولون جنوبي تل أبيب، فريدة من نوعها ــ إنّها تستعمل أربع لغات بأربعة خطوط أو أربع أبجديات: العبرية أو الآرامية السامرية بالخطّ العبري القديم، المعروف اليوم بالحروف السامرية؛ العبرية الحديثة بالخطّ المربّع/الأشوري، أي الخطّ العبري الحالي؛ العربية بالرسم العربي؛ الإنجليزية (أحيانًا لغات أخرى مثل الفرنسية والألمانية والإسبانية والبرتغالية) بالخطّ اللاتيني.
بدأت هذه الدورية السامرية في الصُّدور منذ أواخر العام ١٩٦٩، وما زالت تصدر بانتظام، تُوزَّع مجّانًا على كلّ بيت سامري من المائة والستّين بيتًا في نابلس وحولون، قُرابة الثمانمائة سامري، وهناك مشتركون فيها من الباحثين والمهتمّين في الدراسات السامرية، في شتّى أرجاء العالم. هذه الدورية ما زالت حيّةً تُرزق، لا بل وتتطوّر بفضل إخلاص ومثابرة المحرّريْن، الشقيقَين، الأمين وحُسني (بِنْياميم ويفت)، نجْلي المرحوم راضي (رتسون) صدقة (٢٢ شباط ١٩٢٢ــ٢٠ كانون الثاني ١٩٩٠).
”غُرف مُحكَمة الإغلاق في حرب الخليج
’’بٱسم أنا هو الذي هو، لا تسأل عن مدى انضغاطنا، من جرّاء هذه الحالة التي نعيشها من إنذار واحد تلو الآخر. آذاننا صاغية طيلةَ الوقت لسماع ما يبُثّه المذياع من نداء معروف ”أفعى سامّة“. لم يعثروا على شعار آخرَ ليجننونا به؛ بعد ذلك سُمع شعار آخرُ ”جوّ خماسيني شديد“، للدلالة على التهدئة والخروج من الغرف المغلقة. على كلٍّ، عبارة ”أفعى سامّة“ تُطلقنا إلى الغرف المغلقة، وكأنّ أفعى لدغتنا، ولكن الشعار ”جوّ خماسيني شديد“ ينبغي استبدالُه بـ ”فم ناطق“، فهذا مُهدّىء أكثر. وقد أحسنوا صُنعًا عندما أقلعوا عن هذا ”الجوّ الخماسيني الشديد“. ولكنّنا نطرح سؤال الجميع: متى ينتهي كلّ هذا؟ إلى متى سنظلّ في هذه الحالة؟ متى سيحِلّ السلام؟ أهناك من يستطيع الإجابة على سؤال واحد أقلّه؟
إنّي أُكثر من طرح الأسئلة ولا أقصّ عليك الجوهر، القصّة التي ذكّرتني بها هذه الحال. هذا يُذكّرني بأيّام بعيدة تعود إلى زمن الحرب العالمية الثانية. شتّان ما بين الوضع آنذاك والوضع الحالى؛ من كان يفكّر آنذاك بغُرف مغلقة؟ بملاجىء؟ وإن سألتني لقلت لك إنّنا كنّا بحاجة لكليهما آونتَها أكثر من اليوم، لأنّ الألمان في تلك الحرب استعملوا الغازات؛ واليوم يستعمل العراقيون موادّ أوجدها الألمان.
الألمان يُقَنْبِلون تل أبيب عام ١٩٤٤
إذًا، حتمًا ستسألني كيف تدبّرنا أمورَنا في ذلك الوقت؟ بصعوبة ومشقّة. لا، لا أحد ألقى علينا قنابل غاز ولكن قنابل أخرى. طائرات الألمان أسقطت علينا قنابلَ وفي الشوارع المحيطة بمنزلنا أصيب أو قُتل عابرو سبيل بريئون لا ذنبَ ولا جُرم لهم. التوتّر آنذاك كان شديدًا لدرجة كبيرة. وعندها كانت أُسرتنا تسكن في بيت من ثلاثة طوابقَ في يافا. لم نكن لنجرؤ في إخراج الأنف من البيت في خلال مدّة طويلة. وعندما كنّا نشاهد من شُرفة بيتنا طائراتِ الألمان كنّا ننزِل إلى الطابق السُّفلي، نجلس متلاصقين الواحد بالآخر كقطيع الضأن، وكنّا ننتظر الفرَج. لم يكن لدينا جهاز راديو آنذاك؛ من كان يسمَح لنفسه بابتياع مذياع؟ عشنا في ذلك الفترة من الإشاعات التي كانت تنتشر من بيت لآخرَ كالريح. وكان الجيران يُخبروننا بأنّه من الممكن العودة إلى البيت؛ كلّنا كنّا نعيش بخوف شديد.
ּوالدي مِصباح (نور) كان حينئذٍ في عام حياته الأخير؛ طلب من أُختي بهجة (يفه) ذات يوم أن تنزل لشراء الخبز لسدّ رمقنا في البيت قبل حلول الغارة القادمة. وقد عاش معنا عمّي بديع (چوئيل) الذي تمكّن من إضفاء جوّ من الانشراح والارتياح علينا جميعًا، لا سيّما في لحظات القصف العصيبة. لم يتتطّلب الكثير بل اكتفى بالقليل.
في البداية، كان العمّ بديع يعتاش من بيع الخُرْدوات، لا سيّما ما يتعلّق بالملابس [مثل: الأمشاط، الفراشيّ، الجوارب، الجزادين، الدفاتر صغيرة، اللامبات]، وبعد ذلك فقط، أخذ بمزاولة عمل المقاولة في البناء. والجلوس بمعية العمّ بديع في وقت الطوارىء، كما في كل وقت آخرَ، كان بمثابة مُتعة. بعض الجُمل التي كان ينطقها كانت كافية لجعلنا نشعر بحالة أفضل. قامت أختي بهجة بما أمر أبي ونزلت إلى البِقالة؛ لم تمض دقيقتان وإذا بصوت إطلاق الرصاص يُسمع من كل حدب وصوْب، كذلك صوت هدير محرّكات طائرات العدو الألماني، كان يدوّي في الجوّ.
هرولنا كلُّنا إلى الطابق السفلي، إلى غرفة الدرج، المكان الأكثر أمانًا في البيت. أنا تمالكت نفسي، أسرعت إلى الشرفة لأحذّر أختي بهجة التي لم تصِل إلى البِقالة بعد. ”بهجة، يا بهجة، إرجعي بسرعة إلى البيت“، ناديتُها بصوت عال، كما شارك في ذلك زوجي يعقوب وصهري إسحق زوج بهجة.
وعلى حين غِرّة رأيتُ إسحق يجهَش بالبكاء؛ إنّه أحبّ زوجته لدرجة كبيرة وكان موقِنًا بأنّ القصف أو إطلاق النار سيصيباها. وانضمّ الوالد مصباح (نور) إلينا في ”دبّة الصوت“؛ كانت بهجة في طرف الشارع، وسمعت صيحاتِ أبي: ”يا بهجة إرجعي بسرعة إلى البيت لئلّا تصابي، ليكن اليوم بدون خبز، المهم حياتك!“ - التفتت بهجة نحو الخلف وتمكّنت من الرجوع إلينا، ونحن منتظروها بفارغ الصبر في غرفة الدرج.
الله استجاب لدُعاء بديع صدقة
هناك جلسنا كلُّنا وكنّا نرتجف، نحن وجيراننا، كنّا نخشى من كلّ الانفجارات التي كانت تُسمع قريبة جدّا. تحطّم زجاج نوافذ طابق بيتنا، وأصدر صوتًا مخيفًا على أرضية الشارع. لُذنا بالصمت والسكينة، واحد منا هو العمّ بديع بن إبراهيم رحمه الله، تكلّم. لم يدأب كعادته على سرد النِكات لتهدئتنا بل رأيناه منطويًا على نفسه ومتمتمًا كلماتٍ من التوراة. سمعته يقرأ ”اسمع يا إسرائيل“ [سفر التثنية ٥: ١] و ”ان باسم الله مناداتي“ [سفر التثنية ٣٢: ٣] و ”ها أنا مرسل ملاكي بين يديك لحفظك في الطريق“ [سفر الخروج ٢٣: ٢٠] [أنظر حسيب شحادة، الترجمة العربية لتوراة السامريين، مج. ٢، القدس: الأكاديمية الوطنية الإسرائيلية للعلوم والآداب، ٢٠٠١، ص. ٤٣٩، ٦٠٥؛مج. ١، ١٩٨٩، ص. ٣٦٩].
هو لم ينقطع طيلةَ جلوسنا هناك، عن تلاوة آيات من التوراة، وأمل كلّ المحيطين به في قلوبهم بأن تستجاب صلاتُه. اهتزّ البيت ثانية، وتناثر الزجاج المحطّم على الشارع؛ أخذنا نردّد بصوت عالٍ ”الأزلي الذي لا يزال، الأزلي الذي لا يزال“ [حسيب شحادة، مج. ١، ص. ٢٦٩] لربّما يسمع صلاتَنا. انتهى القصف، رجعنا كلّنا إلى الشقّة في الطابق الثالث؛ الهدوء يخيّم على محيط البيت. حاول جيراننا أن يعرفوا منّا ما كانت فحوى صلاة العمّ بديع. أجابهم بديع بأنّه صلّى لله بأن يحفظ كلّ واحد من ساكني هذا البيت، وتبيّن أنّ صلاتَه قدِ ٱستُجيبت. هناك الله في السماء سامع ومستجيب.
هزّ الجيران رؤوسهم من أعلى إلى أسفل، وقال الواحد للآخر: لولا صلواتُ هذا السامري، من يدري ماذا كان سيحلّ بنا؛ العمّ بديع ٱبتسم وصمت. من الممكن أحيانًا إبقاء الأسئلة بلا أجوبة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق