ستشرق عينا الأسير فرحا/ عبد السلام العابد

منذ أن استقر به المقام ،في المعتقل ، وهو يحلم بذلك النهار الذي يعانق فيه نور الحرية ، ويلتقي بأحبته الذين لم يغيبوا عن ذاكرته الخصبة ، منذ ست سنوات ، بلياليها، وأيامها الطويلة .
صمّم على أن تكون تجربة المعتقل مفيدة وثرية ؛ لذا فقد رسم خطة ، وحدد معالم الطريق التي لا تتقيد بحدود الجدران والأسلاك الشائكة .
حاور نفسه ، في أول ليلة أمضاها ، بعد النطق بالحكم الجائر : عليك أن تواصل تثقيف نفسك ، صحيح أنك أنهيت دراستك الجامعية ، ولكن هذه الشهادة لا تكفي .ابتداء من الغد، ستعكف على القراءة ، ومطالعة الكتب الثقافية والعلمية ،على اختلاف أنواعها ، بلغتك العربية الجميلة ، وستطور لغتك الإنجليزية ، وستعكف على تعلم اللغة العبرية ، قراءة وكتابة ، وستتعمق في دراستها ؛ حتى تتعرف على أسرارها ، ومكنونات أفكار ومخططات أصحابها ، وستكون يوما ما قادرا ، على ترجمة ما تعتقد أنه مفيد لوطنك، وستكون أمينا وواعيا ومدركا لما تقرأ وما تترجم .
مضت الأيام والسنون ، وتحقق له ما أراد ، وأصبح مرجعا ثقافيا، و علَما محبوبا من أصدقائه المعتقلين الذين أحبهم بدوره، ولم يبخل عليهم بمعلومة، بل كان يجيب عن الأسئلة برحابة صدر ، ويشكل طاقة إيجابية مشعة وملهمة .
في الأشهر الأخيرة من سنوات اعتقاله ، كان يرسم في مخيلته تلك اللحظات المفعمة بالمشاعر الحزينة ، حينما يودع إخوته ورفاقه الأعزاء ، ويغادر المعتقل ، ويتركهم. 
وفي الوقت ذاته ، كانت ترتسم أمام عينيه مشاهد الاستقبال ، واللقاء بالأم الحنون ،والوالد العطوف ،والجدين العزيزين، والأخوات والإخوة والأصدقاء والمعارف ، فيبتسم، وينشرح صدره ،وهو يتوقع أن تشاركه الطبيعة فرحته بمعانقة فجر الحرية ، فتتزين الروابي والسهول والجبال بالعشب الأخضر ، والأشجار الريانة، وشقائق النعمان الحمراء ، والأزاهير على اختلاف أنواعها وأشكالها ، أجل ...فسيكون موعد خروجه في الربيع ،في شهر نيسان، أجمل الشهور .
لم يدُر بخَلَدِه أن خروجه من المعتقل ، سيكون في صورة مناقضة لما رسمه وتخيله. فلن يتمكن من احتضان أمه ،وأبيه وجديه، ومعانقة إخوته وأصدقائه ومعارفه . 
لن يسمح لنفسه ،أن يكون سببا لشقاء أو مرض إنسان ؛بسبب فايروس الكورونا، سيضحي بكل هذه الطقوس الدافئة ، وسيكتفي بأن يختزنها في تلافيف وجدانه ، وأن يحتضن الفرحة في قلبه ، وسيكتفي بحاسة النظر ، ستشرق عيناه بالفرح ، وهو يرى أحباءه فرحين معافين أصحاء، وسعداء ،وهم يلوحون له بأيديهم ، و يطيرون قُبَلهم في هواء الحرية الذي يتنفسه لأول مرة ، بعد غياب استمر ست سنوات .



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق