لا زلنا على موعدٍ مع الشمس/ الاب يوسف جزراوي

هذه المرّة لا أكتبُ عن عراقٍ أحبّه وإنّما عن إنسانيّة جمعاء
تسير بذعرٍ إلى دربِ الجُلجُلة
لتُعلّق على صليب الوباء.
عالمٌ يحتضر في مشهدٍ صامتٍ مُخيفٍ
صليبٌ ومصلوبٌ مع صالبٍ
لكن دون مطرقةٍ ومسامير وأكليل أشواكٍ
بل فايروسٍ يدعى كورونا أذعر المسكونة
استحدثوه أو طوروه ليغرسوه في رئة البشرية
ليفتك بحياة الانسان!
في أوروبا قالوا لنا :" إذا كنتم ترغبون في منع انتقال العدوى، يتوجب عليكم الجلوس في منازلكم ولا تغادروها إلا للضرورة القصوى".
لهذا لم يعد لنا سوى نافذة أو شرفة وحيدة وضيقة نطلُّ من خلالها على العالم الخارجي الذي أصبح في خبر كان!!
في هذا السجن الاختياري
يطالعني عبرَ التلفاز نحيب وردةٍ سقطت من كتابِ طبيبٍ
كان يحارب العدو كورونا في الصفوف الأماميّة فسقط شهيدًا في معركة البقاء!
كما أشاهدُ زهورًا ارتدت كمامة على وجهها وأحنت رؤوسها
موضوعة مع شموعٍ بجوارِ صورٍ لضحايا نال منهم الوباء العجيب!!
وأمام هذا المشهد المرعب ليس لي إلّا أن ألوذ بالصمت وأضع مخاوفي في قوالب ثلجٍ
وألجأ لمناجاة ربي :
ربّاه لقد غسلت البشريّة يديها من الجميع
ما عداك أنت يا الله.

صالح ذاتك وصافح نفسك


فيما مضى من سنواتٍ كان معظمنا يشكو من قحط الوقت وغياب عدالة الحياة ومن قسوة الظروف وثقل الأعمال وعدم جدوى الانفتاح على الناس ناهيك عن الحروب والتهجير وسياسات الحكومات الرأسماليّة التي تمتص رحيق حياة الإنسان بجعله ماكنة عمل!
لكن في عام الكورونا وجد الإنسان نفسه أمام عزلة إجباريّة، وقت طويل، حجر صحي أو منزلي
في عالم يحتضر!
لقد أعادوا للإنسانيّة الوقت الذي كانت تتشكى من قلته
ولكن الكثيرين ما عادوا يعرفون ماذا يفعلون بهذا الوقت!
فهو زمن لنعيد فيه اكتشاف ذواتنا والآخرين ولندرك قيمة الحياة.

شرُّ البليّةِ ما يُضحك

المبنى الشاهق الذي أقطنه في هولندا
يضم شققًا سكنيّة عديدة
يسكن فيها النزلاء من كلِّ حدّبٍ وصوب
من مختلف الأجناس والأعراق والأوان والأديان
بمعنى من كلِّ حديقةٍ وردة.
صباح يوم أمس جلستُ في الشرفة المطلة على الشارع
أستمعُ للموسيقى والترانيم فهما وصفة علاج
أجلس قبالة ذاتي وكتاباتي، أحتسي الكابتشينو بالعسل
بينما السيجارة ملء فمي
فجأةً أطلّت عليَّ جارتي الهولنديّة من شرفتها بقناعٍ صحي
وألقت تحية الصباح ليس بالكلام بل عبرَ حاجبها وبعيون باسمات!
بادلتها التحية بالمثل!!
جاري الآخر وهو مصري سلفي الذي رفض معايدتي في عيد الميلاد ورأس السنة الميلاديّة لوّح لي بيده بدهشة الأطفال! ثم سألني عن يوم العيد. فقلت له: الاسبوع القادم.
فإذا به يقول بلهجته الجميلة: "كلُّ سنة وأنتَ ونحن والبشريّة بخير يا عمنا". وأردف: "والنبي أدعيلنا، والعذرة عليك بتدعيلنا".
قلتُ في سرّي: سبحان كورونا مغير الأحوال. شكرته وقلت له: لك من قلبي السلام وخالص الدعاء بالخير والصحة.
لكن شرُّ البليةِ ما يضحك حين سألته جارتي الهولنديّة عن (رولة) واحدة من ورق الحمام
استجاب لطلبها في الحال ورماه لها عبرَ الشرفات؛ فإذا بها تخرجُ من معطفها مطهرًا Sanitisrt لترشه على ورق التواليت وقاية وتعقيمًا من الفايروس اللعين الذي غرس في نفس الإنسان الوسواس القهري!!
حاولت الكتابة في الهواء الطلق لكنني أطلقتُ شهقة تعجب حين جاءني صوت جارتي العراقيّة من شرفتها في الطابق العلوي وهي تقصُّ لجارتها الافريقيّة عن وفاة زوج عراقي جرّاء لكمة من زوجته بواسطة مقلاة تيفال!
وتزيد: إنّها الحالة رقم مئة دون أن تعلن عنها الحكومة العراقيّة خوفًا من تفشي الذعر وانتشار الهلع بين صفوف الرجال!!
فما كان من السّيّدة الافريقيّة إلّا أن تسدي لها النصيحة
بإرسال زوجها مع الاولاد لممارسة رياضة المشي في الحديقة ( البارك) المجاورة للمبنى
ليتم اعتقاله من قبل الشرطة بحجة خرق قانون الحجر الصحي لتنعم براحة البال لعدّة أيام كما فعلت هي!!
ضحكت حتّى كادّت عيني تدمع من شدِّة الضحك.
مرّت الدقائق وإذا أحدهم يعطس في الهواء الطلق، ليهرول الجميع مذعورًا إلى الداخل موصدًا النوافذ وأبواب الشرفات
فعطسة المرء ورذاذه باتا أشدُ فتكًا بالإنسان من أيّ قنبلةٍ
موقوتة!!!.

بشائر مرح وأبوام شؤم
____________

في الحجر المنزلي الوقت طويل وثقيل، أخبار التلفاز تسمم البدن؛ أمّا وسائل التواصل الاجتماعي فقد غدت منابرَ لأبوام الشّؤم، فخبر من هنا يحصي عدد الموتى في بلده أو في العالم أجمع، وخبر من هناك مفاده ارتفاع عدد المصابين بالفايروس؛
بينما البعض راح ينشر المرح والسخريّة
فهذا يغرغر فمه وبلعومه بالخل
وقاية من المرض
وذاك يغسل فمه بالماء والملح
وتلك بالمطهرات
وآخرون بالماء والليمون
متناسين من قال :
" لا تخافوا الذين يقتلون الجسد
بل الذين يقتلون الروح"
ولعلَّ المبكي المضحك هو أن ترى مقطعًا مصورًا لرّجلٍ يعزف على أعواد منشر غسيل الملابس وكأنه آلة القانون هروبًا من رتابة الحجر المنزلي أو ربّما من ثرثرة زوجته وزعيق الأطفال !
ولعلَّ الانكى من ذلك هو انصراف مجموعةٍ من النساء لقضاء الوقت في الطهي وكأنه حجر مطبخي وليس حجرًا صحيًا، ولكن حين يُعرف السبب يبطل العجب،
فبعض النساء رحن مازحاتٍ يطهين المأكولات عالية الدسم ليصاب الرجال بارتفاع نسبة السكر والكريسترول وضغط الدم
بحجة أن الفايروس لا يهاجم إلّا كبار السن وأصحاب الأمراض المزمنة!!
وكأن النساء في تحالف مع الفايروس ضد الرجال
ناهيك عن رسومات لا تبرأ من النكتة مؤداها
تجوال الحيوانات الطليقة
في حديقة الإنسان
في مشهدٍ معكوس
أما عن أنواع التحديات
عبر وسائل التواصل الاجتماعي
فقد يطول الحديث عنها إن بدء
فهذا يعزف وتلك ترنم
وذاك يقرأ وآخر يصلي علانية
متناسين أن السيّد المسيح أوصى
" إن صليت فادخل مخدعك ( ذاتك)
وأغلق بابك وصلِّ في الخفاء
وأبوك الذي في الخفاء يراك يجازيك علانية"
.....
تداعيات فايروس الألف الثالث

عالمنا ينزف آخر أنفاسه كحمامة جريحة
فالكلُّ محتجز في البيت
وساعات الحجر لا يسير عقربها
نرشفُ ماء الانتظار بكأس الصبر
فحتّى متى سنبقى على هذه الحال؟
ولكن في حال خرج الإنسان منتصرًا من حرب كورونا
هل ستعود وتيرة الحياة كما كانت؟
معظمنا سيخرج بمعاناة من أمراض جلديّة نتيجة الاسراف في استخدام المعقمات بالمطهرات!
وماذا عن جلطاتنا النفسيّة وأمراض التوحد وكسل الدورة الدمويّة والوزن الزائد...!
فلقد أثبت الحجر المنزلي أنَّ الإنسانَ هو الإنسان
في كلِّ زمانٍ ومكان
مهما تنوع دينه واختلف لونه
وتعددت أصوله ولغته
فهو هارب من نفسه
ومن مسببات الأمور
لا يجيد استثمار أوقات الفراغ على نحوٍ إيجابي
فلا يرى الجزء الممتلئ من الكأس
بل العكس
فهذا الوباء سبّب قطيعة بين الإنسانية
ربّما لنكتشف قيمة الحياة وضعف الانسان
ومقدار تعلقه بالأشياء
ولعلّه زمن
لإعادة اكتشاف أنفسنا والآخرين من جديد
لنكف عن رجم أحدنا الآخر
فالبشر جميعهم وبلا استثناء عرضة لهذا الوباء
دون تمييز أو تخصيص
فقد تساوى الجميع ؛ الفقراء والأغنياء ، الحاكم والمحكوم
المريض والممرض المعالج
عزيزي القارئ لست هنا لكي أرمي أحدًا بحجر الانتقادات أو أبارك أحدًا وأثني على ما قام به أو فعل بل لتسليط الأضواء ليتسنى لنا الرؤية بمنظور آخر.
لقد عدتُ للكتابة مرّة أخرى نزولاً عند رغبة بعض الأصدقاء وتحديدًا تلبية لمطلب أحد الكهنة المقربين إلى نفسي،
فبعد صمت وترقب وطول انتظار ارتأيت أن أدلي بدلوي من منظور اجتماعي وإيماني فبنيت كلمتي على من كان في البدء كلمة وما يزال:
فلا أجد غضاضة إن قلت:
تذكَّر أيُّها الإنسان
إنَّ الرَّب لن يحاسب
بنفس المقدار
فقيرًا سرق حفنة نقود
من أجل شراء لقمة خبز
لإطعام أطفاله الجياع
أو لشراء دواء لوالده المريض
ولا سيحاسب فنانة أدت الدور الذي أنيط بها
ولا عاملًا متقاعسًا
لم يقم بعمله
على أتم وجه
ولا فتاة مهاجرة غُر بها لكي تبيع جسدها
نهارًا جهارًا
لظروف قسرية وقاهرة
لتعيل عائلتها في بلدها الاصلي
بعد أن أوصدت في وجهها جميع الأبواب
بل سيحاسب أناسًا
جعلوا بيوت عبادته
بؤرًا للفتنة والاختلاف
وقبوًا للصوص والسّرّاق
ومشغلاً يدر عليهم الأموال
من عرق الكادحين
أجل سيحاسب الرب كل من
حرض على انتهاك حياة أخيه الإنسان
بسبب ملة أو عقيدة أو دين أو قوم ما
أو لأجل أحزاب ومليشيات
سيحاسب ساسة
جعلوا الكون -رائعة الله-
مسرحًا للحروب والاقتتال
وجعلوا الانسان
مختبرًا للفايروسات.

لازلنا على موعدٍ مع الشمس

كلُّ شيءٍ وصلنا من الصين الشعبيّة كان تقليدًا؛ إلا فايروس كورونا كان أصليًا!!
فوسط عالم يحتضر وينزف آخر أنفاسه كحمامةٍ جريحة لازالت البشريّة تُحارب الفايروس اللعين ( أبو كمامة الكوروني) بالحجر المنزلي والصلاة وبالجيش الأبيض( الأطباء).
لنوقد الشموع ونرفع شفاه قلوبنا إلى الرب صانع المعجزات لكي يشرق علينا نور القيامة من هذا الوباء.
أجل كن إيجابيًا وصلي، لان الصلاة مفتاح الفرج.


أخيرًا
في زماننا هذا يتخيل الكثيرون جرّاء الحروب والأوبئة أنّ الله أحال نفسه على التقاعد!! ولكن في حقيقة الأمر هم مَن أحالوه على التقاعد من حياتهم واجتثوه من أعماقهم
تذكَّر أيها الإنسان
أنّ الرّبّ الإله
ليس سببًا في هذا الوباء
وليس انتشاره عقابًا منه
لأنّ الله أب حنون لا يسعده منظر الموت
ولا يتلذذ بمرض الإنسان
لأنه إله محبة ورحمة وخير
بل هو إله حياة
ألم يقل في إنجيله المقدس
" أتيتُ لتكن لهم الحياة وتكون بوفرة"
فلنتخذ إذًا من بيوتنا صوامع اختلاء وصلاة
لندرك كم أجرمنا بحق أنفسنا والآخرين والحياة
التي وهبها الله لنا
كنعمة كبرى وهبة عظيمة
وكم نصبنا المشانق الفكرية والنفسية والاجتماعية لبعضنا البعض
فلكي لا يبقى مشهد حياتنا على هذا المنوال
لنجعل من زمن كورونا
زمنًا للتصالح مع الذات والعودة إلى الله
لنمد يد المصالحة للذات وقلوب المصافحة لذلك الآخر
فنرسم معًا غدًا مشرقا
نطل به من نوافذ الحياة
فإن كانت حياة الإنسان مسيرة إيمان متجددة؛ فإنَّ المسيح هو الطريق:
طريق الإنسان إلى نفسه( ادخل مخدعك)،
وطريق الله إلى الإنسان( الكلمة صار جسدًا وحلَّ فينا)، وهو طريق الإنسان إلى أخيه الإنسان( من سقى أحد هؤلاء الصغار كأس ماء.... كنت جائعًا ، مريضًا... شاول لمَ تضطهدني؟).
ويسوع أيضًا طريق الإنسان إلى الآب ( لا يمضي أحد إلى الآب إلا بي).
فوسط ما يحيط بنا من قلق ووباء وتغيير في طرق الحياة
مازلت أسمع صوت يسوع ينادي:
ما بالكم خائفين...لا تخافوا...أنا معكم إلى انقضاء الدهر؛ ثقوا أنا قد غلبت العالم)
فكن إيجابيًا أيُّها الإنسان ليجد فيك الآخرون حواضن فرح ومكامن رجاء ومشاعل نور وقناديل إيمان
لهذا أجدني على يقين مطلق
بأن هناك نهاية أخرى
قبل صياح الديك
تعج بفرح الخلاص وبهجة الحياة.
آمين

هولندا/ خرونيكت

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق