شَوْكُ الوَرْدَةِ وخيطُ الشّمعةِ/ الاب يوسف جزراوي

أمام مَرأى النهرِ، حَكَّت يَدُ الشَّمْسِ عيونَ القَمَرِ؛ ففتحَ الليلُ جُفُونهُ على تثاؤبِ النهار. لكن الَّليْلُ أرهقهُ المَسيِرُ إلى الصَّبَاحِ، وكَأَنَّ للشّمْسِ عينًا تتناءى عن النَّومِ!.
اِمتشَقَتُ قَلَمِي لأكتبُ نصوصًا من حَطَبِ الكلمات، لَكِنَّهُ تَرَكَنِي! فالْيَرَاعُ في كَسِلٍ، لدرجةٍ أرجأ الكتابةَ إلى حِينٍ أجهلهُ!.
رَمَيْتُ القَلَمَ جانبًا فوقَ القِرْطَاسِ، لَا سِيَّمَا وهُنَاكَ الكَثِيرُ لَا سَبِيلَ إلى كتابتهِ!.
فَجأةً تَوَقّفَتْ تكَّاتُ بندول السَّاعَةِ، فعرفتُ أنّها الرَّابِعَةُ أَرَقًا وعَيناي ما تزالان تُحَلَّقُان في سَمَاءِ النُّعَاسِ.
دُونَ غِرَّةٍ، حرّكَ هواءٌ خفيفٌ السَّتَائِرَ، تَوَجَّهَتُ للنَّافِذَةِ، فرأيتُ أَسْرَابَ الطُّيوُرِ الراحِلاتِ مُشرَّدةً في السَّمَاءِ، ليس لها مكانٌ تَحُطُّ فِيهِ!. 
تَسَاءَلَتُ في قَرَارةِ نَفْسِي:
لماذا الطُّيوُرُ مَستَيْقَظةٌ إلى الآن؟!
لماذا تُحَلّقُ لَيْلاً حِينَ يَكُونُ النَّاسُ نِيَامًا، رَغمَ أنَّ السَّمَاءَ مُلَبَّدةٌ بالسَّحَابِ؟!
أَلَمْ تتعب أجْنِحتُها؟ أَلَمْ تُّفكّرْ في الاسْتِرخاءَ فوقَ النخيلِ، في أَسْطُحِ الْمَبَانِي أو على أَعْمِدَةِ الكَهْرَبَاءِ؟!.
ولِمَ لا تَخْلدُ للنّومِ بَيْنَ الأحراشِ أو في الأعشاشِ التي بَنَتها وَسَطِ الْأَشْجَارِ؟!.
وبَيْنَمَا كنتُ أرهقُ ذِهنيّ في تسَاؤُلاتٍ فيها كَدٌّ عقليٌّ، لاحَت في الريفِ أخاديدُ فجرٍ جديدٍ، إذ حَانَ مَوْعدُ الإِقلاعِ إلى المِسَاحاتِ الخَضْرَاءِ فهي مفيدةٌ. خرجتُ أَجُولُ في الطّبَيعةِ لاتأكد من اختلافي وَتفَرّّدَي، فلَا أَحَدَ يشبهني في عشقي للطّبَيعةِ!. 
اِنشرحَ صدري واِنبلجَ وَجهي كالشّمسِ؛ فالمناظرُ تَسُرُّ النّاظِرِينَ. الهواءُ هفهافٌ نقيٌّ والنسيمُ عَليلٌ شجيٌّ؛ أمّا النَّدى فََقدْ غَسَلَ النَّوَافِذَ وبَلَّلَ أَوْرَاقَ الزَّهْرِ. 
مضَيتُ بينَ الحشائشِ نَازحًا عَن نَفسِي، أتّبِعُ فَراشَةً زَاهَيةَ الألوانِ، تَسْبَحُ في الهواءِ باِنخفاضٍ، في بطءٍ واِسترخاءٍ، فوَجَدْتَنِي أتَسلّقُ المرتفعاتَ نحوَ السَّمَاءِ، لأرسم خارِطةَ بِلاَدِي على السَّحَابِ. ولكنّ شَيْئًا مَا أزْعَجَ الغَيْم وأَمْطَرَ حَتَّى نَالَ حُميّا الغضبِ من الطُّيوُرِ الْمُهَاجِرَاتِ فتعَكَّرَ صَفْوُها وامتَنَعَتْ عَنِ التّغريدِ، لتحطّ على أغصانِ شَجَرةٍ باسقةٍ، غَرَسَتْ جُذُورها مخالبًا في قَلْبِ الأرضِ المَجَاوِرَةِ لكُرومِ العِنَبِ، وتلكَ الكُرومُ آثارٌ باقيةٌ مِن بابلَ !. 
هَرَوَلتُ مُسْرِعًا مِنْ عُلُوٍّ شَاهِقٍ إلى القاعِ، ورويدًا رويدًا رحتُ ألهَثُ من التّعبِ؛ بَيْنَمَا ملابسي ابتلّت حَتَّى تَثَاقَلت خطواتي.
أَسْنَدَتُ ظَهْرَي إلى جِذْعِ نخلةٍ لأستَكين لبرهةٍ وألتَقَطُ أَنْفْاسَي. حَطَّ بالقربِ منّي طائرٌ تائِهٌ، رأيتهُ كالزّاهدِ، يَرْشفُ جُرْعَة ماءٍ يَسدُّ بِهَا الرَّمَقَ؛ بَيْنَمَا عيناهُ تَرْنُو إِلَيّ، وكُلّما وقَعَتْ عَيناي على عينيهِ اِزْدَادَت أحزانهُ مِدْرارًا، فكِلاَنَا مُتعَبٌ كوَطَنٍ مُحتَلٍّ!.
بِه أوجاعٌ وأشجانٌ تثورُ كالبركانِ، كَما لديهِ كَمٌّ هائلٌ مِن الدّمعِ يُبلّلُ الحقولِ اليَابِساتِ!! فقد قَرَأْتُ في نظراتهِ الْحَزِيَنَةِ أنّهُ طائرٌ عراقيٌ، فرَّ هاربًا من سَمَاءِ العِراق خوفًا من طَائِراتِ أمريكا وصَوَارِيخِ إيرانَ، بل مِن قَنَّاصِ المليشيات ومصّاصي الدِّماء.
تَفَرّسَتُ في مَلاَمحهِ مَلِيًّا فوَقَعَ على مَسْمَعي آهاتٌ لجُرْحِ وطَنٍ أَضحَت سماؤه كأرضهِ، كِلاَهما في مَخَاضٍ، يَنْتَظِرانِ ميلادًا رَغْمَ أنَّ السَّمَاءَ سَمِعَت ورأت كُلّ شيءٍ!!.
ابتسمتُ في وجههِ، لكَيْ لا أُفسِدَ عَلَيّهِ راحَتَهُ مِثلَما أَفْسَدَ عَليَّ خُلْوَتي.
مَسَّدْتُ جناحَهُ، فسَحَرنَي مَلْمَسُهُ النّاعِمُ وسألتهُ:
لماذا هذا التَّرْحَالُ؟
اِلتَفَتَ إِلَيَّ في الحال وأجاب باستفسارٍ :
أَحَقًا تسأُلُ؟! 
ثَمّ رَاحَ يُناكفني الْكَلَام:
وماذا يُجْدِيّك نفعًا لَوْ عَرَفتَ؟!
ولا أعلمُ لماذا تنهّدَ في وجهي حِينَ قال:
عَنْدَمَا تجدُ الدّلافينَ تُحَاولُ أَكلَ السَّمَكِ في لَوْحةٍ مُعلّقةٍ على الجُدْرَانِ! وحِينَ تجدُ القَادَةَ يمنَحونَ الزُّناةَ أوسمةً ويقٌلِّدونَ السُرّاقَ بالنَيَاشِين ويكَرّمَون الْفُسَّادَ، حَتْمًا ستبيحُ لنفسك التَّرْحَال. وحِينَمَا تُقْطَفُ الوُرُودُ الطَّبيعيَّةُ لتنامَ بينَ طيّاتِ كتبٍ مُبعثرةٍ فوقَ ساعةٍ لا يسيرُ عقربها، وُجُوبًا ستبيعُ الفراشاتُ والنوارسُ أجنحتَها وتهاجرُ في سُفُنٍ بِلا قُبْطَان!.
إنّهُ ترحالٌ دُونَ عذرٍ ولا اعتذار، لقادَةٍ اغتَنَوا من أَمْوَالِ الْيَتَامَى وجوعِ الفُقرَاء. أَسْمَاؤُهُم لَمْ تَعُدْ صالحِةً للمُناداةِ. 
فكَم مرّةٍ مُتنا بسببهم؟! أوَلم نمشي في جَنَائزنَا كُلّ يومٍ في وطنٍ أعلنوا عليه الحداد!.
أؤمَأتُ برأسي ونَهَضتُ واقفًا كالنخلةِ لَحَظَة توقفَ المَطَرُ، سرتُ إلى ضريحِ صديقٍ رحلَ عَنِّي جسدًا وبقيت روحهُ معَشِّشةً في الوِجْدَانِ، فإَلَيْه وحدَهُ يخفقُ النّبضُ وتتسارعُ الأنفاسُ!.
لحِقَني الطّائرُ مُتسائلاً: 
إلَى أَيْنَ تَمضي؟!
رمقتهُ بنظرةِ وداعٍ وقلت:
دَعنِي وشأني. 
لكِنَّهُ أصَرَّ أن يَقتَفي أثَرَي ليزخَّ عليَّ التَّسَاؤُلَاتِ!
وصَلتُ إلى شَاهِدَةِ القَبْرِ، فوَجَدْتُ صَليبًا وشَمْعُدانًا. وضَعتُ الوُرُودَ وأَوقَدتُ البخورَ وأنا أهَمَسُ للطّائرِ بعيونٍ دَامِعَاتٍ:
هل يَسْمَعنا المَوْتَى؟
هل يَشَمّونَ أريج زهورنا؟.
تَنَهَّدَ الطّيرُ، وهو يَصُونُ ابتسامَتهُ الأخيرة عَنِّي، غَيْرَ أنّي أحَسَّسْتُ هدوء أنْفَاسهُ، بالرَّغمِ من الوَجَعِ الرّابض في صمتهِ!.
حِينَها أَدرَكتُ أنّني والطّائر افتَرَقْنَا عَنْدَ نُقْطَةِ الْتِقَاءٍ، بعدَ أنْ وقفَ الكلامُ على مَنصّةِ الصّمت! فحَلَّق بجناحينِ لَا تحدَّهما سَمواتٌ، مُلْتَحِقًا بسَرَبِ الطّيوُرِ وهي ترسمُ دوائرَ جميلةً في كَبِدِ السَّمَاء وتهبُ الْفَرَح من لجّةِ الترَّح!.
رحَلَ الطّائرُ النَاقِمُ على وَطَنهِ ليُّوَطِّنَ نفسَهُ في غربةٍ ستدفَعُهُ لِأنْ يَسْبِرَ أغوارَها، دُونَ أنْ يدركَ أنَّ الخيطَ الذي اِحتَضَنَتهُ الشّمعةُ في دَاخَلِهَا هو مَن عجَّلَ في فَنائهِا!! وأنَّ الوَرْدَةَ التي عَانَقَت دِفء الشّذى، أصابها شَوْكُها بالأذى!. 
فرَدَ الطّائرُ جناحيه وطارَ ليُبذخَ رَحِيْقَ صوتِهِ العِراقيِّ فوقَ دُرُوبِ صَمْتِي وغربتي، بعدَ أن نَفَثَتُ دُخَانَ سِيجارتي على جناحيهِ؛ ولكن فَاتَني أن أُخبَرَهُ، حِينَ يعودُ سوفَ لَنْ يَجِدَنِي أَسْنَدُ ظَهْرَي في ذاتِ المكان!.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق