يقول جبران خليل جبران: "من علّمني حرفاً كنت له عبداً". ولعلّ الصّحيح أن يقال: "من علّمني كيف أفكّر". فبناء الإنسان بالدّرجة الأولى يفترض تعليمه كيفيّة التّفكير المرافقة بشكل أساسيّ لتعليم الحرف. ولكي يتمكّن الإنسان من سبر أغوار الحرف فلا بدّ من أن يتعلّم كيف يفكّر. ما لا نراه غالباً في مجال التّعليم. فالمعلّم يلقّن الدّرس وحسب دون أن يعلّم الطّالب كيف يفكّر. وكأنّ الطّالب وعاء يسكب فيه المعلّم معلومات ثمّ يطلب من التّلميذ أن يحفظها ثمّ يردّدها في امتحان ما، ليبدأ التعليم وينتهي بين هذين الطّرفين، التلقين والامتحان. ما يسبّب خمولاً للعقل على مستوى إنسانيّة الطّالب، فيتدرّب على التّلقّي بمعزل عن الجدل الذّهني واستفزاز السّؤال لدى الطّالب.
إنّ عمليّة بناء الفكر أشدّ صعوبة من تعليم الحرف، ودور المعلّم بناء الفكر، ولا يقتصر عمله على التّلقين وإلّا لما قلنا إنّ التّعليم رسالة. ولكلّ إنسان فكره، ومن المهمّ الاهتمام بتعليمه كيف يفكّر، وكيف يتلقّى، وكيف يطبّق ما تلقّاه وكيف يستعيده ذهنيّاً. لذلك فأوّل خطوة في التّعليم هي بناء الفكر وتدريبه على منهجيّة التّفكير.
والخطوة الأولى في هذا البناء تبدأ في الفصول حيث ينبغي على المعلّم أن يشرح للطّالب ماهيّة المادة الّتي يتلقّاها ولماذا وجب أن يدرسها مع شرح ولو باختصار عن أهمّيّة هذه المادّة أيّاً كانت. غالباً ما يسأل الطّلاب لماذا نتعلّم هذه المادّة أو تلك؟ وما فائدتها؟ فهو يجتهد في درس هذه المواد بغض النّظر عن أهمّيّتها، ومطلوب منه أن يحصّل أعلى الدّرجات وإلّا كان فاشلاً أو كسولاً. وبالتّالي فأهمّيّة أن يعرف التّلميذ أو الطّالب أهمّيّة المواد الّتي يدرسها وسبب دراستها وهدفها منوط بالمعلّم. فلا يكفي أن ندرّس المادّة بل ينبغي أن نشرح أهمّيتها بمقدّمة بسيطة تساعد التّلميذ على محبّتها ورؤية أهمّيتها على المدى البعيد. يجب أن يعرف التّلميذ لماذا يدرس اللّغة الرّسميّة واللّغة الثّانية والحساب والتّاريخ والجغرافيا والعلوم والرّياضيّات والفلسفة والأدب... وإلّا كيف نحفّز في داخله الرّغبة في التّعلّم، وكيف نطلب منه أن يحبّ مادّة لا يعرف لماذا يدرسها؟ لا ضير في أن يشرح المعلّم للطّالب أهمّيّة التّاريخ ولماذا تجب معرفته ولا بأس بالخروج الذّكيّ عن بعض أكاذيبه ولا بأس بشيء من الخروج عن مضمون المادّة وتعليمه من خلال التّاريخ بناء المستقبل. ولا ضير في أن يعرّف المعلّم أهمّيّة الجغرافيا الّتي صارت في أغلب مناهجنا تاريخاً قديماً وتسليط الضّوء على أهمّيّتها من حيث بناء الحضارة. وبهذه العمليّة نستفزّ ملكات الطّالب من جهة ومن جهة أخرى نوجّهه نحو بناء مستقبله من خلال اختيار المادّة الّتي يريد أن يتخصّص بها.
قد يقول قائل إنّ المناهج المدرسيّة لا تسمح بذلك، والوقت المخصّص لكلّ مادّة لا يتّسع لهذا الشّرح. وأقول إنّ المعلّم الرّسول سيّد الفصل وعليه أن يكون سيّد الوقت وسيّد المنهج. وإذا كانت مناهجنا لا ترتقي إلى مستوى التّعليم المطلوب فمهمّة المعلّم الرّسول أن يجدّد المنهج بما يتاح بدل الشّكوى والخمول والانتظار. فبانتظار تغيير المناهج أو تعديلها ثمّة إنسان يُبنى وسيخرج إلى المجتمع فارغاً فلا نسألنّ بعدُ عن سبب تدهورنا وجهلنا المقيت. وقد يقول قائل إنّ هذه الأمور ترهق المعلّم، وكأنّ المطلوب ما فوق طاقته، إلّا إنّ التّعليم الرّسالة بناء ضخم أساسه معلّم مثقّف يتطلّع إلى أشخاص لا إلى آلات تجترّ الموادّ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق