إذ نحا البروفسور فيليب سالم "نحو قومية جديدة" (عنوان افتتاحيته في "النهار"، 13 حزيران 2019) أدرك أن المئوية الثانية لإعلان دولة لبنان الكبير في 1 ايلول 1920، ادركتنا، فماذا اعددنا لها فكرياً وسياسياً؟ وهل لبنان قادر على الاستمرار بأدبيات فكرية نشأ عليها قبل قرن، وتفاعلت عواملها قبل قرنين؟ أليس علينا تجديد خطابنا ونظامنا السياسي، بل اكثر تجديد فكرنا الذي بني عليه الكيان اللبناني؟ وما العظات التي اتعظنا بها لتصحيح الخلل ومعالجة العلل التي أوصلتنا الى ما لا تحمد عقباه؟
حين إعلان دولة لبنان الكبير وصفها البعض بأنها "صنيعة الاستعمار"، لكنه صار مقتنعاً بأنه كيان واجب الوجود وليس مصطنعاً، وبأنه تجربة سياسية اجتماعية تستحق الحياة، لأنّ جذوتها فيه ليست محدثة، بل قديمة، وليس سطحية، بل عميقة في تربة الشرق.
بعد مئة سنة من اعلان الكيان صار قبلة العالم، بتجربة فريدة لا ندري أوضعت آنذاك، عن وعي وادراك بنتائجها، أو وضعت لغايات ومصالح، أولأهداف مبيتة،كما يفترض البعض،أو جاءت بالمصادفة مولوداًهجيناً، نما في مئة عام فهرم، لكنه صار امثولة يمكن ان تحتذى، فتستنسخ بعد ان تقوّى بفكر قومي جديد.
صيغة لبنان غير المكتوبة وميثاقه الذي يختلف على تفسيره، صمدا أكثر مما تصمد المعاهدات المكتوبة، لأنّ اللبنانيين ارتضوهما عقداً اجتماعياً سياسياً ينظّم حياتهم، فكيف نحافظ عليهما، أبعقد جديد، أم بتأهيل العقد القائم بما يجعله صالحاً للمستقبل؟
كانت ميزة لبنان التاريخية أنه صار ملجأ للشعوب المضطهدة والجماعات الدينية والمذهبية والاتنية التي أُصلتت على رقابها السيوف في شرق استخدم العنف والقتل سبيلاً الى السلطة والحكم، من جبال الاناضول الى شطآن العرب وخلجانها، فما وجدت إلّا جبال لبنان حامية من الجور والظلم والاضطهاد فلجأت اليه، فتكوّن "موزاييك" لبنان وتعدديته التي هي مفخرته. تسامح لبنان أثقل عليه في السنوات الأخيرة، وفرادته جلبت عليه الاثقال والهموم، فنَاء تحت حمل ثقيل تمثّل بالنازحين السوريين الذين قارب عددهم نصف عدد سكانه، بعدماتحمّل اللاجئين الفلسطينيين قبل 70 سنة عقب استقلاله. كفى هذا الوطن، فقد امتلأ بالنازحين واللاجئين حتى التخمة، وعدم القدرة على مزيد من الاستيعاب، وهذا في حد ذاته يستدعي النقاش في قومية لبنانية جديدة.
مئات السنوات عبرت بين لبنان الملجأ ولبنان الرسالة، تقلبت فيها معاني لبنان ودوره، منذ ذكرته النصوص الدينية والتاريخية القديمة حتى تحدث عنه البطريرك اسطفانس الدويهي في كتابه "تاريخ الأزمنة"، وتدرّج معنى لبنان خلال سنوات طويلة من السيطرة العثمانية التي استمرت اربعمئة سنة. ومطلع القرن السابع عشر حاول فخر الدين المعني الثاني تظهيراستقلال جبل لبنان، لكن الدسائس والمؤامرات قضت عليه وعلى مشروعه. واستمرت الفكرة بتكوين كيان جبل لبنان الطبيعي والاجتماعي حتى القرن التاسع عشر، حين صارت اللغة العربية هي العامل الجامع للعرب، ولا سيما المسيحيين، وفي منتصفه اصدر هؤلاء الصحف في بيروت والقاهرة واسطنبول نتيجة انتشار التعليم في جبل لبنان، فكانت الصحافة اداة الوعي السياسي الاولى في تلك المرحلة.
من نحن؟ ماهي ميزة لبنان؟
مطلع القرن العشرين وقبيل سقوط السلطنة العثمانية تساءل اللبنانيون: من نحن؟ وحاولوا الاجابة عن هذا السؤال لإعطاء لبنان الذين يحلمون به معنى. وبعد اعلان دولة لبنان اتخذت الاجابات عن هذا السؤال وجهة تبرير الكيان الناشئ وضرورته الوجودية والمعاني التي يختزنها وجوده، واستمرت الاجابات الى ما بعد الاستقلال. وتردد السؤال بقوة قبيل الحرب عام 1975 وفي أثنائها بتأثير الصراع الاسرائيلي الفلسطيني والاستهداف الدولي للبنان، الذي غلّف بالصراع الطائفي، وأعيد طرح هوية لبنان ودوره ومعنى وجوده حتى أتى مؤتمرالطائف فحسم الإجابات في ما يتعلق بالوطن النهائي وبنظامه السياسي،ثم جاء البابا يوحنا بولس الثاني فحسم معناه ودوره، إنه رسالة الى العالم.
لم تُستنفد معاني لبنان، وها هو سالم يخلق للبنان معاني جديدة لوجوده واستمراره، ويجيب عن سؤال: ماذا نريد؟ ونحن على عتبة القرن الثاني للكيان اللبناني، على الجميع الاجابة عن السؤال، كي نكون قادرين على الاجابة عن سؤال: ما هو مصيرنا؟
بنى فيليب سالم عمارته القومية على رسالة لبنان ومعناه، رسالته الحضارية التي طوّعت صراع الحضارات باستخدام العقل والحوار، فصار انموذجاً فريداً في نظامه السياسي الذي جمع طرفي العالم المسيحي والاسلامي، الشرقي والغربي، على غصن زيتون، والخلافات الحادثة لا تزعزع قاعدته الصلبة القائمةعلى الرسالة التي تؤكد انموذجيته، لأنها تضفي عليه دينامية الحوار والتجدد. والخلافات مشروعة في الاسرة الواحدة والبيت الواحد، كانت وستبقى، لكنها لا تفقده معناه، ما لم تصل الى الاقتتال، وهذا ما يجب أن يتعظ به اللبنانيون من حربهم السابقة التي يقولون فيها "تنذكر وما تنعاد".
من أين تبدأ المحافظة على لبنان للمستقبل البعيد؟
نبدأ من حيث بدأ الاولون، تحديد هوية لبنان، انه الرسالة والرمز والمعنى وليس ارضاً وشعباً ومؤسسات فقط. انه وطن نهائي ضمن جغرافيا محددة لجميع مواطنيه، وهو الرسالة بتعدديته الثقافية الحضارية، متمثلة بانصهار مسيحيين ومسلمين، تتجسد بأنموذجه الذي يتخطى دول العالم ذات المعاني وما تختزنه من تطلعات عالمية، بأن لبنان معنى المعاني، برمزيته التاريخية وتراثه وعنفوانه وكرامته.
ويحسم الولاء المطلق للبنان، فقد كان المفهوم الخاطئ للولاء لبّ المشكلة في نصف القرن الماضي، "إذ كان مقبولا أن يكون الولاء لسوريا أو لفلسطين أو لمصر أو لأي دولة عربية أولا، وان يكون للبنان ثانياً. وهذا ما قضى على لبنان". على الاجيال من الآن فصاعداً ان تعلن ولاءها الكامل للبنان دون غيره، والانتماء الى ارضه والانخراط في صنع مستقبله، لأن "السياسة هي ممارسة شعب بكامله صنع مستقبله، وواجب وطني يقوم به المواطن كل يوم لتحديد معنى الوطن وهويته".
حسم دستور الطائف عام 1990 أن الكيان اللبناني "وطن نهائي لجميع ابنائه"، بعدما حسن انتماءه العربي، فصار عربياً خالصاً بعدما كان "ذا وجه عربي"، لكنه بقي ذا ثقافتين. يقول سالم: "ان لبناننا ليس ذاك اللبنان الذي له "وجه عربي". نريد لبنان عربياً من رأسه الى اخمص قدميه، ولكننا نريده قائداًللعروبة وليس ذيلاً لها".
طالما تغلبت النزعة اللبنانية على تفكير سالم منذ كان صغيرا، لذلك اعطى لبنان حيزاً واسعاً وأولَ في كتاباته، وهو يقول "لم يكن مجده (لبنان) نابعاً من كيانه السياسي كان دائما نابعاً من كيانه الحضاري. من كونه مساحة للحضارة. من كونه "اكبر من وطن" من كونه رسالة للعالم. فالخطر اليوم يهدد جوهر لبنان وحقيقته. يهدد معناه الكياني".
كيف يتهدد معنى لبنان الكياني؟
لا أحد يشك في أنّ خطراً حقيقياً يواجه المسيحيين في المشرق وقد ظهرت طلائعه ولمسنا نتائجه في العراق وسوريا، فأين هم المسيحيون فيهما؟ وإلامَ آل مصيرهم؟ أما في فلسطين مهد المسيح والمسيحية، فأين هم المسيحيون؟ وما هو مصيرهم في لبنان؟ إنّ الخطر الذي يتهدد المسيحيين يتهدد اللبنانيين جميعاً، كما لبنان.
ان اللبنانيين يواجهون خطراً حقيقياً يجعل اثبات الرسالة وتحقيقها مهمة كبيرة تثقل كاهلهم، لكن الاقتدار على الخطر يعمق معنى لبنان ويعلي رسالته، اما حاليا فالرسالة الاولى الدفاع عن لبنان كي يبقى.
يعي سالم الأخطار لذلك وضع رؤية لحلول ممكنة، تبدأ باتفاق اللبنانيين على هوية لبنان، والارتضاء بمقدمة الطائف وتطبيقها بحذافيرها ففيها كل ما يقنعهم ويلبي طموحاتهم، خصوصا بحسم عروبة لبنان ونهائيته وطناً لجميع مجموعاته الطائفية، مرورا بتأكيد كل الطوائف والاطراف الانتماء للبنان والولاء له.
لا تنمو حضارة الشرق في صراع الحضارات، بل في وئامها، وهو دورها ورسالتها بدءاً بـ "لبنان الرسالة". في العالم كله اوطان، انما فيه رسالة واحدة، هي لبنان بمعناه ومبناه، إنه انموذج لحضارة شرقية تنتشر في العالم منذ التاريخ السحيق كحمامة نوح على أحد جانحيها رسالة المحبة والتسامح والغفران، وعلى الآخر رسالة الحرية والتعددية والديموقراطية، إن لبنان ليس صورة عن الرسالة ولا انعكاساً ولا ناقلاً لها، ولا أحد ممثليها ولا مترجميها ولا... إنه صانع الرسالة.
يذكرنا كلام سالم، في مقالته، وفي كتاباته، خصوصاً كتابه "رسالة لبنان ومعناه"، بكبار المفكرين المسيحيين في المشرق الذي أبدعوا أفكار القوميتين العربية والسورية، والذين كانوا طليعيين قادوا الفكر الخالص والادبيات الحزبية الى التحرر والاستقلال والتقدم من قسطنطين زريق الى ادمون رباط الى ميشال عفلق في القومية العربية، ومن المطران دبس والاب لامنس الى خليل وانطون سعادة في القومية السورية. وكثر لا مجال لتعدادهم في القومية اللبنانية التي انطوى الكلام عليها ما بعد الطائف، لكن ينبغي معاودته لتتويج قرن مقبل على الكيان اللبناني بإكليل من غار، لذلك جاء سالم بمقالته فاتحة لمعاودة مناقشة القومية اللبنانية من جذورها الى براعمها، فلنجب مجدداً عن اسئلة بَنَت الكيان اللبناني، وهي: بماذا تمايز لبنان؟ ما هو دوره المميز؟ كيف يؤكد تمايزه بتأدية دوره؟ قد تكون الاجابات عن هذه الاسئلة في أن للبنان دور خاص في عملية العرض والقبول بين الغرب والشرق، إذ ان جوهر الغرب هي المسيحية ولو انه عَلمَن قوانينه ومجتمعه ونظامه، ولأن طابع الشرق اسلامي بمجمله كان لا بد من وسيط مسيحي شرقي، بين غرب مسيحي وشرق مسلم فلبنان يجمع الحالين معاً. اما اسرائيل فلا يسعها القيام بهذا الدور، وإن ادعت ذلك، لأنها لا ترتكز أصلا على ما هو الأعمق في حضارة الغرب ولأنها غريبة عن الشرق الذي اقامت كيانها فيه.
وهذه الاسئلة مفتوحة للمناقشة.
الولاء للبنان والدولة المدنية
على اللبنانيين أن يخرجوا من التفكير الساذج في ان الدولة الدينية أو الدولة الطائفية او ديانة الشعب الواحدة او تطبيق الشريعة يمكن ان توجد حلاً لمشكلات العصر، وقع هذا التفكير في الحتمية التاريخية بالاستحالة، فليست الديانة عامل وحدة سياسية اجتماعية، ولم تكن يوما حتى منذ بداياتها، ولم توجد لا في دولة اسلامية سالفة، ومن لم يقتنع فليقرأ التاريخ الاسلامي، ولا في مسيحية غابرة، واوروبا القرون الوسطى خير شاهد.
ان الفلسفة الجديدة لمعنى لبنان، لا مناص من ان تبنى على قومية جديدة محورها لبنان، دون زيادة او نقصان، ودون روادف او ثقّالات، بأحزاب تتخطى الطائفة او الشخص او الاثنين، وبنظام سياسي يعلو على الاديان والطوائف ويوحّد اللبنانيين في الارض والتطلعات.
كما تبنى على دولة تفصل الدين عن الدولة، وهي ليست فريدة في العالم، فكل الدول المتحضرة بنت نظمها السياسية على هذا الاساس، واذا حقق لبنان ذلك لا يكون فريداً في مجموعته العربية، إذ إنّ تونس سبقته في التجربة، لكنه يكون قد وضع نفسه على خط الدول المتقدمة وهو أحوج الى هذا الفصل منها، بسبب تجربته الفريدة المتوثبة الى العوامل التي تحيي فرادتها.
إن وضوح ولاء سالم للبنان، جلي يتوّج حياته السياسية، ويرتجي من اللبنانيين ان يشابهوه، بأن يطبقوا ما ورد في مقدمة الدستور بأن "لبنان وطني نهائي لجميع ابنائه" وقد ارتضوا ذلك، فليذهبوا الى الولاء للبنان دون مواربة او استبطان، وبذلك نسير على الطريق الصحيح في ان لبنان مكتمل بذاته ولا يحتاج الى معمودية لتثبيت سيادته وحريته واستقلاله، فهو لجميع ابنائه ويجب ان يكون جميع ابنائه له.
وإذا ما طبقنا الدستور بأمانة تليق برجال القانون وبثقة يجب ان تغالب الغرض والمصالح عند السياسيين نكون قد ارتقينا بلبنان الى مرتبة الأوطان التاريخية بتراثها وتطلعاتها والدول الحديثة.
ويضيف: لقد ضحيتم من اجل الارض وها هي تطلب منكم الولاء التام "وعندما تقدمون كل ما لديكم من قوة وولاء للبنان تستحقونه وتستحقون مجده".
هل ترتقي كتابات سالم الى مرتبة الكتابات القومية؟
انها ترتكز على مفاهيم عرضنا لها تؤسس لقومية لبنانية جديدة، تبنى على ان لبنان وطن نهائي قائماً بذاته ولجميع ابنائه، يعتمد على المعايير الدولية لحقوق الانسان، لأن الانسان هو الغاية. واحترام الانسان يكون بدولة مدنية لا دينية ولا شرعية ترتقي على اسس صحيحة من القوانين الدولية الحضارية التي تدفعه ابعد على الطريق الحضارية التي اختزنها خلال قرونه الماضية.
وأهم ما في قومية سالم هو الولاء المطلق للبنان، الولاء له وحده واذا اردت ان تلتزم القومية اللبنانية يجب ان تعلن التوبة عن خطاياك في حق لبنان، وأن تردد في اعماق اعماقك هذه الصلاة "انا قومي لبناني حضاري، ابي هو لبنان هذا، امي هي هذه الارض. أهلي هم كل اللبنانيين. ديني "اعبد لبنان بعد الله". منطقتي كل حبة تراب من ارضي. احب اخوتي إلا انني لا احب اخي الذي لا يلتزم الولاء لأبي وامي. أعاهد الله ان اكون انساناً حضارياً. وأعاهد لبنان ان اكون مواطنا اقوم بواجباتي قبل ان اطالب بحقوقي. انا قومي لبناني إلا انني اعتبر البشرية جمعاء عائلتي".
وعندما تنتصر القومية اللبنانية على جميع القوميات التي تعيش فيه، يبقى لبنان ويستمر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق