تطبيع وفوضى ومكان/ جواد بولس

 أشعلت مسألة مشاركة المواطنين العرب في إسرائيل وعمل بعضهم في عدد من وسائل الإعلام الإسرائيلية، لا سيما في راديو وتلفزيون "مكان"، نقاشًا لافتًا، دارت رحاه، بالأساس، على صفحات "التراشق الاجتماعي"؛ فشهدنا، على مدى الأسبوعين الفائتين، حالة من فوضى الضياع وتحليق جيوش "الفيسبوكيين والتواترة" في عوالم مختلقة أخفى غبارها، الأصفر المثار، حدود المنطق ومعالم المحظور والمتاح.
ستنتهي هذه الجولة؛ وسيعود كل فريق إلى رصيفه العاجي وإلى ندمائه، وسيبقى الجرحى محملقين، بأسى، في ذلك المدى العصي، وعين الصقر رانية، برضى، على جميعهم من فوق ذلك المكان.
بدأت هذه الجولة، مثل سابقاتها، حين أصدرت نفس المجموعة التي تطلق على نفسها اسم "اللجنة الفلسطينية لمقاطعة إسرائيل من الداخل" ( bds 48) بيانًا طويلًا دعت فيه، كما جاء في صفحتها، إلى "مقاطعة تلفزيون  'مكان' - البوق الدعائي للحكومة الإسرائيلية"، وذلك في أعقاب شروعه ببث حلقات ترفيهية ساخرة، استهلها معدوها بأغنية عنوانها " البلد بخير" وهو اسم البرنامج كذلك.
هنالك خلط واضح بين مقاطعة مستحيلة، كما ينادوننا إليها، وبين التدقيق في مسألة حرية العمل كموظفين في "المكان" أو كمشاركين فيه من وراء الميكرفونات أو الكاميرات. 
لن أسهب في تاريخ علاقاتنا كمواطنين في إسرائيل مع راديو وتلفزيون "مكان"؛ ولا حاجة للتأكيد على أننا في رحاب من كانوا دومًا  "صوت إسرائيل من أورشليم القدس"، أو على أن هذه المنصة قد خلقت أصلًا لتكون بوقًا إعلاميًا رئيسيًا يروّج لسياسات ولدعاية إسرائيل بين المواطنين العرب وفي الدول العربية على حد سواء؛ ولن اختلف مع من يصم هذه الوسيلة بأنها أعدت لتعمل على" كي" ذهنية الإنسان العربي وتشويشها، ولضعضعة بنيته الهوياتية، والعمل على زرع الشكوك في فوائد انتماء ذلك الفرد إلى امة هلامية كبيرة، أو إلى قادة يفتقدون للشرعية وغير جديرين بثقة الناس. فكل ذلك كان وما زال بعناوينه الكبيرة صحيحًا؛ ومع هذا وذاك، ففاقد الحواس فقط لن يلاحظ كيف خضعت هذه المؤسسة إلى بضعة تغييرات أفضت إلى تحول ايجابي طفيف، لكنه هام، في تعاملها مع بعض قضايا المواطنين العرب.
لقد انعكس هذا التحول من خلال استيعاب " المكان" لعدد من المذيعين/ات ومعدّي برامج مؤهلين مهنيًا، وأصحاب معارف مضامينية، ويمتلكون شخصيات مستقلة، إلى حد بعيد، ويتحركون في هوامش واسعة نسبيًا تتيح لهم فرص التعبير الحر إزاء سياسات الدولة وممارساتها، وبنفس معاجم أبناء شعبهم. كما ونستطيع أيضًا ملاحظة بعض هذه التغيرات في تنوع البرامج وما يذاع منها على الهواء مباشرة، وإفساحها لمشاركة شخصيات عربية منوعة وقيادية، كان وجودها على أثير صوت إسرائيل يعدّ من المحاذير المطلقة.  
لا أسوق ذلك من باب المديح المفرط أو المغالاة؛ لكنني خبرت هذه الحالة قبل سنوات قليلة عندما كنت ضيفًا على برنامج "لمن يجرؤ"  الذي كانت تقدمه، على الهواء مباشرة، الإعلامية سوزان حجار-نجار .
فاذكر كيف جلست أمامها في الأستوديو لمدة ساعة وتطرقنا لأربعة محاور تناولت مسائل سياسية كانت ملتهبة في حينه؛ اذكر منها قضية تجنيد العرب، وخاصة المسيحيين منهم، في جيش الاحتلال، وغيرها من القضايا التي أجبت على جميعها براحة قصوى وبنفس لغتي التي كنت أعتمدها في جميع مقابلاتي مع وسائل الإعلام العربي والعالمي.
لقد دُهشتُ بعد انتهاء المقابلة من التأكيد في الأستوديو على أننا كنا على الهواء وأنهم لم يقتطعوا من اللقاء شيئًا؛ فاستوعبت عندها أن الأثير بقي صوت إسرائيل، لكن إسرائيل صارت، بعد هذه السنين، في مكان ووضع مختلفين، ولم تعد ذلك الكيان "المزعوم" الخائف من كل طير ونسمة، بل دولة كاملة القوام والثقة بالنفس وواعية لحجم قدراتها، فلا تتردد باستيعاب حتى قادة عرب، معارضين، مهما صرخوا من على أثيرها وعيّروها بالاحتلال وبعنصريتها.
كم أقصينا في الماضي من "المكان" ، فتحول إلى واقع من الصعب  مقاطعته وحتى العمل فيه ليس محظورًا ما دام صاحبه واعياً لانتمائه الصحيح ويرفض أن يتحول إلى بوق رخيص وذليل أو إلى عبد يرقص على إيقاع سوط سيده.
فوضى تطبيعنا الثقافي كمواطنين مع إسرائيل 
حيّت اللجنة لمقاطعة إسرائيل من الداخل "الرد المبدئي والغاضب" لمجتمعنا الفلسطيني ضد إغنية "البلد بخير" ، فالبلد ليست بخير؛ ثم مضت، بعد مطالبتها بمقاطعة التلفزيون في الهجوم على شركة الإنتاج العربية "الارز" وتخوينها لأنها ساهمت في إنتاج عمل "هابط" ولأن مشاركتها في الحرب الإسرائيلية على حركة المقاطعة تتجاوز عمليًا "التطبيع لتصل إلى خدمة المشروع الصهيوني ضد شعبنا" وناشدوا، بسبب ذلك، المجتمع بإدانة هذا العمل. 
لقد استغل معدو البيان كلمات بيت واحد من إغنية " البلد بخير" رغم تأديته غناءً بنفس الروح الساخرة التي رافقت غناء جميع الأبيات، واعتبروه حربًا عليهم وعلى مصير قضية فلسطين. تقول الأغنية، بلغة عامية وبتهكم واضح على حالة الناس، عن حملة المقاطعة : "لما تسمع بي- دي-اس بتصير تنوي متل البس، وبيصحا فيك الوطني حس" . وهو نص غير جدير بإشعال حرب ولا حتى مشادة صغيرة.
لن آتي على تفاصيل البيان المليء بديباجات نارية وتخوينية، فلقد تطرق كاتبوه إلى عدة مسائل مبدئية وعالجوها بسطحية وبشعارتية قد تخدما، بالنهاية وبشكل غير مباشر، سياسات إسرائيل ومحاولاتها لتوسيع الخلافات بين شرائح الجماهير العربية المختلفة.
خص معدو البيان في هجومهم بعض الممثلين العرب الذين شاركوا في مسلسل "فوضى" الإسرائيلي الشهير، مع العلم بأن عرضه بدأ، محليًا وعالميًا، منذ العام 2015.
لم أكن أنا شخصيًا بحاجة لمشاهدة مسلسل "كفوضى" كي أتعرف على دور ونشاطات فرق مستعربي جيش الاحتلال في الحرب على الفلسطينيين ولا كي أتعرف على ظاهرة العملاء الفلسطينيين وعوالمهم. فأنا أعمل، منذ أربعين عامًا، في الدفاع عن أسرى الحرية الفلسطينيين وعن ضحايا فرق الموت الناشطة في فلسطين المحتلة وأعرف ما تؤديه لهم جماعات العملاء من خدمات.
ما يهمني هنا هو قضية "تطبيعنا الثقافي" مع إسرائيل، ورغم أننا عالجناها مرارا في الماضي، لكنها، هكذا يبدو، باقية بيننا كأحد جروحنا المفتوحة. فمسلسل "فوضى" ليس إلا حدثًا "ثقافيًا" عابرًا سينسى دون أن يترك ندبة جدية على صفحة هويتنا الجمعية؛ والبعض يرى في مشاركة فنان او اثنين فيه نتاجًا لازمة هوية جدية يعيشها المواطنون العرب في إسرائيل، أو على الأقل إحدى تجلياتها.
ولذلك سأقترح، ونحن نواجه حالات من الفراغ القيادي في عالم تتشكل فيه " الهويات السائلة"، إبقاء قضية مشاركة الفنان أو المذيع العربي المحلي بعمل أخباري أو ترويجي عبر إذاعة أو تلفزيون محلي أو تركي أو قطري أو أمريكي أو روسي، كقضية فردية يتحمل هو مسؤوليتها وعواقبها، وذلك مع الإقرار وحفظ حق من ينتقدون أولئك الذين يشاركون في عمليات " تلميع" تلك "البطولات" الاحتلالية أو ترويج "المآسي" العمالاتية أو ما يشبهها في حالات أخرى.
كم رجونا أن يحررونا من لعنة التطبيع ومن هذه الهرطقات ومن خيباتها؛ وكتبنا في الماضي القريب عن هذه اللجنة وقلنا أننا لا نعرف عنها كثيرًا ولا عن ظروف تأسيسها ومن ينشط في صفوفها وما هي خلفياتهم أو حدود تجاربهم أو من يقف وراءهم ؛ ولكن، وعلى جميع الأحوال، لا يستطيع أحد أن ينكر حق أعضائها بالتعبير، وحقهم في انتقاء التعابير، حتى لو أساءت للأجواء الاهلية العامة، وللمعايير بالشكل الذي يفعلونه ؛ بيد أن صمت وتقاعس وكسل ورياء معظم التيارات السياسية والمؤسسات والجمعيات واللجان والنخب الثقافية القائمة والناشطة بين المواطنين العرب في إسرائيل، تبقى هي المشكلة الحارقة والمستفزة؛ فلولا هذا الصمت/ العجز لما تركت نداءات "اللجنة الفلسطينية لمقاطعة إسرائيل من الداخل" هي العصا الغليظة الوحيدة المرفوعة في وجه من لا يتساوق، صاغرًا، مع مواقفهم؛ أو من لا يقبل تفسيرهم/تقييمهم لأي نشاط ثقافي قرروا معارضته لأنه لا يتوافق، على الأغلب، مع مبادئهم السياسية الفئوية؛ أو من يرفض ذرائعهم الأيديولوجية الكيديّة في بعض الأحيان أو المدفوعة بوقود "ألترا-راديكالي " في أحيان أخرى .
نادينا هي فوضى ولا حياة لمن تنادي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق