في سنة سقوط البلاد الأولى لم يكن عوني عارف مخلوقاً، ولكنه في سنة السقوط الثانية كان طفلاً يعي الأشياء حوله... فما لم يرَهُ من مهجّرين ومشرّدين وخيام في المرة الأولى رآه في السقطة الثانية... رأى أناساً غرباء في القرية، يقيلون قليلاً، ثم يشرّقون... يحملون بعض أشيائهم على دوابهم إذا تيسرت أو على ظهورهم... والدموع في عيونهم، والبؤس يحتل وجوههم، كما احتل شذّاذ الآفاق بيوتهم...
تلك السنة، كانت الرايات البيضاء ترفرف على الأسطح، رايات صنعت من بقايا الملابس، لكنها بيضاء... تدلل على حزن... وتشي بجرح عميق... وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، واستقرت أمور الناس قليلاً، كان عوني عارف ووالده ووالدته، يجوبون حقول التين والصبر ليلاً، يلقّطون التين، ويقزعون الصبر، ويملؤون حمولة حمارين... جهزوها بصناديق... يبيعون حمولة الحمارين، وينفقون على الأسرة فقاع البيت كما صدره... لا شغلة ولا مشغلة... والفقر ضارب أطنابه.
يسير الطفل عوني بقافلة الصبر والتين، قبل أذان الصبح، في درب بريّ موحش، لا يتسع إلا لمرور دابّة... لا يخاف الطفل وحوش الدرب الحيوانية، ولا الوحوش الإنسانية... كانت رفوف الحجل النائمة تفرّ من جنبات طريقه، كما تسبح الأفاعي المتململة في حر آب من بين الحجارة... يسمع هسيسها بين (الهشير) والعشب الناشف...
ما زالت في ذاكرته، نقطة الخلاص عندما يصل طريق الإسفلت الذي يصل طوباس بنابلس، وعند وصول هذه النقطة يميل عوني وحماريه نحو اليمين، وهذا الميلان هو الذي كان يفرّق المهجّر عن أرضه شرقاً أو المقيم... حيث يتابع المهجّر الطريق شرقا، أما المقيم فإنه يأخذ اليمين إلى مخيم المهجرين (مخيم الفارعة) أو شمالاً إلى طوباس... ويسير الطفل في الطريق وقبل أذان الصبح، يصعد مع الطريق، ويهبط معها، حتى يرى ساحة سجن عتيق... ويرى حيطانه عن بعد... وليس بعيداً عن الطريق مياه تجري بين بساتين البرتقال والليمون... ومخيم بائس، ما زالت بقايا خيم وكالة الغوث تذكر الناس بهجراتهم... الأولى والثانية... وربما العاشرة... يصل الصبر والتين مسجد الفارعة، وبعد صلاة الصبح مباشرة... يخرج المصلون لشراء الصبر... يتهافتون على الصبر... وهم يحملون مفاتيح بيوتهم في حيفا ويافا واللد وطبريا وبيسان... ويحملون حكاياتهم... وذكرياتهم في أراضيهم وبياراتهم هناك... وينفذ صبر الطفل عوني من السحاحير، وينفذ معها قليل من التين المشكل ببياضه وحماره وسواده وخضاره... يُبَسّطُ الطفل بتينه حتى تطلع الشمس من وراء جبالها، ثم يحمل تينه على حمار... ويدور بين بيوت المخيم، يدلل وينادي... فيخرج البؤساء والبائسات... ينظرون في التين الملون كتلاوين الخروج والقهر... ويستفسرون عن سعره ويبكون... نعم كان التين يدعوهم إلى النوح والجوح... فيخفض الطفل من سعر تينه... بعد أن تحمى الشمس، ويتفغص التين... لكن تبقى الدموع... دموع النساء... تنظر في التين وسواء اشترت أم لم تشترِ، لكنها تظل تبكي... والطفل لا يعرف كنه الدموع...
عندما ينفّق الطفل بضاعته بأبخس الأسعار، ويعود إلى قريته، يسأل والده: ما بال النسوة يبكين عندما يرين التين، يا والدي؟ وتهطل دموع الوالد... يحزن الطفل ويلح في السؤال، وبكلمات متقطعة، يقول الوالد، إنهن يتذكرن حواكيرهن في البلاد... الحواكير التي امتلأت تيناً وصبراً... وغادرنها... ينظرن إلى أشجار البرتقال والليمون حول المخيم فيتذكرن بياراتهن من خيرات البرتقال والليمون والمشمش وما تشتهي الأنفس... ولكن يا بنيّ ومهما طال الزمن سيعود اللاجىء إلى أرضه... سيمزق خيمته، ويرمي بقجة الوكالة... ويعود... ويعود... ولو بعد السقوط العشرين... سيبقى المفتاح معلقاً في الرقاب، يورثه جيل لجيل يليه... لكنه لن يضيع، فالحقّ يا بنيّ لا يمكن أن يضيع وله شعب يطالب به...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق