قراءة في ديوان الشاعر : فاضل ضامد – المعنون (وشمٌ في ذاكرة الملح)/ كريم عبدالله

المقدمة :

يقول سركون بولص : ونحن حين نقول قصيدة النثر فهذا تعبير خاطىء , لأنّ قصيدة النثر في الشعر الأوربي هي شيء آخر , وفي الشعر العربي عندما نقول نتحدث عن قصيدة مقطّعة وهي مجرّد تسمية خاطئة , وأنا أسمّي هذا الشعر الذي أكتبه بالشعر الحرّ , كما كان يكتبه إليوت و أودن وكما كان يكتبه شعراء كثيرون في العالم . واذا كانت تسميتها قصيدة النثر , فأنت تبدي جهلك , لأنّ قصيدة النثر هي التي كان يكتبها بودلير ورامبو ومالارميه , أي قصيدة غير مقطّعة . من هنا بدأنا نحن وأستلهمنا فكرة القصيدة / السرديّة التعبيريّة / بالأتكاء على مفهوم هندسة قصيدة النثر ومن ثمّ التمرّد والشروع في كتابة قصيدة مغايرة لما يُكتب من ضجيج كثير بدعوى قصيدة نثر وهي بريئة كل البراءة من هذا الاّ القليل ممن أوفى لها حسبما يعتقد / وهي غير قصيدة نثر / وأبدع فيها ايما ابداع وتميّز , ونقصد انّ ما يُكتب اليوم انما هو نصّ حرّ بعيد كل البُعد عن قصيدة النثر . انّ القصيدة السرديّة التعبيريّة تتكون من مفردتي / السرد – التعبير / ويخطيء كثيرا مَن يتصور أنّ السرد الذي نقصده هو السرد الحكائي – القصصي , وأنّ التعبير نقصد به الأنشاء والتعبير عن الأشياء . انّ السرد الذي نقصده انما هو السرد الممانع للسرد أي انّه السرد بقصد الأيحاء والرمز والخيال الطاغي واللغة العذبة والأنزياحات اللغويّة العظيمة وتعمّد الأبهار ولا نقصد منها الحكاية أو الوصف, أما مفهوم التعبيريّة فأنّه مأخوذ من المدرسة التعبيريّة والتي تتحدث عن العواطف والمشاعر المتأججة والأحاسيس المرهفة , اي التي تتحدث عن الآلآم العظيمة والمشاعر العميقة وما تثيره الأحداث والأشياء في الذات الأنسانيّة . انّ ما تشترك به القصيدة السرديّة التعبيريّة وقصيدة النثر هو جعلهما النثر الغاية والوسيلة للوصول الى شعرية عالية وجديدة . انّ القصيدة السرديّة التعبيريّة هي قصيدة لا تعتمد على العروض والأوزان والقافية الموحّدة ولا التشطير ووضع الفواصل والنقاط الكثيرة او وضع الفراغات بين الفقرات النصيّة وانّما تسترسل في فقراتها النصيّة المتلاحقة والمتراصة مع بعضها وكأنّها قطعة نثريّة . أنّ القصيدة السرديّة التعبيريّة هي غيمة حبلى مثقلة بالمشاعر المتأججة والأحاسيس المرهفة ترمي حملها على الأرض الجرّداء فتخضّر الروح دون عناء أو مشقّة .

تجلّيات اللغة في القصيدة السرديّة التعبيريّة

1-  الخيال في القصيدة السردية التعبيرية

اعتقد قد آن الاوان ان نتحدث عن القصيدة السردية التعبيرية , هذه القصيدة التي تحاول الانفلات من تبعية قصيدة النثر والانعتاق من ارثها والانطلاق في محيط خاص بها وبعيدا والتحليق عاليا في سماوات مشرقة .نحن نعلم جيدا بان اول المرجفين والمشككين بالقصيدة السردية التعبيرية سيكون اصحاب القصيدة العمودية , سيتهمونها بتشويه الذائقة وما اعتادت عليه الاذن من موسيقى ووزن وبحور الخ . ونعلم جيدا للآن هناك صراع ما بين قصيدة النثر والقصيدة العمودية , ونعلم ايضا بان هذا الصراح سيستمر , فكيف اذا جئنا بالقصيدة السردية التعبيرية !! .

ان ما حققته قصيدة النثر عجزت قصيدة العمود عن تحقيقه , فلقد جاءت بلغة مغايرة جعلت الكثير من شعراءها يغادرونها الى قصيدة النثر والابداع في كتابتها بطرقة مذهلة . واليوم ظهرت القصيدة السردية التعبيرية بلغة العاطفة القويّة وخصوبتها وحسن عرضها وتجانسها , والمشاعر العميقة الصادرة من القلب والغازية له من اوسع الابواب . هذه اللغة المشحونة بالعواطف القويّة تحرّك الاحاسيس لدى المتلقي وتحيّ شعوره بالجمال وتغذي النفس بالمتعة والدهشة . هذا الكمّ الهائل من المشاعر والاحاسيس والعواطف مصدره الشاعر , لذا فعليه ان يبثّ عاطفته العميقة وشعوره الفيّاض في اسلوبه وفي نفس القارىء والمستمع , وكلما كان صادقا في مشاعره وعواطفه كان اكثر قربا من الجمهور . يقول ( انيشتاين ) انّ الخيال اهم من المعرفة وهذا يعني بان الخيال بالنسبة للادب هو مفتاح العاطفة وانه اشبه بالمستودع الذي تستمد منه قوى النفس مادتها الاولية . لذا على الشاعر ان يمتلك خيالا خضبا منتجا يجعلنا نتلمس المشاعر ونتصورها شاخصة ملموسة نتحسسها ونتشمم عطرها :

فهناك خيال بسيط وهو ما تدركه الابصار وحاسة البصر , وهناك الخيال المركّب عند الشاعر الذي يستطيع خلق صور عما يشاهده او يقرؤه او يحسّه صورا لا عهد لنا بمثلها نقف عندها تصيبنا الدهشة , تعمل على اثارة العواطف وتمنح القصيدة حياة متجددة , وتشويقا يجتذب المتلقي اليها , وكلّما كان الخيال خصباً كلّما كانت صور الشاعر برّاقة ومشوّقة  . وبالعودة الى ديوان الشاعر , سنجده يطفح بهذا الكمّ الهائل من الخيال الخصب والذي يجعل المتلقي يقف بخشوع أمام أمواجه الهادرة , والدليل عنوان الديوان / وشمٌ في ذاكرة الملح / هذا العنوان الذي أختزل كلّ جماليات اللغة السردية التعبيرية , هذا الباب الذي من خلاله سندخل عوالم الشاعر الزاهرة على الدوام بابداع فذّ ومقدرة عالية على تطويع اللغة وإعادة صياغتها بطريقة ابداعية جديدة وإلباسها لباس الواقع وأنصهارها عبر تشكيلات فنيّة تجعلنا نقف بخشوع وبـتأمّل عميق لما جاء به الشاعر . ففي نصّ / سخام في الأروقة / نجد حرص الشاعر على رسم لوحاته الشعرية بطريقة فذّة مستعيناً بما يمتلكه من خيال منتج , /  في الخزعبلات تجد الخيول بلا ظلال النساء يرسمن وشماً على أحلامهن الصغيرة يضفرّنَ السنابلَ للقيامة
يحرقّنَ البخورَ على السواقي للحراسة من الماء الاسود / .  وفي قصيدة /  دقيق مترف الاخضرار / نجد هذا الخيال كيف شكّل لنا هذه اللوحة الزاخرة بكلّ هذا الجمال / أنتفُ عقاربَ الوقتِ من ريشِها حتى يظلُ اللدغُ مرهوناً بعددِ الاصابعِ أحركُ محراثَ الزمنِ على أرغفةِ المكانِ لينبشَ في داخلِها دقيقاً مترفاً لقمحِ البقاءِ أنضجُ مع الحصادِ سنبلةً بغرتِها العجوز ليبقيها المنجلُ تحت اظافرِه ألماً يحزُ اسنانَه المُهلِكَة / . انّ المتلقي سيجد في هذا الديوان وعياً مارسه الشاعر اشبه بالحلم في لحظات الواقع , فلقد استطاع أن يحرّك كلّ كائناته وإدخالها في علاقات غريبة لم نألفها في واقعنا , لقد أستطاع الشاعر أن يسخّر كلّ طاقات خياله معبّراً عن مواقفه وعن الذات الشاعرة وبثّ الروح في نسيجه الشعري .

2-   البناء الهندسي في القصيدة السردية التعبيرية

جميعنا يعلم بانّ هناك أربعة  أشكال من الشعر وتكون هندسة القصيدة فيها كما يلي :

أولاً : القصيدة التقليدية ( العمودية ) وهي تعتمد على الوزن والقافية وبقية تقنياتها وتكتب بالطريقة العمودية .

ثانياً : قصيدة التفعيلة وهي التي تعتمد على عدد من التفعيلات في السطر الواحد ولا يلتزم بقافية واحدة .

ثالثاً : القصيدة الحرّة وهي التي تتخلّى عن الوزن والقافية الموحّدة الا انها تشترك مع القصيدة العمودية شكليا من حيث التشطير وتوزيع الكلمات بطريقة معينة وترك الفراغات والنقاط والفواصل والتوقفات فيما بين فقراتها .

رابعاً : القصيدة السردية التعبيرية وهي التي تكتب بطريقة النثر الواضح حيث لا تشطير ولا وزن ولا قافية موحّدة ولا فراغات ولا فواصل او سكتات بين فقراتها , تكتب على شكل فقرات متواصلة وربما متداخلة مع بعضها البعض ومن خلالها ينبثق الشعر وتتفجّر طاقات اللغة وهذا مايسمى بـ ( النثروشعرية ) حيث ينبثق الشعر الكثير من النثر . تعتمد على بناء جملي متواصل كما هو في النثر , من دون سكتات و لا ايقاعات و لا فراغات و لا تشطير و لا تسطير, و هي جمل متداخلة ، الا انها متداخلة بطريقة متوحدة ، فهي تقع بين الفقرة و الجملة , ان هندسة القصيدة السردية تتخلّل فقراتها ( الفارزة الواحدة او النقطة الواحدة فقط - , / . ) . انّ جميع النصوص في هذا الديوان جاءت نموذجية وعلى شكل كتلة واحدة متماسكة , وهذا نموذج واحد يبرّهن لنا على ذلك / أنَّ ...عصفور الجنان / تصور ان هذا الامتلاء يمنعنك أن تضع كلماتك الحزينة وأن كل هذا العنف يمنعك أن تسطر جملة واحدة على الارصفة العتيقة مثل شمعة شاردة بنورها لشهيد تذوب ولا تنتهي هكذا علمتنا الشوارع أن اكتنازها بالرياحين أكبر من أن تقال بقصيدة وأي خيال يتوقف عند رصاصة غانية لتقتله يالبأسه العجيب لايبرد طاحونة قمح للعصافير والنحل والارض حتى السماوات تخلت عن مذهب الغيم فأنجبت مطرا من دم.  / .

 3-    الرساليّة في القصيدة السرديّة التعبيريّة

الأدب رسالة انسانيّة , والرساليّة مهمة في الشعر وقد تكون رسالة جماليّة فنيّة أو رسالة اجتماعية , فالرسالة الجمالية الفنية تعني الغوص في تجربة الشاعر عميقا بينما الرسالية الأجتماعية تعني كل ما يكون خلف النصّ من رسائل وبوح . وتظهر ملامح الرساليّة الأجتماعية بأشكال مختلفة كـ / البوح التوصيلي /  والبوح الأقصى / والبوح التعبيري /.

انّ البوح التوصيلي نعني به التوصيلية الأمينة وطلب الخلاص وذات رسالة واضحة , ونجد ذلك في هذا النصّ / نريد وطن.. ألواني تهتف / حين خبأت اللون عن لوحة دون أخرى تزاحمت كل الخيالات للوصول الى الفرشاة كي أبذر ألواني على القماش الأبيض كان الطريق موحلا بالأفكار وأن كل الشجيرات يندبن حظهن هذه المرة فلا مناظر طبيعية فالمزاج غائم وأبليس الأهمال يتراقص على الغواية كي أخرج الى الشارع وأركب ) الكيا(*  حتى أصل تاهت من جيبي علبة سجائري وقداحتي الفريدة كون هول الشارع لايسمح لي بالتدخين فالمكان تملأه سحرة بأصابع ملائكة وهم ينثرون أصواتهم بالمكبرات ولا أحد يزيد عليهم شجاعة حتى في تاريخنا القديم / .

 اما البوح الأقصى وهو طريقة الكتابة حين تشتمل على تعابير لفظية شديدة البوح وتحمل أقصى غايات البوح وإبراز المكونات النفسية , نجد هذا في نصّ / تكتبين وجهي على على ثقوب الناي وتعزفين لحنا غادرني منذ سنين وكأن الصوتَ سياطٌ تشتد كلوعة الاصابع وهي تتهاوى على القصبة لمي الذي تفرط من عنقود مجدنا وخلدي الخيط الرفيع بيننا ربما نلتقي فنطبع قبلتين على الورد لنزهر من جديد وانت تحسنين التنهد وانا يكثرني الشوق ،جسدي حبات قمح لا أرض تنبت فيها غير جسدك الخصب سأمد جذوري حيث قلبك الذي امتلك / .

 أما البوح التعبيري هو وصف العالم وطلب الخلاص بطرح رؤية فردية عميقة للحياة والعالم . ويتجلّى ذلك في هذا النصّ / النجمةُ المضيئةُ أضْحيةٌ زُحامٍ الظلمةِ ،حين اعتلى القافيةَ حرفٌ زائدٌ رقصتْ الأرصفةٌ للخلاصِ من التوازي ، ودّعها محبرةً من حجر مدادُها الارضُ ، القلمُ طائرٌ غطاسٌ يصطادُ الكلماتِ ليكتبَ الجوعَ على أوراقٍ معدتٍه الفارغةٍ ،تورم القفصُ ، بحاجة الى حُجامة لتخرج العصافير الى الشرفات تتنفس هواء المفاقس ، مشرد دائما لوني المفضل أتركه يرعى بين إخوته إلا أن أحدهم رماه في لوحتى فنمى غصنا ثم ثمرة ، روحي لا معالج لها غير بعثرة كلماتها / .

 4-   الصورة الشعرية في القصيدة السردية التعبيرية

ان العاطفة بدون صور تعتبر عمياء والصورة بدون عاطفة تعتبر فارغة .

الصورة الشعرية : رسم عن طريق الكلمات وهي ادراك حسّي ينفذ الى باطن الاشياء وهي تعدّ عنصرا مهما في بناء القصيدة الشعرية تؤثر في المتلقي وتبرز المعاني . فالشعر يعتمد على الصورة وهي تختلف من شاعر الى شاعر اخر فلا شعر بدون تصوير  . عن طريق الصورة الشعرية يتمّ التفاعل ما بين الشاعر والمتلقي , وكلما كان الشاعر حاذقا ومبدعا يستطيع ان يعبّر وبلغة شعرية تستثير حواس المتلقى وتبعث فيه روح المشاركة . الصورة الشعرية تتكون من الايقاع والوزن والايحاء واللغة والموسيقى والاحاسيس والمشاعر , وهي ( الصورة الشعرية ) مرتبطة ارتباطا ةثيقا بخيال الشاعر وافكاره , لان عن طريق الخيال الخصب يستطيع الشاعر ان يعبّر عمّا في داخله ويفجّر افكاره كي تصل الى المتلقى صورا ملموسة نتحسس عطرها ونتشمّم ألوانها . الشاعر الحقيقي يرى صوت العصفور كما يسمعه ويصوّر لنا الريح مجسّمة ويستطيع ان يؤنّسن الوجود ويلبسه عواطف وخلجات ومشاعر انسانية .

الصورة الشعرية تستطيع اداء وظيفتها التوصيلة عن طريق ( الرمز / الاستعارة / التشبيه / المجاز / والكتابة ) , ولكل واحدة منها تفسيرات خاصة بها . و تتيح للشاعر ان يأخذنا الى عالمه الفسيح ويقحمنا عنوة فيه , فهو يكتب القصيدة في ذاكرته ومن ثمّ يرسمها على الورق زاهيّة الالوان برّاقة الصور ويبعث فيها الروح والجمال ويلبسها حلّة جميلة تجعل المتلقي يتفاعل معها ويعيشها ويتأملها ويغرف في تأويلاتها . ان الشاعر الحقيقي يجب ان يكون كالمونتير السينمائي الحاذق يستطيع ان يحذف المشاهد ( الصور الشعرية ) التي ترهّل القصيدة وان يضيف مشاهد / صور شعرية تجعل القصيدة تتوهّج اكثر ويكون منتهبا لئلا تتسلل الى قصيدة نفايات وزوائد تشتت فكرة القصيدة وتمحو بريقها . والمتلقي سيجد كلّ نصوص الشاعر عبارة عن لوحات صوريّة رُسمت بحرفية عالية وبدراية وبفنيّة فذّة , كل النصوص جاءت هكذا صورها الشعرية , فمثلا نجد هذه الصور الرائعة في نصّ / الأشجار تصفق أيضا / الصباح الذي ارتطم بالبيوت كان لون الشمس وهي تشرق باذخة الابتسام ، الهواء الذي يحميني من بقايا عتمة الليل كان النسيم مسالما يمر حمامة وغصن زيتون ، الروح الذي تصحبني هائمة كعطر ماء الورد ينعش ما مات من خلايا الشم / وكذلك في نصّ / وحيدا أكتب على الماء / وجهك واحة باسمة وبيدر ألوان قمح ، وسادة من خجل وينبوع معنى غزل اتوق لضيائه على حانات العتمة وكؤوس الوجد ، طرز لي جدائلك الذهبية طريقا للوصول حيث اللقاءات المشبعة بالهوى وجهك نافذة انتقال بين الغيم والمطر يستحيل كلما جنت سماواتي، انا كالنورس أتعلم كيف تكتب أساطيلة الطائرة على بحرك لغة الرحيل وتباشير العودة / .

5-   اللغة في القصيدة السردية التعبيرية

اللغة هي الجناح الذي به يحلّق الشاعر بعيدا وتتشكّل القصيدة حيّة نتلمس عطرها وتلاحقنا صورها بدهشتها وعمقها وفضاء تأويلها والاستئناس بلذّتها الحسيّة والجمالية تملأ ارواحنا بالجمال واللذة , اللغة هي الشجرة الوارفة التي تحتها نستظلّ فيئها وتأخذنا الى عوالم بعيدة تنتشلنا من كلّ هذا الضجيج الذي عمّ الافق وسدّ منافذه وانتابنا خمول في الذاكرة ونقطف ثمارها ناضجة لذيذة . اللغة هي اليقظة والنشوة والدفء والضوء الذي ينبعث من اعماق الذات تسحبنا من نومنا العميق تستفزّ خمولنا . على الشاعر الحقيقي ان يمتلك لغة خاصة به يحنو عليها ويشذّبها ويعمل عليها كالمونتير الذكي يقطع المشاهد التي تجعل القصيدة مترهّلة ويضيف اليها ما يوهّجها اكثر ويفتح للمتلقى أفقاً شاسعا للتاويل , يغامر الشاعر بلغته ويرتفع عن لغة الواقع كونها لا تمتلك عنصر المفاجأة والغواية يجعل منها قطعة مشحونة تستفزّ الخيال وتمارس الانزياح الشديد حيث نهرب اليها من نهارنا المكسو بالتشتت والضياع والحيرة نتيجة ما يكتب اليوم باسم قصيدة النثر وهي براءة من هذه التهمة .

وبعد ان حققت قصيدة النثر هذه المصالحة مع الذائقة العربية بالخصوص وكسرت حاجز النفور بينها وبين القصيدة العمودية ومنحتنا فسحة تنفّسنا من خلالها هواء جديدا صار لزاما للشاعر ان يمتلك لغة يشكّلها ويدمّرها كيف يشاء , لغة تفقد الحدود وتتفتّح عن عوالم تنبعث مما وراء الحلم تمتلك حضورا قويّا تلهبنا بسحرها وجماليتها . واليوم تظهر اللغة السردية التعبيرية منحت النصّ امكانيات كبيرة , لان السرد يتطلب وبشكل ملحّ لغة عذبة سلسلة تترقرق كالينبوع تحلّق عاليا مدهشة مبهرة تنفذ الى اعماق النفس والوجدان عند كل قارىء . نجد أن لغة الشاعر : فاضل ضامد قد حققت الكثير من ذلك وتجلّى في جميع النصوص , لا نجد نصّا إلاّ وكانت لغته لغة عظيمة , لا يمكننا أن نختار هنا جميع هذه النصوص , وأنما سنختار نصّا واحدا كدليل على عظمة اللغة السردية التعبيرية في هذا الديوان , ففي نصّ / الخرق الثاني / يوم الحصاد يحتفل المنجل بأسنانه وترتعد السنابل الريح خافقة مرعوبة حتى التراب دك باقدام الفلاح فانحسر الماء ليبدو الجفاف كأن شفتيك مزقها ذئب ، سحنتك كأي رحيل بلا عودة وان الحقائب فارغة ، كأن عينيك تورمت لاختفاء الضوء، ثم تمسك روحك على نهر آفل ، الغربان تورد منقارها من جسدك المنهك ، تركت فينا خواء تدور فيه طيور الشوق لتأكل بيادر الحب فنسفت مواثيق الثبات فغدا القلق اشرعة تبحر على حجر لينهش ما تبقى من طفولتنا ، كأن وجهك غادر وانت تكتب وهما .

6-   الموسيقى والايقاع الحسّي في القصيدة السردية التعبيرية

المفردة في الشعر هي الاداة التي تعبّر عن الصورة والخيال والموسيقى والعواطف والمشاعر داخل القصيدة الشعرية و تنقل افكار الشاعر الى المتلقي . فالجملة الشعرية مثلا تتكون من مفردات ( حرف – اسم – فعل ) وكلما تآزرت مع بعضها أعطتنا صورة واضحة المعالم تدهشنا بجماليتها وخيالها المنتج الخصب وتدغدغ مشاعرنا واحاسيسنا و تطربنا بموسيقاها .

ان اللغة السردية التعبيرية منحت الشاعر فضاء شاسعا وفسحة كبيرة لأستثمار طاقاتها , ومنحته ايضا زخما شعوريا قويّا وكذلك ايقاعا موسيقيّا تطرب له الاذن والنفس . انّ كل مفردة في القصيدة السردية تمتلك جرسا ورنينا يستطيع الشاعر من خلال اختياره الصحيح للمفردة وقوة رنينها وموسيقيتها ومجاورتها للمفردة الاخرى وتآلف الالفاظ مع بعضها  ان يشكّل منها مقطوعة موسيقة داخل القصيدة , وكذلك المفردات مع بعضها في نفس المقطع بامكانها ان تعطينا موسيقى خاصة بهذا المقطع , وهكذا في مجاورة المقاطع مع بعضها وانسجامها وتنافرها اذا لم تكن متكلفة سوف تسمع الاذن انغاما تنبعث من داخل القصيدة . وكلما كان الشاعر حاذقا في اختيار المفردة ذات الجرس الموسيقى وعمل على حذف المفردة البائسة موسيقيا والتى لا تحمل جرسا معينا كانت الموسيقى صافية وواضحة وساحرة تنبعث من القلب وتدخل الى القلب نتحسّسها ونشعر برطوبتها وهي تغمرنا بفيض من المتعة والدهشة . نفس المفردة في المقطع الواحد من القصيدة تستطيع ان تبعث في اعماقنا موسيقى خاصة عن طريق ما توحي اليه من معنى , وهنا سنختار نصّ /  جندب / في عراء السرادق . الجنادب تقضم خيط السماوات فتحفر لغزا . يثور كالبركان . أينما وضعنا أصابعنا نغلق أبواب الترهات . هكذا علمتنا الجدة أن ننحت تحت ظلام الليل عذرية الورد . ونرمي مياسمها في مواقد الدفء .حيت لا نجدة الا بعض صراخ الأفكار وهي تنبض كالأفاعي في وكرها المغلق . تعلمنا في المنفى القديم أن أكثر الأنهر تتشعب خلجانها من خلجاتنا . وأن مصباتها في أباريق الروح .حيث تسقي عطش الوجد . والخيبات حين تلوح لنا نهرب . الا أن اقدامنا تترك آثارا فتتبعنا . تعلمنا أن عواصف الأحلام القادمة من أرصفة الوسادة . تنثر علينا أملا مبتورا لا معنى له غير أن الجندب كان واحدا من احلامنا المريضة.  / . أنّ مجرّد ان نسمع بمفردة / الجندب / سيتبادر الى أذهاننا صوته وهو يقفز ما بين الأعشاب والصوت الذي يُحدثه اثناء قفزاته , والصوت الذي يُحدثه أثناء القضم والطيران , أما في / في عراء السرادق / فأنّ المتلقي لو تأمّل قليلا في هذه المفردات فسوف يستشعر ماذا يحدث لو حرّك الهواء هذا السرادق وكيف سيكون الصوت المنبعث منه , أما / يثور البركان / فهنا سنتلمّس ونستشعر بصوت الانفجار الرهيب الذي يحدثه البركان , وكيف سيكون تدفق حممه البركانية , وكيف تسيل على الأرض وهي تحرق كلّما يصادفها , سنسمع حتماً اصوات الأحتراقات التي تحدث في الطبيعة , أما مفردة / الجدّة / فسوف تاخذنا وتثير فينا ذكريات بعيدة عن حكاياتها لنا , وسنسمع صوتها الواهن بيننا , أما مفردة / المواقد / فسنستشعر بصوت النار وهي تلتهب في الموقد وتأكل الحطب , أما مفردة / صراخ / فستجعلنا نعيش لحظة هذا الصوت المتدفق بقوّة وعلى شكل موجات صوتيّة عالية , أما مفردة / الأنهار ومصبّاتها / فستوحي لنا بصوت المياه المتدفقة فيها , أما مفردة / العواصف / فستشعرنا بقوةّ الريح وهي تصرخ في كلّ مكان وما تحدثه حين تصطدم بكل ما تواجهه في طريقها . أما في نصّ / لسان..وتر صامت  / حنجرتي لا ترغب بالغناء موسومة بالصمت حتى بلغت اللسان ما كان للفم ان ينزلق تحت مراسيم موت الصدى وهو يخفق بشفتيه يحاول ان يرتب موطئ قدم تحت عباءة الصوت الا أن الوادي كان فسيحا لا يسمح للريح ان تموت على أذاننا كأن موعد حصاد القحط يحتفل كنبتة يباب نجتره أواخر المسرات (الهلاهل) مسامير يطرقها العازفون على اللهاث والرأس حين ينحني يموت الخجل وحيدا تحت الرقاب وتسفر عاهات التملق فزاعة حقل عارية / , فأننا نجد في كل مفردة صوتاً ورنيناً وموسيقى / الصمت / الغناء / ينزلق / الصدى / يخفق / يرتّب / الصوت / الوادي / للريح / تموت / حصاد / الهلاهل / يطرقها / العازفون / اللهاث / فزّاعة . هذا من حيث المفردات , ولكن من حيث المقاطع النصّي نجد / وتر صامت  / حنجرتي لا ترغب بالغناء / ما كان للفم ان ينزلق تحت مراسيم موت الصدى / وهو يخفق بشفتيه / يرتب موطئ قدم تحت عباءة الصوت / الا أن الوادي كان فسيحا لا يسمح للريح ان تموت / (الهلاهل) مسامير يطرقها العازفون على اللهاث والرأس / . هكذا يجب أن نقرأ النصوص الشعرية ونتحسّ رهافتها ونستشعر من خلال مفرداتها الموسيقى التي تنبعث من خلالها .

 6 - الإيحاء والتجلّي في بناء القصيدة السردية التعبيرية

يستطيع الشاعر الحاذق ان يستخدم الإيحاء بطريقة ابداعية يعبّر فيه عن مواقفه النفسية , كونه من العناصر المهمة في بناء القصيدة فهو يلعب دورا مهما في عملية الابداع ويمنحها العمق والتأثير لدى المتلقي . فالإيحاء يستخدم للتأثير في ذهن المتلقي بفكرة معينة , وكلّما كان الايحاء قوّيا ازداد تأثيره , لذا لابدّ ان يتقن الشاعر طريقة يحدث فيها تأثيرا ايجابيا يرسم من خلاله صورا تتزاحم في ذهن المتلقي وتثير انتباهه وهذا ما يسعى اليه الشعر . وهناك طرق يستخدمها الشاعر في الايحاء عند المتلقي , فاما يكون عن طريق المفردة التي تدخل في النسيج الشعري , او عن طريق الصورة الغريبة والمثيرة , او عن طريق الالوان التي يستخدمها في داخل هذا النسيج , وكل واحدة ستؤثّر حتما على حواس المتلقي وتثير دهشته .

سنختار نصّا واحداً كدليل على الزخم الهائل من الأيحاء في هذا الديوان وهو / هندسة .. حين نكون هلام / يضعنا امام زخم ابداعي غريب عن طريق استخدامه للاشكال الهندسة التي تصدمنا منذ عنوانها حيث استخدم مفردة / هندسة / ومفردة / هلام / حيث التناقض ما بين الشكل المنتظم واللامنتظم في محاولة لصناعة الغرابة واللامتوقع ورسم صورة إيحائية مثيرة لدى المتلقي .

اننا امام لوحة تجريدية استطاع الشاعر رسمها بالكلمات بدلا عن الالون , وظف الأشكال الهندسية مستعينا بها لتوحي لنا هذه الاشكال المنفردة مرة ومتداخلة مع بعضها مرّة اخرى عن حجم المعانات والتشظّي في الذات الشاعرة , هذه الصور التشكيلية كان يريد من خلالها جمالية شكلية لكونها تمتلك من الدلالات الرؤيوية  والتعبيرية الصورية ما يمنحها عمقاَ وصراعا مستمرا داخل النصّ , وكذلك رؤية جدلية ما بين الذات المقهورة والواقع الشرس .

وبالعودة الى النصّ نلاحظ هذا الأرباك الذي يخلقه الشاعر في ذهنية المتلقي وخلق صور مستفزّة وتأجيج الصراع , فمثلا نقرأ ../ على المربع الدائري كان يقف المثلت الافقي ليضيء دروب المستطيلات المعينية وهي تنسكب من دلو الاهرامات المنبسطة على ارجوحة مغلقة ../ .. انّ الشاعر استطاع حشد عدد كبير من الأشكال الهندسية في هذا المقطع الشديد التكثيف / المربع / الدائرة / المثلث / المستطيلات / المعين / الهرم / , ان اغلب هذه الاشكال الهندسية تعبّر عن هزيمة الانسان وصراعه وجوديا وفكريا واجتماعيا وسياسيا , وكذلك عن الأنظمة الأستبدادية وصراعه في دائرة مغلقة لا سبيل للذات من الخروج منها , او هي عبارة عن حواجز تحيط بالذات الساقطة في الفتن ووسط هذا الاضطراب الذي يعمّ الواقع , وربما توحي لنا بمستوى التهديد المستمر الذي تعانيه هذه الذات يوميا وانهيارها وسقوطها . وهنا نقرأ ايضا هذا القلق والخوف والمعانات في هذا الواقع الموبوء مستعينا بالاشكال الهندسية / الكرة – الدائرة / المخروط / المثلثات / المكعب / المربع الخطوط المستقيمة / التحدّب منحينيات / ليزيد من حالة الصراح في لوحة تشكيلية مثيرة , فمثلا نقرأ هنا ../ قلقلة تلك الكرة السائلة كالمخروط هاربة من وكر المثلثات بزواياها الخيطية، حتى المكعب بنى داره على مربع مهاجر، قاسية هذة الخطوط كلما استقامت يظهر التحدب عرضيا كأن المواقف عمر بلا آفاق وكأن العمر منحنيات بلا فائدة ../ ..هذا القلق المستمر واللاجدوى والانهزامية لدى الذات الشاعرة والمصير المجهول الذي ينتظرها , وشحن هذه الاشكال الهندسية برمزية محببة تدفع المتلقي المبدع الى الوقوف عندها طويلا في محاولة فكّ شفراتها والبحث عن التأويل المناسب لها وقراءتها قراءة ابداعية منتجة . ونقرأ ايضا ../ .. تبقى صورتي هندسة المرايا ثالوثنا العمق نمد اصابعنا فيرتجف الهلام حينها نختزل البصمات بقضمات من ورق ونغادر كأرغفة فارغة من دقيق ساعاتنا المترهلة على أعمدة النور فتبقى الطرقات تطوي نفسها لتترك الخطى على التراب يمحوها مهندس الريح وبارع العواصف على مقابض الانزياح ../ . .هذا التشتت والتشظّي والتقاطع معبّرا عن التصدع في الذات والانهيار بسبب الظلم والتسلّط والاستبداد وبشاعة الواقع اليومي , يحاول الشاعر ان يرسم لنا ملامح صورته عبر هذا الاشكال الهندسية في زمن مغلق وبنظرة تشاؤمية . ويختتم الشاعر نصّه بهذه اللوحة الغريبة والمثيرة ../ .. نبقى مستعمرة لأعمال بيكاسو وبراك ثم ينهال علينا محتلون اخرون لا يحملون حقائب الاسعافات لنتخلص من رتم هذا اللحن كأن بوق الأنابيب يمتص أصواتنا لنعود اجسادا صامت ../ .. حيث تبقى الذات الشاعرة التي تمثّل الجماهير المغلوبة على أمرها منهزمة تحت رحمة القمع والفساد تعبّر عن حالة النفي  والغربة والفناء .

وختاماً , فقد جاءت جميع نصوص هذا الديوان عبارة عن لوحات فنيّة رسمها الشاعر : فاضل ضامد , بحرفيّة العارف بمكامن الابداع والجمال والفن والشعر , وكأنّه كان يمسك فرشاة وليس قلما حين يكتب قصائده , فرشاة يحرّكها كيف يشاء فتتشكّل هذه الكتل اللغوية – اللونيّة المثيرة للدهشة والذهول . لقد كانت هذه قراءة في تجلّيات اللغة في القصيدة السرديّة التعبيريّة لديوانه المعنون / وشمٌ في ذاكرة الحلم / , أنا متأكد بأنّ هذا الديوان يحتاج الى قراءات متعددة لغرض أكتشاف المزيد من الابداع والمزيد من الفن والجمال والشعر .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق