في ما يلي ترجمة عربية لهذه القصّة، التي رواها كمال بن يوسف بن حبيب صدقة الصباحي (تميم بن يوسف بن حوڤف تسدكه هصفري) [١٩٢٦- ٢٠١٧، من مُسنّي الطائفة الحولونية، ناسخ أسفار توراوات، صلوات وشريعة بخط ّيده الجميل، شيخ صلاة] بالعربية على مسامع الأمين (بنياميم، ١٩٤٤--)، الذي بدوره نقلها إلى العبرية، نقّحها، اعتنى بأسلوبها ونشرها في الدورية السامرية أ. ب.- أخبار السامرة، عدد ١٢٤٨-١٢٤٩، ١ أيلول ٢٠١٧، ص. ٦٠-٦٤. هذه الدورية التي تصدُر مرّتين شهريًا في مدينة حولون جنوبي تل أبيب، فريدة من نوعها ــ إنّها تستعمل أربع لغات بأربعة خطوط أو أربع أبجديات: العبرية أو الآرامية السامرية بالخطّ العبري القديم، المعروف اليوم بالحروف السامرية؛ العبرية الحديثة بالخطّ المربّع/الأشوري، أي الخطّ العبري الحالي؛ العربية بالرسم العربي؛ الإنجليزية (أحيانًا لغات أخرى مثل الفرنسية والألمانية والإسبانية والبرتغالية) بالخطّ اللاتيني.
بدأت هذه الدورية السامرية في الصُّدور منذ أواخر العام ١٩٦٩، وما زالت تصدر بانتظام، تُوزَّع مجّانًا على كلّ بيت سامري من المائة والستّين بيتًا في نابلس وحولون، قُرابة الثمانمائة سامري، وهناك مشتركون فيها من الباحثين والمهتمّين في الدراسات السامرية، في شتّى أرجاء العالم. هذه الدورية ما زالت حيّةً تُرزق، لا بل وتتطوّر بفضل إخلاص ومثابرة المحرّريْن، الشقيقَين، الأمين وحُسني (بِنْياميم ويفت)، نجْلي المرحوم راضي (رتسون) صدقة (٢٢ شباط ١٩٢٢ــ٢٠ كانون الثاني ١٩٩٠).
”الهروب من نابلس
دعْنا نبدأ رأسًا بالقصّة. جيبة خاوية مقابل ضرورة المحافظة على صورة الإنسان وخصوصًا ٱحترام الذات، تؤدّي بالإنسان إلى القيام بأعمال لا تُمكنه توقّع نهايتها سلفا. عندما يصل المرء إلى حالة يأس مطلق، عندها لا يهمّه شيءٌ سوى التخلّص من ذلك بأيّة وسيلة كانت.
نعم، هربت من نابلس في العام ١٩٤٦. هذه قصّة طويلة ومعقّدة. القشّة التي قصمت ظهري وحملتني لاتّخاذ خطوة كهذه، كانت انعدام المال نقدًا في جيبي، ببساطة، أليس كذلك؟ كلّ منِ امتلك بعضَ الليرات في جيبه في تلك الأيّام اعتبر غنيا. كنت يافعًا، وأفقر من هذه الذبابة التي حطّت على ذراعك. وفي كلّ مرّة، كنت بحاجة لنقود وما أكثرها كنت أطلب من أختي زهرة (زهره) لتتوسّط عند زوجها العم ممدوح بن صالح صدقة الصباحي (آشر بن شلح تسدكه هصفري)، رحمة الله عليه.
أُختي قلبها طيّب وحنونة. وتكرّر الأمر كثيرًا، عند نفاد القرش من الجيبة. في الليرة كان ألف ملّيم وللمليم كانت قيمة ما، كنت أتوجّه مجدّدًا لأختي التي كانت تحصُل على ليرة لي من العمّ ممدوح. كان يعتريني شعور سيّء جدًّا كلّما كنت أطلب ليرة من أختي، وشعرت بالراحة بعد تسلّمها.
حتمًا تسألُني، لماذا لم تعمل؟ الجواب بسيط، لم يتوفّر عمل في نابلس؛ كلّ نابلس كانت فقيرة مثلي. مدينة متسوّلين، شحّادين. رحل أبي عن هذه الدنيا عندما كنت فتىً، وأخي الكبير عمل وٱعتاش في يافا. وذات يوم حدث ما كنت أخشاه. نفد ما بحوزتي من نقود، طلبت ثانيةً من أُختي أن تطلُب من زوجها ليرة واحدة. والعمّ ممدوح كان بعيدًا عن أن يكون بنكًا برِجلين. يظهَر أن الليراتِ التي كانت في جيبه قليلة. وفي هذه المرّة قال لزوجته: إسألي أخاك ماذا فعل بالنقود التي أعطيتُها إيّاها في الشهرين الأخيرين؟ لقد أعطيته ستّ ليرات أي ستّة آلاف ملّيم!
جُرحت في الأعماق؛ لم أنبِس ببنْت شَفة، قرّرت عدم البقاء في نابلس حتّى ولا ليوم واحد. قلت لنفسي: إسمع يا شاب، حان وقت مغادرتك لنابلس والبحث عن عمل، وحان وقت استقلالك والشروعُ ببناء نفسك. هكذا أقنعتُ ذاتي. ورأسًا بعد سماع ما قالته لي أختي بلسان عمّي ممدوح، غادرت المكان ولم أُولِ نداءاتها المتكرّرة لي أيّ اهتمام. طرقت باب البيت خلفي بشدّة، وخرجت إلى المجهول، للعثور على عمل لإعالة أمّي ملكة ولإعالتي. ورُوّجت الإشاعات أنّ فُرص العمل في تل أبيب ويافا لا تختلف عن نابلس؛ لا عملَ هناك أيضا. عزمت على عدم التعويل على الإشاعات.
بادىء ذي بدء، أصل إلى أخي جلال (كڤود)، إنّك لا تستطيع أن تتصوّر كم أنا مدينٌ له على كلّ ما فعله من أجلي. وقف بجانبي ومدّ لي يد العون في كلّ مسألة، إلى أن تمكّنت من الاعتماد على نفسي. لم تتوفّر لديّ تكاليف السفر ولا هويّة شخصية. ولكن عندما يقرّر الإنسان عملَ شيء ما فلا شيءَ يقف أمام الإرادة. عزّة النفس لم تسمح لي بالتراجع.
علمتُ أن العمّ ممدوح لن يصمُد أمام ضغط زوجته وسيلبّي طلبي في آخر المطاف، ولكن إلى متى سيستمرّ هذا الوضع؟ ففي آخر المطاف سأكرَه نفسي. أردتُ أن أُثبت للعالَم كلِّه بأنّي قادرٌ على تدبّر أمري بنفسي رغم كلّ شيء.
الله سمِع صلاتي
نزلت إلى محطّة سيّارات الأُجرة في الساحة المركزية في نابلس. لم أدرِ لماذا ذهبت إلى هناك، فلا نقود لديّ لأجرة السفر من نابلس إلى طولكرم ومن هناك لتل أبيب. لا يُمكن الرجوع على أعقابي، وقفت بجانب سيّارة الأُجرة حائرا. قال الله ”ويكون إذ يصرخ اليّ فأسمع إذ رؤوف انا“ [سفر الخروج ٢٢: ٢٦؛ أنظر حسيب شحادة، الترجمة العربية لتوراة السامريين، المجلّد الأوّل: سفر التكوين وسفر الخروج. القدس: الأكاديمية الوطنية الإسرائيلية للعلوم والآداب، ١٩٨٩، ص. ٣٦٥]، صرخت من أعماق قلبي بهدوء؛ وهو السامع كلّ شيء سمع. على حين غِرّة رأيت أنّ عمّي فتح الله جالسًا في مقعد سيّارة الأُجرة الخلفي. في تلك السنوات كان ما زال بصيرا، يرى بعينيه. هو انتبه إليّ أيضًا واستفسر عمّا أعمل. أجبته، في الواقع لا شيء لديّ، وسألته في ما إذا يريد أن يأخذَني معه لرحلة قصيرة لطول كرم.
”إصعد ورافقني في رحلة قصيرة في طول كرم بالرغم من أنّ ذلك يكلّفني مبلغًا غير زهيد“، قال لي العمّ فتح الله بكرم وأعدّ لي مكانًا في المقعد الخلفي. وعند نزولنا في سوق طول كرم بعد سفر نصف ساعة، سألني العمّ فتح الله في ما إذا كنتُ أودّ مرافقتَه لزيارة ابن عمّه ذكي بن نمر صدقة الصباحي (زكاي بن أريه تسدكه هصفري) الذي كان يسكن آونتَها في طول كرم، هززت رأسي يمينا وشمالا. ”إذن ماذا تنوي أن تعمل“، سألني. ”كلّ ما أطلبه منك هو أن تعطيني خمسة قروش [خمسين ملّيمًا فلسطينيًا]، قلتُ له.
لم يتردّد العم فتح الله، كان يعلَم أنّني طفران، فأعطاني ما طلبته ثم سألني مجدّدًا بعد أن لاحظ الضيق الذي أعيشه: ”لم تقل لي ماذا تنوي فعلَه هنا إلى أن نلتقي ثانية في نهاية اليوم بعد إتمامي الزيارة“. تجرّأت وأجبته ”لا، لا أظنّ أنّنا سنلتقي ثانية اليوم. قررت مغادرة نابلس والانضمام لأخي جلال في تل أبيب أو يافا، إنّي سأجده“.
سألني العمّ فتح الله والدهشة بادية على وجهه ”أتنوي السفر إلى يافا لوحدك، ألا تخاف؟“، اغرورقت عيناي بالدموع. ”كلا، لا أخاف، يجب أن أجد عملًا لأعتاش“. ربّت العمّ فتح الله على كتفي برأفة كبيرة وقال ”إذن، مصمّم أنت على فِعل ذلك، ليكن الله معك“. انحنيت وقبّلت يده اليمنى بحرارة، وذرفت عيناه دموع الفِراق أيضا.
الطربوش بقي في المقهى
لوحّت بيدي مودّعًا؛ وهو سار في طريقه. توقّفت بجانب دكّان واشتريت خبزا لآكل شيئًا ما قبل متابعة السفر. دفعت قرشين واستقللت سيارة أجرة ستوصلُني لنتانيا. بجانب كفار يونه توقّف سائق التاكسي وقال للركّاب: ”هذا هو، انتهينا، لن أسافر أكثر، هناك اليهود، امشوا غربًا بضع مئات من الأمتار، إنّي لن أسوق إلى هناك، أخاف“.
وصلت كفار يونه واسترحت في المقهى الذي على جانب الشارع. تبقّى في جيبي قرشان ونصف ثمن فنجان قهوة. بينما كنت جالسًا تذكّرت أنّني في مقهى يهودي والطربوش ما زال على رأسي. وعندما التفت صاحب المقهى إلى الوراء نزعت الطربوش ووضعته على الكرسي بجانبي.
خرجت من المقهى بسرعة، فبجانبه وقفت سيّارة جنود بريطانيين. طلبت الانضمام إليهم، وافقوا، صعدت إلى الشاحنة واختبأت خلف قماش القنّب. وحينما تحرّكت الشاحنة، لاحظت عبر شقوق القماش أنّ صاحب المقهى خارجًا منه مسرعًا وبيده طربوشي؛ من المفروغ منه أنّه لم يرني.
بفضل الكاهن عمران
أنزلني الجنود من الشاحنة عند الحاجز لعدم وجود أيّ مستند شخصي. قلتُ لقائد الحاجز بأنّني سامري، ورويت له قصّتي. ثم طلبت كِسرة خبز لأنّه لم يدخل فمي شيءٌ منذ زمن طويل. ”إذا كنتَ سامريًا، قل لي من هو الكاهن عِمران“، قال لي قائد الحاجز. وصفت له الكاهن عمران وأضفت للتدليل عليه بأنّه يعرُج منذ أن أصابه مجهولون، صدَّقَني القائد وأمر بأخذي معهم لمكان فيه سيارات لتل أبيب.
استقللت حافلة لتل أبيب. وحدث أن توقّفت الحافلة عند حاجز. صعد جنود إنچليز لفحص الهويّات؛ ولحسن حظّي جلست في المقعد الخلفي. أمامي جلس مسافر لم يمتلك هوية، استغللت الجلبة التي قامت فنزلت من الحافلة. وصلتُ يافا مشيًا بعد ستّ ساعات.
كان ذلك في منتصف العام ١٩٤٦، وسُرّ جدًّا سامريو تل أبيب القلائل برؤيتي. عانقني العمّ حسني (يفت)، بكيت على عنق أخي وهو على عنقي. وبعد أن سمع العمّ حسني متاعب السفر قال ”لا تهتمّ يا بنيّ، من الآن ستتحسّن حياتك، إنّك شابّ ومستقبلك كلّه أمامَك، اقبض عليه بيديك“!
طبعًا، كان مصيبًا“.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق