أنا لا أختلف مع الأمين العام لاتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين أ. مراد السوداني بوصفه مثقفا وشاعرا، ولا حتى أمينا عاما لاتحاد الكتاب لو أنه جاء بطريقة ديمقراطية خالصة، وليس على أجنحة التنظيم الفتحاوي وفرضه هو والقائمة بمسرحية رديئة الإعداد والإخراج، ساهمت فيها جميع الفصائل بما فيها فصائل اليسار جميعا، فأنا هنا لا أشخصن الأمور، وإنما أحاول أن أرى بمنظار موضوعي بعيدا عن الأشخاص واحترامي لهم. أما من أراد اعتبارها "شخصنة" فأتركه ورأيه القاصر وعينه الكليلة النظر وقلبه الرعديد وفرائصه المرتعدة.
لقد أثبت كتّاب اليسار جميعا أنهم تابعون بلا حول ولا قوة للقرار السياسي، فهم منقادون ينفذون ما يتم الاتفاق عليه فصائليا، فرضي المستوى السياسي اليساري بالهامشية بجانب الفصيل المهيمن سياسيا في الحالة السياسية المتردية والنطيحة وما أكله السبع الاحتلالي البغيض، وجر معه للأسف المثقفين الذي تهمشوا أيضا بفعل القرار السياسي لفصائل اليسار. فتلك الحالة الرديئة سياسيا جلبت الويل للمثقف اليساري وجعلته صفرا على شمال رقم الفصيل الأكبر، يؤتى به ليكمل المعادلة كأن المثقف اليساري غدا فقط القوسين اللذين يحيطان الجملة المصوغة برعاية صفراء كاملة. لم يعد كتاب اليسار يعرفون أن أفضل كتابنا في الداخل والخارج هم الكتاب اليساريون، لم يصنعوا ثقافة متميزة فقط، بل أيضا صنعوا المواقف، وأثروا في السياسي أيام أن كان لليسار تلك الأرضية الفكرية الفلسفية المهيمنة والمواقف السياسية الصلبة.
أما الكتاب المستقلون فلا ملامح لهم، مراوغون، يوهمونك أنهم مستقلون علنيا، ولكنهم في حقيقة أمرهم منحازون، ورضوا بأن يكونوا الرافعة الخشبية التي يقف عليها السياسي المهيمن ومن معه من كتاب، أغلب شرعيتهم ممنوحة من السياسي مع تواضع إنتاجهم الأدبي والفكري. هؤلاء المستقلون أخطر من كتاب اليسار التابعين للمستوى السياسي، وذلك لأنك لا تستطيع أن تراهن عليهم، فما أسهل أن يبيعوا أنفسهم بأرخص الأثمان!
لعل أحدكم سيسأل عن الكتاب الإسلاميين، فهؤلاء حالة خاصة من التغريب والحكم في المشهد الثقافي الفلسطيني، فلا يختلفون عن كتاب اليسار وكتاب الراية الصفراء من خضوعهم للمستوى السياسي، ولكن على طريقة "طاعة وعلي الأمر". هؤلاء أيضا لا يعول عليهم؛ لأنه محكومون بالتقية، والمراوغة، ويعتمدون على الصداقات الشخصية، ويتسللون إلى المواقع بوصفهم كتابا فقط، وربما اضطروا ليصفوا أنفسهم أنهم مستقلون، فلذلك لن تجدهم في يوم من الأيام، ما دامت هذه الحالة السياسية قائمة، لن تجدهم يشكلون منافسا قويا أو مؤثرا، بل إنهم يرضون أن يحتلوا الهامش، فيراقبون من بعيد متحينين الفرصة السانحة للانقضاض عندما تحين ساعة الصفر التي ينتظرونها ويدعون الله في صلاتهم لتكون قريبة ليشكلوا حالة سياسية وثقافية أشد تفاهة وترديا. هؤلاء أيضا خطر كبير على الثقافة وهم بهذه العقلية الغوغائية الشاذة عن سلوك المثقف الواعي الواضح المستعد أن يموت في سبيل مواقفه وآرائه، فسياسة النأي بالنفس أثبت فشلها الثقافي والإنساني كما أثبتت فشلها السياسي أيضا.
في ظل هذه المشهدية من اصطفاف الكتاب وانتماءاتهم وخضوعهم للمنظومة السياسية ستجد أن التغيير شبه مستحيل، وستكتشف أنك كنت وحدك في العراء، وربما رفعوا عنك ذلك الغطاء الزائف من حرية التعبير، وشنوا عليك كلابهم لتنبح هنا أو هناك لتنهش لحمك. لقد خلفت هذه العقلية مشهدا عفنا بكل ما تعانيه هذه الجملة من معنى، فسقط آخر جدار كنّا نوهم أنفسنا أننا نحتمي به؛ فلم التعد "الثقافة مقاومة" كما يدعون، فإذا لم تقاوم على الجبهة الداخلية أولا وتنبني المفاهيم التنويرية الحقيقية وتدافع عنها وترفض كل ما يكرس غيرها، فاعلم أن صراع الثقافة مهزوم وهو يناضل بعقلية مهزومة عدوا محصنا داخليا وخارجيا. بل إن هذه العقلية ستفتح الباب لوجود "المثقف الخائن" الذي يكون قادرا على التبرير لأنه مستند إلى ركن شديد، فثمة فصيل سياسي متغول يدافع عنه، ويخرجه من خيانته كما تسل الشعرة من العجين، ويكون قادرا على قلب المفاهيم والحقائق ما يعني بكل بشاعة تكريس عملية تزييف الوعي والثقافة وتهجين المنطق وضياع الشخصية الثقافية، وتفتح هذه العقلية مسارات من التسلق والانتهازية ليختلط الحابل بالنابل وتعمّ الفوضى بكل أشكالها، ويهيمن منطق العشيرة والحزب والفزعة الفلاحية والتشبيح السياسي والثقافي، وغير ذلك من معضلات الفعل المشبوه.
ولأجل كل ما تقدم فأنا لست ابنا لهذا العفن الثقافي. فثمة أشخاص لا أستطيع أن أتصالح مع فكرة وجودهم في فضاء هذه الثقافة الزاخر بما يزخر به من عصبيات قبلية وتناحرات فئوية وشيطنيات شخصية، ومؤامرات بينية وتوجهات تطبيعية وتشبيحات فصائلية وترقيعات سلطوية وفذلكات لغوية وتدليسات فكرية وارتماءات سياسية ودكتاتوريات سلوكية وتخبيصات فلسفية وتسحيجات نقدية حتى لو كان أحد هؤلاء وريثا للمتنبي أو أبي حيّان التوحيدي أو المنفلوطي، مع ملاحظة أنني لا أحب كتابات المنفلوطي الغارقة في القولبية، فطرتي التي فطرت عليها. لقد جربنا بعضهم، فإذا هم سبة هذا العالم المتدهور.
معذرة كبرى لكل من أحبهم من الكتاب الأصدقاء والكاتبات الرصينات المحترمات، فهم وهنّ على كلٍّ فئة قليلة جدا جدا ومحدودة، ويتناقصون كل يوم، ويتساقطون كورق الشجر كلما هبت رياح الخريف، ولا يصمدون أمام رياح البؤس الحارة الجافة.
كانت الثقافة مقاومة وفخرا، أخشى أن يأتي يوم وتصبح عارا، يوصم به المثقفون بوصفهم تلك الفئة التي فرّطت في كل شيء، ولم تُبق ولو كوة صغيرة لينفذ منها الأمل في دهاليز الظلام المدلهمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق