جامعة هلسنكي
في ما يلي ترجمة عربية لهذه القصّة، التي رواها الكاهن الأكبر يوسف ابن أبي الحسن (أب حسده) ابن الكاهن الأكبر يعقوب [١٩١٩-١٩٨٨، زعيم بطبيعته، نسخ كتبًا كثيرة] عندما كان كاهنًا أكبر بالعربية على مسامع الأمين (بنياميم)، الذي بدوره نقلها إلى العبرية، نقّحها، اعتنى بأسلوبها ونشرها في الدورية السامرية أ. ب.- أخبار السامرة، عدد ١٢٥٠، ١٥ أيلول ٢٠١٧، ص.٢٨-٢٩. هذه الدورية التي تصدُر مرّتين شهريًا في مدينة حولون جنوبي تل أبيب، فريدة من نوعها ــ إنّها تستعمل أربع لغات بأربعة خطوط أو أربع أبجديات: العبرية أو الآرامية السامرية بالخطّ العبري القديم، المعروف اليوم بالحروف السامرية؛ العبرية الحديثة بالخطّ المربّع/الأشوري، أي الخطّ العبري الحالي؛ العربية بالرسم العربي؛ الإنجليزية (أحيانًا لغات أخرى مثل الفرنسية والألمانية والإسبانية والبرتغالية) بالخطّ اللاتيني.
بدأت هذه الدورية السامرية في الصُّدور منذ أواخر العام ١٩٦٩، وما زالت تصدر بانتظام، تُوزَّع مجّانًا على كلّ بيت سامري من المائة والستّين بيتًا في نابلس وحولون، قُرابة الثمانمائة سامري، وهناك مشتركون فيها من الباحثين والمهتمّين في الدراسات السامرية، في شتّى أرجاء العالم. هذه الدورية ما زالت حيّةً تُرزق، لا بل وتتطوّر بفضل إخلاص ومثابرة المحرّريْن، الشقيقَين، الأمين وحُسني (بِنْياميم ويفت)، نجْلي المرحوم راضي (رتسون) صدقة (٢٢ شباط ١٩٢٢ــ٢٠ كانون الثاني ١٩٩٠).
حِفظ سِفْري التكوين والخروج غيبا
’’هذه القصّة هي جزء لا يتجزّأ من نمَط حياة عائلتي، أتذكّرها كلّ عام في الشهر السابع، شهر الأعياد وبخاصّة في خلال ليلة عيد الغفران، عندما ألاحظ كيف يتناقص عدد المصلّين، الذين يحفظون سِفْري التوراة غيبًا، سفر التكوين وسفر الخروج. هناك إنارة اليوم في الكنيس، في عيد الغفران من المساء إلى المساء. اختراع الكهرباء أدّى إلى ذلك. لا حاجة إذن لاستظهار هذيْن السفريْن، كما جرت العادة لدى الكثيرين منّا، في الماضي حيث كان الظلام يخيّم في الكنيس في ليلة الغفران عند قراءتهما. على نور الكهرباء يقرأ كلّ واحد اليوم براحة قُصوى من الكتاب الذي بيديه. والأمر ذاته ينسحب على ترتيل الأشعار الكثيرة في ليلة الغفران. يمسِك كلّ واحد سفر الصلوات الذي نسخه والدكما راضي صدقة (رتسون تسدكه)، رحمة الله عليه، ويُتابع ترتيل المرتِّل في رُكن ”مذبح“ الكنيس. ”يهمس“ له بصوت جهوري البيت التالي في النشيد الديني.
وقد تجدون اليوم أيضًا آحادًا من السامريين يحفَظون غيبًا أجزاء كبيرة من الأشعار وأسفار التوراة، للتفاخر وهذه ظاهرة تستحقّ المباركة. ومن جهة أخرى، هناك من لا يقوم بذلك، ولا ينبغي ذمَّهم بسبب ذلك، الإنارة طوالَ ليلة الغفران تُعفيهم من ضرورة الاستظهار.
بالتأكيد، ستقولون إنّّه من جرّاء ذلك، ازداد عدد قرّاء الكُتب من البالغين والأولاد والفتيان، فالنور يساعدُهم على التعمّق أكثر بمضْمون المكتوب والتمتّع به، بدل تركيز كلّ تفكيرهم على الحفظ غيبًا، وبذل الجُهْد لتذكّر السطر التالي أو الجملة الآتية. ربما تكونون على صواب في هذه النقطة. والحقيقة اليوم تشير إلى تواجد مصلّين بيننا أكثر لا يقرؤون تلقائيًا، ولكنّهم ينتبهون لرسالة المؤلِّف أو أفعال الأوائل المفصّلة في سِفْري التوراة الأوّلين.
الرُّبْع الأخير من سِفر الخُروج
كما أشرت آنفًا، لم يكنِ الوضع هكذا في الماضي. عادة كان الظلام يخيّم على معظم ساعات ليلة يوم الغفران، إلى أن وُصِل الكنيس النابلسي بالتيار الكهربائي في أربعينات القرن العشرين؛ ويذكر أنّه قبل ذلك بسنوات غير كثيرة أُشعل مصباح (لوكس) الكاز في مدخل الكنيس، وكان ينطفىء عند نَفاد الكاز، عند الشروع بقراءة النصف الثاني من سفر التكوين وكلّ سفر الخروج.
هذا الوضع أدّى حتّى ذلك الحين، إلى تنافس مبطَّن في أوساط شباب وشيوخ الطائفة؛ من يُجيد استظهار السِّفرين، ناهيك عن الأشعار الطويلة التي كانت تُرتّل عند الاستراحات بين قراءة قسم وآخرَ من التوراة. واعتبر كلُّ منِ استظهر جيدًّا السفرين عالمًا عارفًا في الطائفة. وقد أُشير إلى ذلك في وثيقة قِران الشباب الذين حفِظوا السِّفْرين عن ظهر قلب. كما أنّ هناك من أضافوا هذه المعلومة إلى توقيعاتهم في نهاية أسفار التوراة والصلوات أي: صائم وواقف في ليلة الغفران [צעום קעום לילת הכיפור]. وفي الأعوام الأخيرة، ١٩٨٧-١٩٩٠ فقدنا بعض خيرة من حفِظوا غيبًا السفرين الأوّليْن. فقدان لا يُعوّض، رحمة الله عليهم أجمعين.
أصعبُ قِسم للحفظ غيبًا في السفرين هو الرُّبع الأخير من سفر الخروج المدعو اختصارًا ”آيات المسكن“. يضمّ هذا القسم تعليماتِ عمل أدوات المسكن، الذي أقامه النبي موسى في صحراء سيناء وتنفيذها، تتّسم التعليمات بالفعل ”وتصنع“ (ועשית) ּأمّا تنفيذها فيتّسم بصيغة الفعل ”ويصنع، ويصنعون“ (ויעש – ויעשו)؛ محتوى الفقرات ونحوهن متشابهان بشكل مُدهش، ولكن هنالك مخارج- فواتح تتبدّل بين التعليم والتطبيق.
ومن لا يُجيد الاستظهار سُرعان ما يرتبك ويتبلبل ويتلعثم لسانه عاجزًا عن متابعة التلاوة شفويا. وهكذا يسبّب هو لنفسه الخزِيَ والعار ويُبلبل أصدقاءه في القراءة؛ لذلك يجمُل لكلّ منِ استظهر آياتِ المسكن بلا أي خطأ نعتُه بـلقب ”متقن القراءة/التلاوة“، أي مُجيد قراءة التوراة، الذي يوزّع اليوم بدون حسيب أو رقيب على كلّ واحد.
هذه المقدّمة هامّة جدًّا، كونها خلفية للقصّة التي حصلت في بيت جدّي، الكاهن الأكبر يعقوب بن أهرون وفي زمن أبي الكاهن أبي الحسن (أب حسده)، شمّاس/مرتّل الكنيس النابلسي في ثلاثينات وأربعينات وحتّى قُبيل موته عام ١٩٥٩، وبعد موته بسنوات قليلة، رحمة الله عليه.
يوسف صَرَوان
كتب جدّي الكاهن الأكبر يعقوبُ ونسخ كتبًا كثيرة جدًّا، ومنه ورِث والدي حُبّ الكتابة؛ كان جدّي حكيمًا معروفا، احترمه وبجّله أبناء طائفته وعربُ نابلس أيضًا؛ خاض غير مرّة غِمار نقاشات حامية مع فقهاء الإسلام محاولًا إقناعهم بصدقية ديننا، لأنّه أحقّ وأصحّ دين.
احترم الكثيرُ من أهالي نابلس جدّي الكاهنَ الأكبر يعقوب لبهائه أيضًا، الذي غدا هالة لشخصه، وكانوا يستقبلونه بالتحية والترحاب، وغير قليل منهم آمنوا به لدرجة أنّ كلّ كلمة خارجة من فيه اعتبروها مقدّسة. وكانوا على استعداد كامل لتلبية ما يطلبه. من أولائك كان بطل قصّتنا يوسف صروان، خادم في بيت جدّي، المعروف من قصّة أُخرى حكيتها، تدور حول كيف أنقذه جدّي من أيدي منتقمين همّوا بقتله انتقامًا على مقتل ابن عائلتهم بيدي رجل اختفت آثارُه (القصّة بعنوان: الكاهن الأكبر يمنع ثأرا؛ ترجمتها إلي العربية ونشرت في عدّة صحف إلكترونية).
وقد وثِق يوسف صروان هذا بجدّي الكاهن الأكبر يعقوب، وبكلّ ما نطق به لدرجة أنّه دأب على مرافقته طَوال الوقت، كان يقلّد أنماط حياة السمرة، حتّى في أوقات الصلاة في الكنيس كان يقف بجانب الحائط الخلفي، أو بجانب الدرجات ويُتابع مجرى الصلاة، وحينما كان الكاهن يُلوّح بسِفر التوراة، كان يوسف صروان أيضًا يتبارك بتمرير راحة يده على وجهه كسائر المصلّين؛ كان من الحريصين الذين ”تباركوا“ بتمرير راحتي يديه على الوجه بنيّة شديدة؛ تمرير اليد على الوجه بحركات التبرّك يعود إلى قصّة ”السخط، إخفاء الوجه“ لدى النبي موسى عند لقائه الأوّل بالله في جبل حوريب.
بمرور الوقت توفّي جدّي الكاهن الأكبر يعقوب، وانتقلت الكِهانة الكُبرى للكاهن إسحاق بن عمران (عمرم)، إلّا أنّ باقي الأمور التي ميّزت الكاهن الأكبر يعقوب بن أهرون، قدِ انتقلت بالوراثة للوريث المخلص ابنه، والدي الكاهن أبو الحسن (أب حسده)، نسخ المخطوطاتِ بطريقة منظّمة وصحيحة، ترجمة من الآرامية والعربية إلى العبرية، الاستمرار في المراسلة المتشعبة التي قام بها جدّي مع باحثي الدراسات السامرية في ذلك الوقت وأبرزهم كاولي وچاستر، وبحوزتي حتى اليوم في مكتبتي الضخمة رسائل بعثاها لأبي رحمه الله.
الحُلُم
حاول أبي الكاهن أبو الحسن في كلّ وسيلة وأفلح في تقليد أبيه الكاهن الأكبر يعقوب. كان يستيقظ هو أيضًا في ساعة مبكّرة، وينسخ كُتبا على نور قنديل صغير. ذات يوم في الساعة الثالثة صباحًا، وبينما كان منكبًّا على نسخ مخطوط قديم، سمِع أبي صوتًا غريبًا ينادي ”كاهن!، كاهن!“؛ ظنّ أبي في البداية بأنّه يحلُم ولكنّه ٱرتعب عندما تكرّرت المناداة فسأل ”من المنادي في منتصف الليل؟“.
”هذا أنا يوسف، يوسف أنا“، جاء الجواب من خلف الباب -”إفتح لي من فضلك!“؛ عرف والدي صوت يوسف صروان الخادم في بيت أبيه فأسرع وفتح الباب. ”ما لك مضطرب لهذا الحدّ وأيّة ساعة اخترت لقرع باب بيتي؟“ استفسر والدي، وفي الوقت نفسه، مسكه بذراعه لمساعدته وأدخله إلى الغرفة؛ يوسف صروان كان آونتها طاعنًا في السنّ. ”لم أقدِر على النوم كلّ الليلة لأنّني حلمتُ حُلْمًا وعليّ قصّه عليك لأرتاح“.
”ما هو؟“ - أُثير حبّ استطلاع أبي. ”في منامي رأيت أباك الكاهن الأكبر يعقوب، رحمه الله، آتيًا نحوي“. أشار إليّ بإصبعه بأن أجيء إليه ففعلت. قال لي: إذهب وقُل لابني أبي الحسن أن يتعلّم المسكن، نعم، قال تعلّم المسكن. لا أدري ما قصد. استيقظتُ من نومي ولم أتمكّن من النوم ثانية، أيقنت أنّه لا بدّ من تلبية أمْره“.
ربّت أبي على كتف يوسف صروان، هدّأه وهنّأه على الرسالة التي حملها وأوضح له أنّ المقصود هو الجزء الرابع والأخير من سفر الخروج . ”أنت اختُرتَ لنقل أمر أبي القاضي بضرورة ٱستظهاري آيات المسْكَن ليوم الصوم القريب“.
أبي يستظهر آياتِ المسكن بلا خطأ
في ذلك الصباح كان أبي مشغولًا بنسخ سِفر الخروج عند نوبة ”أن يحضروا/لياخدوا/وياخدو/ياخذوا“ (أنظر: حسيب شحادة، الترجمة العربية لتوراة السامريين. المجلّد الأوّل: سفر التكوين وسفر الخروج. القدس: الأكاديمية الوطنية الإسرائيلية للعلوم والآداب، ١٩٨٩، ص. ٣٧٢-٣٧٣). وقد رأى بهذا علامة لصحّة حُلم يوسف صروان. توقّف حالًا عن النسخ، تناول التوراة وبدأ باستظهار نوبة ”وأعطى موسى“ (سفر الخروج ٣١: ١٨) وحتى آخر السفر وهذا الجزء هو الأصعب للحفظ غيبا.
كان يوسف صروان قدِ ٱهتزّ واضطرب من هذا الأمر وأحسّ بسعادة غامرة، لأنّ الله ٱختاره لينقل بالحلم أمر والده. ”لماذا حظيتُ أن أكون رسولًا لإيصال أمر الأب لابنه؟“، تساءل سرًّا ووجد الإجابة رأسًا: ”لأنّك خدمتَ الأب الكاهن الأكبر يعقوب بإخلاص“.
في يوم الغفران ذاته، تواجد المسنّ يوسف صروان في الكنيس السامري العتيق طوال الليلة، وسمع كيف تلا أبي عن ظهر قلب، جميعَ آيات المسكن بدون أن يشير زملاؤه في القراءة إلى أيّ خطأ. إنّه نفّذ أمر الوالد الذي وصله بحُلم يوسف صروان كما يجب.
”ماذا أقول لك؟“، قال أو ربّما سأل يوسف صروان الشيخُ والدي وأقرّ: ”أنتمُ السامريون أبناء أبناء الأنبياء حقّا“.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق