أحيانا أرى أن النقد صعب، وما يكتب من مراجعات ما هو إلا تسالٍ وتهويمات لا تمت للعمليات النقدية بأية صلة، وأحيانا أرى أن كل من تحدّث عن العمل الأدبي يقدم نقدا من نوع ما، المشكلة تكمن في قياس هذا كله بمقياس الناقد الأكاديمي المنهجي الذي يفترض أن النقاد يجب أن يكتبوا ضمن منهجية معينة، وبوعي كامل على هذه المنهجية. ثمة نقد "لا منهجي"، "لا أكاديمي" ناجح جدا ويؤدي أهدافه، وثمة نقد منهجي أكاديمي ليس له إلا نظرياته، وظل حبيس الغرف الصفية الجامعية والكتب النظرية المنهجية والأبحاث المحكّمة. كم من قارئ عادي أو متخصص أو شاعر أو روائي يطلع على مجلة "فصول" المصرية، ويقرأ أبحاثها سوى طلاب الدارسات العليا والنقاد المنهجيين؟ وهذا مثال من أمثلة متعددة.
وبناء على تلك النظرة الصارمة المنهجية التي ينادي بها النقاد الأكاديميون، ويتباكون على ضياع المنهج النقدي في كثير من الكتابات. هل ما كتبه مثلا غسان كنفاني في كتاب "فارس فارس" يعد نقدا؟ هل ما يكتبه الشعراء والروائيون "غير النقاد" من قراءات وينشرونها في كل مكان تعد نقدا؟ أين ذهبت الأنماط الأربعة من النقد التي تحدث عنها إدوارد سعيد في كتابه "العالم والنص والناقد"، وجعل النقد الصحفي ومراجعات الكتب نوعا من تلك الأشكال النقدية؟ أين النقد التفاعلي الذي تحدّث عنه رونان ماكدونالد فأمات الناقد الأكاديمي؟ أين الناقد الافتراضي الذي نشهده الآن في المواقع الإلكترونية وأصبح مطلوبا ويُقرأ ويُتابع ويؤثّر؟
أظن أن المنهجيّين من النقاد يعقّدون كل شيء، ويضعون العراقيل في الدروب، والعصيّ في الدواليب، ويصوّرون أن ثمة فشلا كبيرا في كل شيء، في النص الإبداعي، وفي النقد، كما هو في السياسة، والإدارة، والتعليم. ثمة ما هو عار عن الصحة في كل ذلك الادعاء، وما هو إلا تجنٍ على كل ما في الحياة الثقافية العربية من نشاط كتابيّ في هذا الإطار.
لعل التشدد كثيرا في الممارسة النقدية واتباع المنهجية الصارمة محبط على الأقل من ناحيتين؛ الأولى: محبط في القراءة، من المبدع والقارئ العادي، والأخرى: محبط للكتّاب أنفسهم الذين يريدون كتابة نقد حتى لو كان تذوقيا وانطباعيا، وكل من يعمل في النقد يدرك أن هذا النوع من النقد معتبر، ويشكل مدرسة وله نقّاده المعتبرون. إن هذا النوع من النقد ليس حيا، بل إنه يقتل الشغف والحب لدى الكاتب، بحجة كبح جماح النفس وهي تكتب النقد. فلست أرى أقتل من النقد المنهجي لروح النقد الحية المتوهجة.
قد يعتقد البعض أنني أدافع عن منهجيتي في كتابة المقال النقدي، وأود أن أوكد أن الأمر ليس شخصيا بالمطلق، بل هي ملاحظة التأثير المتواضع للنقاد الموصوفين بأنهم منهجيون، بل لا أثر لهم في صناعة المزاج العام للقارئ وللمبدع، فالنقد الهندسي ذو الخرائط المعقّدة، كأنك في ساحة حرب، أو في قاعة لرسم استراتيجيات دولية سرّية، أو بناء مخططات هيكلية، عمل لا نفع منه كله، ما دام أن هذا "الشُّغل" النقدي لم يساهم في أن يفهم المبدع والقارئ العمل الأدبي وفكرته وأدواته، وعجز عن حمل تلك الأدوات للفكرة على نحو فني، أو ما يعرف بـ "الفنية". لقد غدت هذه الهندسيات خاوية من الرسالة، وأدخلت المبدع والقارئ في متاهة، لن يخرج منها معافى، لا بالفكر، ولا بالنقد، ولا بالأدب.
وأكرر أن الأمر ليس شخصيا، فقد تجنبت منذ أدركت مهمة الناقد التبصرية التبصيرية أن هذا النوع من النقد معقد وغير ذي فائدة ولا يقرؤه أحد، بل مشكوك في شرعيته، فالنقد ليس علما وإن كان يتوهم النقاد أنه علم. لذلك أحجم عن كتابة أبحاث نقدية محكمة مع قدرتي على ذلك، لأنها تضييع للوقت أولا، وانحراف ثانيا عن الهدف؛ فالنقد يجب أن يكون مباشرا تعليميا بدرجة ما، يؤدي رسالته للمبدع أولا ثم للقارئ العادي تحقيقا لمهمة تلك الكتابات التي يطلق عليها اسم النصوص الموازية، وتتمثل في إشهار العمل الأدبي والتفاعل معه. لا أن يكون النص النقدي عملا طلسميا، يحتاج إلى التفكيك، ليبحث الكقارئ أو المبدع عن ناقد أو شارح ليفسر له تلك الطلسميات التي لا تقول شيئا سوى التلغيز في اللغة والتشفير في المعطيات، لأن الناقد العظيم ناقد منهجي. يا له من مكسب كبير أيها المبدعون!
حزيران 2020
**
ماذا لو...!
ماذا لو أنّ الشاعر كان في تلك الليلة عِنّيناً
كان عقيما والمرأة عاقرْ
أو لم يشرب كأسا من خمرْ
أو أنّ المرأة كانت حائضْ
أو كانت غير جاهزةٍ لم تنتف إبطيها
وتفوح منها رائحة العرق البدنيّ
أو أنّ العانة نابتة الشعرِ
ولم تحسن صنع السُّكّرْ
لتصقل فخذيها، ذراعيها ونهديها
ويكون لها كل ذاك المكرُ المكّارْ
وتربّي الأطيار في حدائق صدرها المهووس بالشاعر والأشعارْ؟
هَبْ لو على حين غَرّة فاجأته القصيدة مثل وحيٍ ماج وهاجْ
هل كان سيأوي إلى عصفورها الوهّاجْ
حيث السحرُ، الساحرُ، والأبراجْ
هب لو أنّ المرأة لم تكن ذات حسنٍ
أو لم تتقن نصب الأشراكْ
وتُرعرع في خدّيها الوردَ، تعرّبُ أسراب الأفلاكْ
هل كان السرّ سينبت في سرير عابرٍ ليولد مثل هذا "الاشتباكْ"
ليطير من بين شفاه الشاعر حيث أذن واعية تلتقط الحَبّ والحُبّْ
وتُقرع آلاف الأجراسْ؟
هَبْ لو أنّ الشاعر كان نبيّاً والمرأة محض ملاكْ
هل كان البحر سيهذي ويقدّم للجوعى هذي الأسماكْ؟
ماذا لو...!
ماذا لو أنّ الشاعر كان في تلك الليلة عِنّيناً
كان عقيما والمرأة عاقرْ
أو لم يشرب كأسا من خمرْ
أو أنّ المرأة كانت حائضْ
أو كانت غير جاهزةٍ لم تنتف إبطيها
وتفوح منها رائحة العرق البدنيّ
أو أنّ العانة نابتة الشعرِ
ولم تحسن صنع السُّكّرْ
لتصقل فخذيها، ذراعيها ونهديها
ويكون لها كل ذاك المكرُ المكّارْ
وتربّي الأطيار في حدائق صدرها المهووس بالشاعر والأشعارْ؟
هَبْ لو على حين غَرّة فاجأته القصيدة مثل وحيٍ ماج وهاجْ
هل كان سيأوي إلى عصفورها الوهّاجْ
حيث السحرُ، الساحرُ، والأبراجْ
هب لو أنّ المرأة لم تكن ذات حسنٍ
أو لم تتقن نصب الأشراكْ
وتُرعرع في خدّيها الوردَ، تعرّبُ أسراب الأفلاكْ
هل كان السرّ سينبت في سرير عابرٍ ليولد مثل هذا "الاشتباكْ"
ليطير من بين شفاه الشاعر حيث أذن واعية تلتقط الحَبّ والحُبّْ
وتُقرع آلاف الأجراسْ؟
هَبْ لو أنّ الشاعر كان نبيّاً والمرأة محض ملاكْ
هل كان البحر سيهذي ويقدّم للجوعى هذي الأسماكْ؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق