في ذكرى رحيل مقاوم عنيد، زارع الأمل، الصادق الصدوق فيصل الحسيني
بخلاف من يكتب عن أزمة السلطة الفلسطينية الحالية من مقعد المشاهد البعيد، أو من مدرجات المحللين والمفكرين، يعرف كل مواطن فلسطيني ما طعم المرارة واختلافها في جميع البدائل التي تطرح عليهم أو ينصحون بها من قبل أولئك الأصدقاء أو ربما الأخوة الأعداء. وإن كنت لاختار أخطر ما يواجهه الفلسطينيون في هذه المرحلة من مسيرتهم العاثرة، لاخترت فقدانهم لمجسّات "غريزتهم الفطرية الأولى" التي كانت تقودهم، في ساعات المحن المصيرية، بإرادة سليمة غير مكلومة، نحو نفس الدرب، مهما كان صعبًا وقاسيًا، وفي مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، عدوهم اللدود وربما الوحيد. ومن أخطر أعراض فقدان هذه الغريزة هو استمرار الانقسام بين غزة والضفة الغربية المحتلة بين حركة حماس وبين منظمة التحرير الفلسطينية وخاصة تنظيمها الأكبر، حركة فتح.
تعيش فلسطين في هذه السنوات محنتها الكبرى؛ فيدّعي الجميع أنهم يفتشون عمّن يقف وراء المأساة وعن أسبابها؛ ويجتهد كلٌّ من موقعه بتصويب سهامه نحو هذا الفريق أو الآخر؛ مع أنني ألحظ أن الكثيرين يستسيغون اتهام السلطة الفلسطينية أو قيادات منظمة التحرير، لا سيما قادة ومؤسسات حركة فتح؛ ويغفلون، عمدًا أو نسيانًا، دور حركة حماس ومشاريعها المستقبلية كعنصر فاعل في تداعيات المنطقة السياسية وعنوان لمخرجاتها المحتملة والمخطط لها.
لن أدافع ولن أتهم أحدا؛ لكنني على قناعة ان خطاب التيئيس، من جهة، لن ينقذ الشعب من أزمته، وأن لغة التخوين، من جهة أخرى، لن تسعف؛ وأن الكيل بمكيالين، على جميع الأحوال، هو شيمة الطغاة والمتجبرين أو مهنة العابثين والمزايدين.
وفدت إلى القدس الشرقية طالبا في الجامعة العبرية بعد سبع سنين من احتلالها؛ تخرجت بعدها ورحت أعمل محاميا يدافع عن الفلسطينيين، ضحايا ذلك الاحتلال وموبقاته. كنت شاهدًا على أربعة عقود ونصف من تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية ومحاميًا مدافعًا عن معظم قادتها ونشطاء فصائلها. تشرفت بالدفاع عن آلاف الأسرى الفلسطينيين؛ فكل من زج به وراء القضبان صار لي أخًا وحليفًا؛ ولم يستثنني أي حزب أو حركة أو فصيل مقاوم، ولم يفسد اختلاف الرؤى السياسية بيننا صداقتنا وعلاقتنا المهنية إطلاقًا.
انها مسيرة جديرة بالتدوين؛ لكنني هنا سأكتب نتفة عن الحقيقة والأمل؛ فأنا أبن الخسائر الذي لم يتوقع عدلًا من محاكم القمع والاحتلال. خسرنا ولم نهزم بل زرعنا في صدور المناضلين بساتين فجر ووعود حتى نمنا وناموا على وسائد من رضى وسلام.
عشت خيبات كبيرة في مسيرتي المهنية؛ لكنني، هكذا استذكرت وجزمت، قبل أيام في رام الله حين جمعني لقاء عارض مع كمشة رفاق عتق، أنّ أوجع تلك الخيبات كانت ما تفجر وتداعى من جراء مناكفات الأخوة وصراعاتهم أمام اعين المحتلين والعملاء. تذكرنا محطات تلو محطات وفرصًا ضاعت، لو تحققت لكانت فلسطين الدولة قاب قطرة ندى وغنجة نرجسة.
استعدنا من الحوادث جملة؛ سأحدثكم عن واحدة ما انفكت رغم حدوثها قبل سنوات عديدة تدقني في خاصرتي. لا أفعل ذلك من باب نكش الوجع إنما بوحي الأماني والعبرة والأمل.
دعاني، بسام الصالحي، أمين عام حزب الشعب الفلسطيني، إلى مكاتب الحزب في رام الله. كان بسام صديقي مثله مثل كثيرين من رموز الحركة الطلابية الجامعية الفلسطينية في سنوات السبعينات والثمانينيات من القرن الماضي؛ فمعهم ناضلنا وعنهم دافعت لاحقًا في محاكم الاحتلال.
أخبرني أنّ بعض القيادات الفلسطينية قد أعدّت مبادرة تضمنت مقترحًا، تقدم به حزب الشعب الفلسطيني، يقضي بتشكيل "مجلس تأسيسي لدولة فلسطين" حيث سيتشكل من أعضاء المجلسين، المركزي لمنظمة التحرير والمجلس التشريعي، وذلك بهدف تخطي العقبات التي وقفت في وجه المساعي لإعادة بناء منظمة التحرير وإشراك جميع الفصائل فيها وبضمنها طبعًا حركة حماس.
عرض بسام علي ورقة مطبوعة شملت، علاوة على ما ذكر، أفكارًا تستهدف تعزيز إستراتيجية سياسية تستند إلى فرضية وواقع استقلال دولة فلسطين وإنهاء الاحتلال، إضافة إلى حق العودة، وغيرها من النقاط التي اجمع على صياغتها معظم الفرقاء، ولم يبق إلا عرضها على قادة حماس وفي طليعتهم نواب الحركة في المجلس التشريعي الذين كان معظمهم في ذلك الوقت داخل سجون الاحتلال. طلب مني أن ارتب زيارة لنواب حماس في السجن وان اعرض واستعرض مع رئيس المجلس التشريعي، الدكتور عزيز دويك، مضمون الورقة وسماع موقفه منها.
رتبت تلك الزيارة، واذكر أنها كانت في سجن مجدو. بعد انتهائنا من طقوس السلام والترحاب والاطمئنان، عرضت على الدكتور عزيز مضمون الورقة. قرأناها بروية، فأبدى ايجابية واضحة أزاء الفكرة والمضمون، لكنه طلب أن يعود بها إلى أخوته النواب ليناقشها معهم، ثم استفسر فيما إذا عرضت الورقة على الرئيس ابو مازن، وإذا كان موافقًا على فكرتها ومضامينها. أخبرته بأن الورقة معدة بموافقة الرئيس.
عدت اليه بعد يومين وأكدت له موافقة الرئيس على الورقة وانتظرت رده، فجاءني مختلفًا عن موقفه الاول. لم يرفض الدكتور ورفاقه فكرة المبادرة ولا مضمون الورقة لكنهم أفادوني بانهم ليسوا العنوان المخوّل لمناقشتها، بل غزة هي العنوان فعلى المبادرين أن يتوجهوا اليها حيث سيصدر عنها الموقف . عدت الى رام الله واخبرت بسامًا بما جرى، ففهم أن مصير هذه المبادرة قد قضي، وهكذا حصل.
انها مجرد فرصة واحدة من كثيرات، لكنها تبقى مثالًا يثبت أن المحنة التي يعيش في ثناياها الشعب الفلسطيني وتبدو غير قابلة للحل هي في الواقع أزمة من صناعة محلية؛ فاذا أراد صنّاعها فكفكتها لاستطاعوا ولأعادوا الامور الى شعابها، التي مهما تفرقت يجب ان تؤدي جميعها الى صدام مع المحتل.
لا اكتب كي أفتش عن قتلة الحلم الفلسطيني في بقع الضوء العليلة، ولا عن الخناجر المدفونة في قنابيز العشيرة؛ لكنني أتمنى على جميع من يحترفون الصراخ وتخوين القيادات وخاصة "قيادات رام الله"، ومطالبتهم بحل السلطة وبالرحيل، أن يتروّوا قليلا وأن يعدلوا ويترأفوا بمصير شعب صامد كالسمرة في صفحة تاريخ المحتل الأبيض.
للفلسطينيين عمومًا وفي رام الله وغزة، ولأصدقائهم حق الانتقاد والمحاسبة والتساؤل واكثر؛ بيد أن احتراسهم من المغرضين واجب، وفطنتهم ضرورة وسلاح، وسبرهم لمقاصد ناصحيهم بكلمات حق يراد بها باطل، أو منتقديهم بغيرة مغشوشة، فرض عليهم، وجب عدم اغفاله.
قد يكون من الأسهل، في زمن هذا التيه العربي المقيت، أن تُهاجَم منظمة التحرير الفلسطينية، مع انها ستبقى طبعًا مسؤولة عن مآلات القضية الفلسطينية ومصيرها ؛ وقد تصير حفلات التقريع بقيادات "فتح ابو مازن" هي الأطرب ونحن نشهد مواسم الهجرة إلى الصحراء، من دون اعفائهم من حصتهم من المسؤولية عن هذه الحالة؛ وقد يبدو، عند البعض، نداء حل السلطة هو الاوجب، لا سيما وهي سلطة عرجاء ببعض من يعبث بها، ومحاصرة من احتلال بغيض يدلّله، رغم جرائمه، أباطرة العالم "الحر"، ويربت على اكتافه، رغم ادعائهم عكس ذلك، حكام عرب وترك وعجم، فرغم كل ذلك ما هي بدائلكم؟
أعيش في القدس وفي رام الله وأعرف، مثل الكثيرين غيري، مَن سيذود عن عذرائه، فلسطين، مهما غلت التضحيات، ومَن يستعدّ لحماية مهجتها من كل مجرم وعابث وغاصب؛ ونتابع ما يتداعى في مواقعنا وحولنا وندرك أي بدل مسمومة يخيطونها لأهل البلاد وللصابرين فيها ممن كانوا بحاجة الى جرعات نور ووعود وعسل.
لن أكتب خطبة اليأس ولا كلمات الوداع والتخوين، ولا أفعل ذلك ككهل يستعذب رومانسية مخاتلة أحبها يافعًا فبادلته التحية؛ ولا لأنني لا أصغي لأنين الأزقة في فلسطين المحتلة وهي تفيض بدماء أبنائها المراقة برصاص مسوخ آدمية، سقى أرواحها الاحتلال بحبر شرائعه القرمزية؛ فأنا، كأبن لجيل تعمد بالخسارة وقهرها، لن أكون مرآة لواقع أخضر وصدىء، ولا ببغاء تردد ما تقوله الريح الصفراء للرمل الذي علمني ان كل من يسكب في الهواء جرعة يأس يطيل عمر الغبار والاحتلال، وكل من يزرع، مثلما فعل المناضلون البناة، البسمة في حلق الظلام ويرش على القباب ظلًا وارفًا، يرث الجنة والحياة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق