يا زريف الطول/ عمر عبد الرحمن نمر

رآها مرة على عين الماء، وقد حملت جرتها مائلةً على رأسها، ومشت بها... ابتسم قلبه لها، ورقش قلبها له... هكذا شعر...
تعلق بها، يفكر بها كلما ابتسم للحياة، وبعد قضاء يومه في عمل النجارة، كان يستحم، ويلبس ملابس نظيفة بعد أن يكون قد كواها بمكوى يدوي حمّاه على بريموس (بابور)، ويدهن شعره ببريل كريم، ويضع قلم حبر في جيب قميصه، وقد لمّع حذاءه، وخرج... كان يستطيع أن يكسدر على طريق العين مرة أو مرتين في اليوم، دون جلب أي انتباه... إلا انتباهها، وكان لا يصدفها ولا يراها أكثر من مرة أو مرتين في الأسبوع... ولكن برؤيتها كانت تصفو الحياة وتحلو...
مرّت الأيام... والليالي، ولا همّ له إلا تلك الفتاة... وكان يوفر معاشه من المنجرة التي يعمل بها، كي يتقدم لخطبتها ذات يوم...
وجاء ذاك اليوم، عقد العزم، وشاور الأهل، وكدّت جاهة محترمة لطلب يد الفتاة... وقلبه (ناكزه)... ولا يدري لم كان الفال السيء لا يفارقه، فلا يرى إلا البؤس... وكأن قلبه دليله، فبعد أن وافق والد الفتاة على الشاب العريس، وشربت الجاهة قهوتها، وكادت تتم المباركة، إلا أن تفصيلات الطلبة (تعركست)، حيث طلب والدها مهراً غالياً، لا يستطيعه العريس الشاب، ولا بعد سنين وسنين... حاولت الجاهة التخفيف، وتقليل المبلغ، من شان فلان، ومن شان علان... لكن والد العروس ركب رأسه، وتمترس خلف طلبه، لا يغيّر ولا يتغيّر، ولا يقتنع بما يقوله الرجال، ولا تعنيه وساطتهم، وكما قالوا " اللي ما بدّو العريس بغللي مهر بنتو " وطأطأت الجاهة رأسها، أمام رفض الرجل القاطع... ولم تنجح الخطبة...
تغيرت أحوال الشاب، واضطربت معيشته، وبدأ يشوبه النحول، لاحظت أمه حزنه، وحاولت أن تنسيه تلك الفتاة، وياما قالت له: " بجوْزك ست ستّها... وانسى أنت ألف بنت بتتمناك"... لكن كل هذه المسكنات لم تنفع... فأرسل رسولاً لأهل الفتاة علّه يقنعهم... وعززه بثانٍ، بلا نتيجة... كان يتعمد الكسدرة على طريق العين، لكنها لم تكن تأتي، وكانت أختها هي التي تنقل الماء بدلاً منها...
وراحت الأيام، وأجت الأيام، وهو يعيش ضغوط الأهل والجيران والأقارب والأصدقاء، في ضرورة أن يبحث عن زوجة، وكذلك ضغوط قلبه، وحبه المتعاظم يومياً...
وانتصر الضغط الخارجي، وغرّبت جاهة قاطعة السهل الغربي باتجاه القرية المجاورة لطلب يد عروس، وصفتها جارتهم للأم... وذهب مع الجاهة ليرمّها... وعلمت الخطيبة الأولى بالخبر، فحزنت حزناً شديداً، وأصابها الكمد... وفي عرس إحدى صاحباتها، شاركت في الدبكة والغناء، وقالت والدموع في عينيها:
يا زريف الطول وين ع باب الله ............. مغرّب بالسهل ويحفظك الله
تسلانا يا زين ما تخاف من الله ............... وبظرف يومين ادّوّر غيرنا
أبلغته النسوة ما قالته الخطيبة، وأضحت مناداتها الغنائية معروفة في القرية، وفي القرى المجاورة، تغنيها النساء، ويتحدث بها المقيمون والركبان، الرجال والنساء... تطوع مختار القرية، وأعضاء المخترة، وكدّوا جاهة إلى والد الفتاة... وبقدرة قادر وافق على شروطهم المعقولة... وتزوجا... وعاشا في ثبات... وخلّفا صبيان وبنات...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق