أستراليا والعباءة البريطانية/ عباس علي مراد

بعد معركة قانونية ماراثونية، وشدّ وجذب بين المؤيدين لطلب المؤرخة جيني هوكينغ أصدرت المحكمة العليا الفيدرالية قرارها التاريخي بعد تصويت ستة قضاة من أصل سبع لصالح الإفراج عن الرسائل المتبادلة بين الحاكم العام السير جون كير وقصر باكينكهام الملكي البريطاني المتعلقة بطرد رئيس الوزراء العمالي غوف ويتلام عام 1975 والتي تسببت بأكبر أزمة دستورية بتارخ أستراليا منذ الإستيطان الأبيض.
بدأت هوكينغ محاولاتها للإطلاع على الرسائل منذ 10 سنوات، ولكن بسبب معارضة من مكتب الأرشيف الأسترالي ومكتب الحاكم العام والحكومة الفيدرالية وقصر باكينكهام الذين كانوا يعتبرون الرسائل رسائل شخصية تعذّر الإطلاع على تلك الرسائل رغم مرور ثلاثين عاماً على الحدث.
المؤرخة هوكينغ لم تيأس، وواصلت محاولاتها رغم أن ذلك كان سيكلّفها مبلغ 90 ألف دولار كتكاليف قانونية، منها 60 ألفاً للمحكمة العليا، و30 ألف لمكتب الأرشيف الوطني في حال خسارتها للدعوة، التي دعمها مجموعة من المحامين البارزين منهن طوم برينن الذي كان يعارض مقولة الحاكم العام جون كير وقصر باكنيكهام بأن الرسائل شخصية، بالإضافة إلى برينن كان المحامي أنطوني ويتليم ابن غوف ويتلم والمحامي بريت ولكرالذي ربح دعوة الإستئناف للكاردينال جورج بيل و شركة المحاماة كورس شانبر ويستكارت والجميع قدموا خدماتهم مجاناً.
يذكر أن رئيس الوزراء السابق مالكوم تيرنبول كان قد تدخّل من أجل حل المشكلة عام 2015 حينها وعد المؤرخة هوكينغ بأنه سيحاول إقناع قصر باكنيكهام لرفع الفيتو للإفراج عن تلك المراسلات.
بدأت القصة في 11 تشرين ثاني 1975 عندما أقال الحاكم العام جون كير رئيس الوزراء غوف ويتلم المنتخب من الشعب، والذي كان يحتفظ بأكثرية مريحة في مجلس النواب، في الوقت الذي كان يسيطر فيه حزب الِأحرار على الأكثرية في مجلس الشيوخ (29 أحرار و27 عمال و3 مستقلين ومقعد شاغر) وقد عرقل حزب الأحرار الذي كان يترأسه مالكوم فرايزر تمرير الميزانية العامة في مجلس الشيوخ، مما تسبب بأزمة دستورية كان فرايزر بعد تسلمه زعامة المعارضة بعد تحديه سلفه بيلي سنيدن في آذار عام 1975 قد وضع خطوطها العريضة من أجل الوصول إلى الحكم.
والجدير ذكره ان الحكومة والمعارضة كانتا يملكان 29 مقعدا لكل منهما في مجلس الشيوخ وانثين من المستقلين ولكن بسبب لعبة سياسية من رؤساء ولايتي كوينزلند ونيو سوث ويلز وكلاهما من حزب الأحرار جرى التلاعب بالعدد فالاول عين نائبا مستقلاً مكان النائب العمالي ليونل مورفي الذي تولى منصب في المحكمة العليا  والثاني عين نائب غير عمالي مكان النائب العمالي المتوفي برت ميلنر.
وحتى لا يحصل الامر مجدداً قام مالكوم فريزر في العام  بإجراء استفتاء عام 1977 وبتعديل الدستور حيث أصبح من حق الحزب الذي يخسر احد نوابه لسبب ما تسمية اي  شخص لملء المقاعد الشاغرة في مجلس الشيوخ. 
في هذا الصدد يقول الكاتب جورج ميغالوجينس، ان مالكوم فريزر ابلغه في مقابلة معه في عام 2015 انه كان ينوي ترك حكومة ويتلم ان تنهي فترة حكمها وتمرير الميزانية،  وان الماضي أصبح وراءه اذا لم تحصل اي أزمة داخل الحكومة نفسها، ولكن هذا ما حصل عندما ظهرت ما عرف "بفضيحة القرض" والتي برزت في تشرين أول عام 1975 عندما تبين ان وزير الطاقة في حكومة ويتلم ريكس كونور ما زال يحاول تنفيذ خطته والحصول على قرض من الدول العربية المنتجة للنفط.(1) 
الحاكم العام السير جون كير، وحسب ما تبيّن بعد الإطلاع على الرسائل، سارع إلى اتخاذ قراره خوفاً من أن يبادر رئيس الوزراء (غوف ويتلام) إلى إقالته أولاً علماً أن ويتلام نفسه هو من سمّى كير لتولي منصب الحاكم العام.
وطبعاً هناك أسباب سياسية أخرى حيث يقول الكاتب جورج ميغالوجينس في سدني مورننغ هيرالد 18/7/2020 ان الحاكم العام وبعد تعيينه في المنصب في 15 اب 1974 بأسابيع كان يريد إظهار ولاءه المطلق للملكة، وقد مورست أيضاً ضغوط سياسية من قبل رئيس المحكمة العليا كارفيلد بارويك ورئيس ولاية كوينزلند جو بيجلك- بيترسون ومن القطب الإعلامي روبرت مردوخ الذين اعتبروا ان ويتلم إنتهى وان البلاد بحاجة الى زعيم يعيد الاستقرار الى سابق عهده.
أظهرت الرسائل أن الملكة اليزابيت الثانية لم تطلب بشكل علني إقالة رئيس الوزراء، علماً أن المعروف عن الملكة أنها حريصة على معرفة أدق التفاصيل بكل القضايا المتعلقة بالعرش البريطاني، ولكن كما بدا من الرسائل أن الحاكم العام جون كير تلقّى نصائح من السكرتير الخاص للملكة شارل تيرتس بأنه من الأفضل أن لا تطلع الملكة على الأمر وأن القرار هو من إختصاص الحاكم العام الذي تكتّم على القرار وأطلع الملكة عليه بعد طرد ويتلام.
وأصبح من المعلوم أن كير أخفى عن ويتلم إمكانية طرده لحل الأزمة السياسية والتي تحوّلت من أزمة سياسية إلى أكبر أزمة دستورية عرفتها البلاد.
إنقسم الرأي العام الأسترالي حول أهمية تلك الرسائل وهل كان تستحّق كل هذا الجهد أم لا.
المؤرخة جيني هوكينغ تقول: كل جزء هو قنبلة كما كان متوقع من تلك المراسلات. 
إعتبر البعض الآخر إنها شكّلت صدمة للحركة الجمهورية الأسترالية، التي تطالب بفصل أستراليا عن بريطانيا والتي كانت تعتقد أن الإفراج عن الرسائل سيعطيها دفعاً  من أجل تحقيق هدفها.
الحركة الجمهوية من جهتها تقول بأنه وبغض النظر عمّا إذا ما قبلت ما جاء في الرسائل فإن الملكة وسكرتيرها قد لعبوا دوراً مهماً في القضية، لذلك فإن الحركة ترى أن المراسلات تشكّل أدلة واضحة ستعزّز موقفها. 
وكان للمواطنين آراء معبّرة بقوة عن مواقفهم من الموضوع، فإنتقد البعض دور سكرتير الملكة في إقالة رئيس وزراء منتخب من الشعب من قبل شخص غير منتخب ويمثّل سلطة أجنبية.
لكن السؤال المحوري الآن هو ما الذي يمنع حصول ما حدث عام 1975 بحجة ما سمّي "الصلاحيات المحفوظة" أن يحصل في المستقبل؟!
إن ممثّل التاج البريطاني أي (الحاكم العام) مارس هذه الصلاحيات بعد 75 عاماً على تأسيس الفيدرالية في أستراليا، ورغم تلك الأزمة الدستورية الكبرى لم يتغيّر أي شيء بخصوص تلك الصلاحيات بعد مرور 120 عاماً.
لذلك، نرى أنه من الضروري أن يطرح الموضوع على بساط البحث الجدّي، وأن يكون رأس الهرم في السلطة الأسترالية رئيس أسترالي يستمدّ صلاحياته من الدستور الوطني الأسترالي، الذي يشكّل الأساس لاستمرار إزدهار البلاد وتقدّمها بعد تعديله والإعتراف بالسكان الأصليين، وإقامة المصالحة الحقيقية وتثبيت التعددية الثقافية والإنفصال عن التاج البريطاني حتى نعبر إلى المستقبل، وأن لا تكون قضية محاربة الوباء كورونا على أهميتها بسبب تداعياتها الإقتصادية والصحية والإجتماعية عائقاً أمام هذه المبادرة.
وكما يقول مالكوم فريزر نفسه بعد فوزه بالانتخابات فوزاً كاسحاً، يمكن ان تربح السلطة، ولكن من المستحيل ان تحكم بلد خاضع للأستقطاب.  

Email:abbasmorad@hotmail.com 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق