علائق الصورة بالزمن في ديوان " ناثر الليل "/ عمر عبد الرحمن نمر

ناثر الليل ديوان شعري للشاعرة " آمال غزال " صدر عن دار يافا العلمية للنشر والتوزيع، عمان الأردن، الطبعة الأولى سنة 2020 ويقع الديوان في 126 صفحة، حيث يتضمن مقدمة للدكتور فيصل غوادرة، وإهداء الشاعرة، وفهرساً للقصائد...
كثيرة هي العناصر التي تستوقفك في ديوان " ناثر الليل " وتستدعيك لتأملها، ابتداءً بالألفاظ، والمعاني، والمضامين، وتحولات الفعل، والدهشة التي تخلقها الصورة... إلخ... لكن اللافت في النصوص الذي استوقفني أكثر هو توظيف الزمن بتجلياته كافة، حيث رصدت: ورود ألفاظ الزمن بشكل مباشر 92 مرة في 126 صفحة، كانت على النحو الآتي: وردت لفظة الوقت ( الصباح، والمساء، والليل...): 76 مرة، وتكررت لفظة الفصل( ربيع، شتاء...) 14 مرة، أما السنة فوردت بشكل صريح في موقعين اثنين... 
ومن العناصر اللافتة في النصوص، بناء الصورة الفنية التي تدهش المتلقي، وتدعوه لتحسس مواطن الجمال، ومن هذين العنصرين: الزمن، والصورة، انطلقت هذه القراءة إلى إيجاد علائق بينهما... وذلك لأكثر من مبرر...
أولى هذه المبررات، حتى تخلص هذه القراءة إلى علائق بنائية جديدة، سواء أصدرت من الوعي أم من خارجه...
وثانيها: أن الزمن متحرك فاعل، يستقطب المعنى، وغالباً ما يتحول إلى صورة، فالربيع هو الجمال، والخريف بداية السقوط... وأول النهار ليس كآخره...
من هنا استندت هذه القراءة على معاني الزمن الفيزيائية، والنفسية، والروحية، وكيف تنمّطت مع الصورة لإخراج رسوم شعرية... وستقوم القراءة بتأمل معاني الزمن وذوبانها في التشكيل الفني في النصوص، أو ذوبان التشكيل الفني في الزمن، وصياغة آصرة جديدة تدعو إلى الدهشة والتأمل، وذلك بدراسة بعض هذه المواطن الشعرية... من خلال الرصد الذي قام به الباحث للزمن... عسى أن نخرج بشبه قاعدة شبه مطردة...
يجبهنا في بداية البدايات عتبة الديوان، عنوان الديوان " ناثر الليل " يظهر الليل مركزياً في جملة اسمية حذف مبتدؤها أو خبرها... ولعل الليل يتجاوز الزمن الفيزيقي هنا، ولا أظنه بقي ليكون ظرف زمان... بل جر بالإضافة إلى اسم الفاعل " ناثر" الذي يتضمن الفعل في معناه، وأصبحنا نتخيل من ينثر الليل، يبذره كمن يبذر السمسم، ليوزعه هنا وهناك... ويحتمل أيضا أن يكون هذا الشخص هو من يبذر وينثر أشياءه في الليل، إذا أخذنا المعنى الحرفي لليل... وفي كلا الحالين، أصبح الجمال في جدة ارتباط الليل بالنثر، وفي تعليق الكلم بعضه ببعض... فشحن الصورة تأتّى من مركزية الليل، وتخيل النثر.
" منسية يحترفني الغياب
أطوف على أعتاب الأمس
الأيام تكفن جسد الموت
السنوات تقضم في السر أظافرها... الموت سهم يشق روحي خلسة "
المضارع " يحترفني، أطوف، تكفن، تقضم، يشق " تشي باستمرارية البناء السلبي، بناء الفقد الأبدي والغياب... والأمس يتمركز وسط الساحة يطاف به، والأيام هي الفاعلة، والموت يمثل السلب... بينما السنوات هن بواكي هذا الفقد، والنتيجة النهائية الرحيل مع الموت بلا وداع... الزمن هنا تصدر المشهد الأيام، السنوات، الموت... إنها جوقة شكلها الزمن الفاعل، فهو المتحرك الممسرح، وهو المتفرج المصفق، وفي النهاية يسدل الستار على موت البطل... والمتأمل في اللوحة يرى أنها دائرية، تبدأ بالغياب، وتنتهي بالموت... ويتخلق منها ذكرى الأمس... لاحظ كيف تجسدت مفردات الزمن في اللوحة، لتشكل إيقونة تدق في عالم النص... توحي بالحزن المطلق والفقد المطلق واليأس... ويستمر مشهد الموت " منسية في عهر الأزمنة... نزف العصور في رئتي... مواكب الشهداء... جنازات تشيع في أوردتي..." ارتبطت الأزمنة بالخيانة... وتحول الموت الفوضوي إلى آخر برمجته الأزمنة فكان الشهداء... ويأتي المخلص " أنا ناثر الليل، أغازل النجوم لأجدل من ضفائرها معراجي... أقامر بالوقت... وأغافل النادل ليأتي الصباح" فالصباح هو الحلم الطوباوي في الليل البهيم، وصاحب الليل ينتظر بفارع الصبر لينبلج الصبح... يأتي الأمل والفرج... إن هذه الصور فاقت المنهج الاستعاري في بنائها، وتوقدت ناراً ونوراً تهيّج العاطفة والمشاعر وتضيء طريق القصيد... (الديوان ص 13، 14، 15)
 في ص 27 تزداد درجة التقمص في الزمن، وتنتهي هذه الشخصنة لتصبح تماهياً مع المخاطب " اترك أسراب الحمام بهية بشقائها... لا تخنق أنفاس الوقت " وخنق أنفاس الوقت، هو الروح المطلقة، بينما شقاء الحمام هو البوصلة نحو الخنق والموت...  بينما جاء الوقت المعادل الموضوعي للسعادة، وهو الذي يكسر الشقاء، وينفي الانتظار الكسول ص30 " كيف يكون الوقت لي؟ وأنا المصلوبة؟ فوق نخل الانتظار؟ وأنا المفرودة أجنحتي لاحتضان الأمل" لقد فارق الوقت هنا الموت، بل جاء مرادف الحياة والباعث على النشوة فيها...لكنه سرعان ما يعود إليه بلغة الغضب حينا" من يرأب صدع وحشتي؟ ويحتضن رمادي؟ منذك؟ وبلهجة الحنين حينا آخر" ربيعي يشتعل حنينا لشمسك"  ويبلغ الحنين منتهاه " أحن إلى أنفاس صبحك" ص 39 فالأيام تخلق الحزن والغياب... بينما يأتي اللقاء والفرح بانبلاج الصبح... فالصورة هنا ثنائية مركبة ضدية، فيها من التكثيف ما خلق الهبوط نحو الهاوية، ثم الصعود نحو قمة خلاقة... ويتشكل هذا اللقاء المؤكد ويتحول إلى حيرة وانتظار وشك... ص 44 " متى موعد اللقاء؟ يوماً ما... وما زالت تتساءل... والبطولة تتمركز فيها (يوم ما)... يشع حيرةً وشكّاً وتساؤلاً...
" ربما يمنحنا الزمن ورقة... ورقتين من غفوته... ويمضي بنا إلى الأعماق... نمتطي جواد القمر... إلى لقاء أزلي" الزمن هو حكومة اللاحدود، يمنح تصاريح العبور، ونرافقه على ظهر جياد قمرية إلى الأعماق... إلى لقاء أزلي" صورة عجائبية تشع دهشة، وتنفث إثارة... إن بطولة الزمن في الصورة وقدراته الفاعلة، هي التي مكنته من قيادتنا إلى اللاوقع المنشود... وكأننا نفر من واقع بائس إلى آخر " ترقص فيه النجوم، تترنح في صدر السماء... يزينها إكليل بنفسج... والكواكب تشهد عرس الكون" ص 46 وهذه الصورة تركبت عندما تحول الزمن إلى الأزلية... وقد يلتهب الوقت، ويصبح جمراً... " أهي جمرة الوقت الذائب فينا قسراً؟ أم خداع المرايا؟ ص49 هل نحترق ونبعث من جديد كما الفينيق؟ وبين غياب الاحتراق والبعث " كنا نعد خلفك الوقت" صيرورة جديدة تشيأها الوقت بعد أن تناثر في عالم العدم... في ص53 يعود الحبيب من رماد السنين... طائر فينيق... كان لا بد من هذا الإعلان... كي تتفرغ الشحنات الشعورية التي أتت موجات عنيفة... تغرق الوعي...
في السياق ذاته وفي المعنى نفسه ص 56 " غدا... سنرحل إلى الوجه الآخر... تحملنا طيور الغيم على أجنحة الرماد" في ص57، 62، 64 نجد ثنائية الإنسان والزمان... " من نحن؟ أبقايا سلالات القدر؟ أم ثوان مهلهلة... على لوحة الوقت؟ ص57..." مال الذي يجري في عروق الزمان؟ كيف لي برثاء الأغاني؟ كيف لي؟ أن أهادن الوقت؟ من صير الطين ضريحا؟ " إنها أسئلة وجودية كبيرة... تطرح تشكلات الصراع بين مكوني الحياة، الزمان والإنسان... وعندما تتحول الأغنية رثاء تكون حتمية انتصار الزمان... وكينونة البدء في تحول الإنسان طيناً...
في صفحة 71، 72 تبدو أنسة الوقت" قد قُدّ قميص الوقت" " لأنثر شعر الوقت" على التوالي... لقد تفتقت طاقة الزمن واستطاعت تحريك الفعل وتشكيله " تدفقت... شلالاً مسافراً في ممراتي... توقظ أسراب الربيع... لأكتب أول النصوص... عصفورتي كبرت في حدائق العمر" ص41 ورسمت الجمال في الربيع... طاقة الربيع أهدت الفعل حركته " تدفقت... توقظ... أكتب... كبرت..." وعندما يذهب الربيع ص90 " ذهب الذين أحبهم... ذهبوا بربيعي... فحجبهم الضباب... دقت أجراس الغياب" فالربيع هو الموازي الفني للجمال والسعادة... وبذهابه تكون طاقة السلب التي يحملها هذا الذهاب... ممثلة بالفقد... وربما كان الشتاء أشد سلباً في تشكيل الندب والنعي... " أيها الشتاء، لم أتيت؟ ... لترمي بي في حضن وقت يمعن في نحيب الذكريات ص109 ولا نذهب بعيداً إذا قلنا أن علاقة الربيع بالصورة... هي ضدية بعلاقة الشتاء بها... وهذه الثنائية الفنية الضدية توازي علاقة الصبح بالصورة وعلاقة المساء بها " كنت أرى الصبح فيك ضفائرا... تجدل هذياني الموشح بربيعك...وفجأة حل المساء... أجدني بين حروفي المريضة قصائد وارفة بآهات المعذبين" ص 114، 114 تأمل دلالات النص وفضاءاته، وانفتاحه على اللامحدود، وذلك بتوظيف الزمن المكثف المختلط في النص الواحد ( الصبح بالربيع... ثم الصبح بالمساء) ... وما يجسده هذا الاختلاط العجيب من صور عجيبة... 
في صفحة 78 تعلن الشاعرة عن موت النهار... يبدأ النص " النهار يلفظ أضواءه الأخيرة... ترفرف روحي لعناق روحك... هيا نحلق فوق حدود الأزمنة... وتحت رماد العصور..." وتتابع" أسهر باحثة عنك... بين ذراع العتمة وارتعاشات الزمن... حتى انكسر ظهر الوقت..." ثم تصل بنا الطريق إلى محطة فجائعية، إلى موت النهار " مات النهار فامنحيني حضنك قبل الرحيل... مات النهار سكت الكلام... وأصبح الكون ظلاماً... ظلاماً... ظلاماً" في الصورة أنت تعيش مسارين اثنيْن، الأول: انطفاء ذبالة النهار تدريجياً، والثاني: لحظات نزاع إنسان قريب من الشاعرة... وفي نهاية النص فإن الظلام يوازي الفقد المطلق...   
في صفحة 92 " للمساء حق... بمغازلة النجوم الهائمة في بحر العتمة... للمساء حق بمناجاة الظلال التائهة في صحراء الظمأ... نكهة رحيل مفاجئ وأنا أربت فوق الأحزان.. أهادنها" لقد أثبت المساء أحقيته في بداية جملة اسمية، فغازل النجوم الهائمة التائهة في العتمة وفي الصحراء، واتكأ على هذا التأسيس رحيل مفاجئ وأحزان.
ويتجدد الحزن برحيل شمس النهار وغياب الصباح، وتكون النتيجة فيض من الدموع على الراحلين " رحلت الشمس عن أرض.. هجرتها مناديل الصباح... فاضت دموع الأرض على أكف الراحلين".
والغد يجلب القمر، وينبئ عن صبح " أبحث في قسمات الغد الآتي عن قمر يغازل عذرية النجوم.. عن صبح..." ص100
ويشخص النهار ويسمع النشيد والتوسل بألا يرحل، فالرحيل هو الخوف " سأهمس بأذن النهار... وأتوسل إليه.. لا ترحل" ص105

خلاصة:
يعتبر الزمن بتجلياته كافة عنصراً أساسياً من عناصر البناء الشعري، فالزمن ومهما كان نوعه ( ذاتي، جماعي، طبيعي، نفسي، فسيولوجي) يسهم بما يمتلك من طاقة في تحريك الفعل وتشكيله، وبالتالي صياغة الصورة الشعرية والتي تلتحم التحاماً عضوياً مع الزمن، لتنتج دلالات النص وفضاءاته مما يتيح انفتاح النص، والإفصاح عن إمكاناته، وخلق الدهشة لدى المتلقي.
فكما تبرز الصورة الشعرية في النص، وتؤسس لتجربة إبداعية مختلفة، وذلك بنقل اللغة من صفتها الاجتماعية إلى لغة أخرى ترتكز إلى العلاقة بين الأشياء، فإنها في الوقت ذاته تعمل على اختراق الزمن وعلى تكثيفه وتحويله من شكل إلى آخر، وهنا تبدو أهمية الصلة بين الكلمة والفعل والزمن وحركية الصورة في هذا الثالوث، سواء أكانت للكشف أم التأمل أم الإيحاء أم تلخيص حكاية، لكنها حتماً هي تنظيم تجربة إنسانية تعبر عن المعني الأعمق للحياة والوجود، وذلك بتحطيم اللغة العادية وإعادة بنائها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق