الشاعر صالح جرار يوثق تجربة القيد/ عمر عبد الرحمن نمر

   ولد الشاعر صالح محمد محمود جرّار سنة 1931 في قرية " برقين " التابعة لمحافظة جنين بفلسطين ، ونشأ في أسرة ريفية متدّينة .. وتلقى تعليمه الابتدائي في مدرسة القرية ، والثانوي في مدرسة جنين الثانوية ، ونال شهادة الدراسة الثانوية عام 1950م . وعمل معلماً في وزارة التربية والتعليم الأردنية من سنة 1951 – سنة 1981 ، كما عمل أمين مكتبة في مدارس تلك الوزارة . وحصل في أثناء عمله على شهادة الليسانس في اللغة العربية من جامعة بيروت العربية سنة 1975م. كما حصل على مؤهلات في التربية والتعليم ، وفي علم المكتبات..
وبعد تقاعده من العمل في وزارة التربية والتعليم، عمل معلماً في ثانوية جنين الشرعية سبعة عشر عاما (17)، وعمل مدرساً للغة العربية في مدرسة الإيمان التابعة للجنة زكاة جنين سبعة أعوام 
حتّى 2005 , وبهذا يكون قد عمل معلّما أربعة وخمسين عاماً.

آثاره العلمية والأدبية:  
1- ديوان شعر بعنوان " رحلة الأيام " ، صدر عام 1410هـ - 1989م .
2- ديوان شعر بعنوان " جهاد وشهادة " ، صدر عام 1411هـ - 1990م .. سجّل فيه جوانب مشرفة من بطولة وجهاد الأهل في فلسطين ، وبخاصّة بطولة الفتية المؤمنين .
3- ديوان شعر بعنوان " إشراقات " صدر عام 2014
4- ديوان شعر بعنوان " أسير " صدر عام 2013 
5-  ديوان شعر بعنوان " خفقات قلب " صدر عام 2016 
6-ديوان شعر بعنوان " ديوان زوجتي الحبيبة رجاء " صدر عام 2016 
7- سيرتي وشعري من 1931-2001 صدر 2071 من دار المأمون
8- ديوان شعر بعنوان " نظرات وإطلالات " مخطوط
9- ديوان شعر بعنوان" ثورات على الطّغيان " مخطوط 
10- ديوان شعر بعنوان " من شعر هوى الشّباب " مخطوط 
11- ديوان شعر بعنوان " رثاء " مخطوط 
12- ديوان شعر بعنوان " تعليقات ومناسبات " مخطوط 
13- ديوان شعر بعنوان " معارضات " مخطوط 
14- ديوان شعر بعنوان " هجير الأيام " مخطوط
15- طاقة من النّثر مخطوط
16- وقل رب زدني علما – في علم المكتبات - مخطوط
17- مقالات ورسائل أدبية - مخطوط
18-أبحاث أدبية أربعة أجزاء - مخطوط
19- سيرتي وشعري - مخطوط
20- مختارات من شعري - عدة أجزاء - مخطوط
21- لقاء صحفي - مخطوط 
22- ديوان غزّة - مخطوط 
23-ديوان حفيدتي بيسان - مخطوط 
24-شعر نظمته في كندا - مخطوط
25- من رياض شتّى -شعر - مخطوط 
26- ديوان قريتي برقين - مخطوط
28- متفرّقات - عدّة أجزاء - مخطوط
نشر بعض شعره ونثره في عدد من الصحف في الضفة الغربية، والبلدان العربية ، منها صحيفة " هدي الإسلام " و " النهار " و " الدستور" الأردنية، وصحيفة " الشهاب " و " المجتمع " اللبنانية ، و" المنتدى " الخليجية ، و "الصراط " ، و " صوت الحق " ، و " الحرية " الصادرة في   .وفي مواقع أدبية مثل رابطة أدباء الشّام و بوابة الشّعراء وغيرها الأرض المحتلة 1948، 
وكُتِبتْ في شعره عدة رسائل جامعيّة, ونشرت كثير من المواقع الأدبية جزءاً من شعره.
 ووردت فصول في عدّة مؤلفات عن سيرته وشعره، مثل: (أدباء من جبل النار) للمؤلف حسني جرار، وكتاب (شعراء الدعوة الإسلامية) للمؤلف حسني جرار وزميله أحمد الجدع.

  إذا افترضنا صعوبة أن يعزل الشاعر بين الموضوعي والخاص، فكذلك شاعرنا عندما كتب سيرته الذاتية، كتبها من خلال المراحل النضالية التي عاشها شعبه، فهو يشهد ثورة ال 36، ويرى والده ثائراً ضد الاستعمار الإنجليزي، ثم يشهد نكبة 1948، وكيف قُتل الناس واقتُلعوا من أراضيهم وهُجّروا من ديارهم... ثم حرب 1967 ومزيداً من التهجير والاقتلاع والنفي...
  كتب الشاعر في هموم شعبه كافة، استعرض في شعره نضالات هذا الشعب، ومرارات نكباته، كما كتب عن أفراحه ومسراته... بالمجمل كتب عن الجوانب الحياتية كافة، حتى أنه كتب عن أولاده... عن  ميلادهم وتعليمهم وحياتهم... فيما عرّفه الشاعر "بأدب الأسرة"، لكن اللافت في شعره ذاك الذي قاله متغزلاً بزوجته، في تجربة حب عنيفة قبل الزواج... ثم ما قاله فيها في حياتهما... وراثياً لها بعد وفاتها...
  تركز هذه الورقة البحثية على شعر المقاومة عند شاعرنا، حيث أضحى الأدب المقاوم رافداً أساسياً من روافد الأدب العربي... إذ أسهم بشكل كبير في تأسيس خطاب معرفي نضالي... وفي الحالة الفلسطينية خصوصية كبيرة في هذا المضمار، فالثورة الفلسطينية استمرت زمناً طويلاً بين مدّ وانحسار... مما مكّن من تأسيس أدب مقاوم بامتياز، في فروع الأدب كافة، الشعر بأشكاله، والنثر بأنواعه... ومن بين فروع منوعة متشابكة في أدب المقاومة استقلت هذه الورقة في أدب الأسر – إن دقّ التعبير- وهنا نتوقف لنقول إن الأسير الفلسطيني أرّخ لتجربته ووثّقها، وحوّل الفدائي الفلسطيني زنزانته إلى منصة تربوية ثقافية، حيث تعلم ونال أرفع الشهادات، وكتب القصص والحكايات، وغنى وأنتج الدواوين الشعرية... لكن تدرس هذه الورقة البحثية الشق الآخر من أدب الأسر، حيث نجد شاعرنا ينظم ألحانه، ويُقَصّد شعره لتوصيف هذه التجربة المرة، من خلال تجربة ولده " إسلام " النضالية، الذي يقبع في زنزانته منذ 2003 ولغاية الآن ومحكوم بمؤبدات أربعة...
  تسلط هذه الدراسة الضوء على التجربة الاعتقالية في ديوان " أسير" ... من وجهة نظر الوالد الشاعر، في ترحالية حول محطات بنيوية في النص، تم رصدها بعد قراءة النص وتأمله، والنزول في هذه المحطات، لرؤية مبناها ودلالاتها، ومركزية معماريتها في النص... وذلك من خلال تكرارها في نصوص الديوان، وسواء أصَدَرَ هذا الشعر عن الوعي، أو اللاوعي، فإنه وبلا أدنى شك يترك أثراً جلياً في نفس المتلقي، وينقل له صورة الواقع الغيري، ويحيلها إلى صورة واقع ذاتية، وكأن المتلقي بطلها، وممارساته أحداثها... وهذا كله لا يمكنه أن يتحقق إلا بمنهجية الدراسة التحليلية التفكيكية، التي تفكك النص، ثم تدرس إمكاناته العلائقية، وأثر عناصر بنائية النص في بعضها بعضاً، ثم تحاول إعادة إنتاجه، منطلقة من محور النص المركزي، وهو التجربة الاعتقالية، التي خاضها الفلسطيني، باعتباره شعباً ينحو نحو التحرر والاستقلال وبناء الوطن... مما جعل أعداداً من الفلسطينيين في زنازينهم داخل المعتقلات، يمارسون فيها حياتهم... وأضحى الحديث عنهم أدباً قائماً بذاته، ويؤسس لمادة فكرية ثقافية، تصور المعاناة، وساديّة المحتل، والتعذيب، والصراع المستمر الذي يعانيه المناضل ضد من سرق أرضه، وحاول الاعتداء على كرامته، فتصدى له... وفي هذا التركيز على عمل الشاعر صالح جرار، فإنه بإمكاننا أن نتعرف على نتاجات الشاعر من خلال النصوص، بقراءة تحليلية، ودراسة تبتعد عن الإنشائية والشخصنة، ووضع العبارات في قوالب جاهزة لتجفيفها وتعليبها... على العكس من ذلك فإن الدراسة تنحو باتجاه محاكمة العمل في بوتقة تجارب تفاعلية، تدرس إمكانات النصوص، وطاقات عباراتها، وتفاعلات علاقاتها مع بعضها بعضاً. 
الوقوف على عتبة النص:
  صورة الغلاف لها دلالة سيميائية واضحة، تشي بالمضمون، وتقدمه للمتلقي، فخلفية الصفحة جاءت بلون أسود حالك... واستطالت من أسفلها إلى أعلاها قضبان القيد، يدان قويتان تمسكان بالقضبان بشدة، وهنا بروز واضح للصراع، الذي ظهر دموياً أحمر في العنوان " أسير " التي تضخمت حروفها... وظهرت صورة الأسير خلف هذه الدلالات، صورة المتأمل الصامد... وفي اليمين العلوي للغلاف، كان عنوان فرعي آخر، دلت على هوية النص " شعر " وعلى الغلاف الثاني: ظهرت صورة الأسير " إسلام " نفسها على خلفية سوداء أيضاً، كتب تحتها: هويته الاعتقالية، اسمه، وتاريخ اعتقاله، وحالته الاجتماعية، وعنوانه. إضافة لذلك فقد ظهر مكان الصدور وتاريخه، حيث صدر الديوان عن دار المأمون للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، ط1، سنة 2013م. يقع الديوان في 86 صفحة من القطع المتوسط، ويحتوي على صفحة للتصويبات، وأخرى للفهرس، ويتضمن الديوان 25 نصاً، تقص حكايات الأسر. أما عتبة النص الرئيسة " أسير" فتمتلك من خلال تنكيرها، طاقات وشحنات تستقبل المتلقي، فهي وإن دلّت على واحد مفرد، فإنها بالقطع تمثل النضال الجمعي لشعبنا، فإسلام هو نموذج نضالي يجسد معاناة شعب في مرحلة تاريخية، كذلك تفتح هذه اللفظة المفردة نوافذ التأويل بإسميتها، فهي قطعاً جملة إسمية، حذف مبتدؤها (إسلام أسير) لمعرفته القطعية، أو حذف خبرها (أسير تعرفوا على معاناته) وفي الحالتين فإن العتبة تثير فضول المتلقي، وتستفزه لقراءة النص.

الدخول:
  أول ما يطالعنا في النصوص، هو البدهية التي تتأسس عليها المعتقلات الصهيونية، وما تتضمنه من محاولات قهر للمناضلين، فالمعتقل هو كهف النفي العميق والبعيد، الذي يهدف المحتل من ورائه إلى قطع صلة المعتقل بالعالم بشكل عام، وعالمه الخاص بشكل خاص، قد يكون المعتقل زنزانة انفرادية بمترين أو ثلاثة مربعة، يمنع فيه المعتقل من الكلام، وحتى السمع إلا ما يريده الجلاد... إنهم يريدون قتله ببطء، لقد رسم لنا الشاعر جرار صورة المعتقل البدهية، وأظهر صراع المعتقلين مع جلاديهم، ومعاناتهم، رسمها برؤية ابنه المحكوم بالمؤبدات، ولكن بريشة الشاعر:
أيظل بالقيد اللعين مكبلا ...... ... ويسام كل مريرة ويكدر
أيظل يجتر الأذى متجلببا......   برداء خوف من عدو يفجر
أسر وذل ليس من شيم الألى ...... باعوا النفوس لربهم وتخيروا   (ص81)
هي صورة القهر، التي ولدت في رحمها الصراع، وديمومته، فهي من جانب تشي بالمعاناة، ومن جانب آخر يطل علينا الصراع.
فهم الأسود وإن غدو في قيدهم..... فالأسد تعلن سخطها وتحذر
أفيقدر السجان نزع عزيمة ....... من قلب أسرانا وأسد تزأر        (ص82)
والسجان يخشى غضبة الأسد المعتقل:
يخشون غضبته إذا ما قعقعت...... منه القيود وثار فيه الغضب    (ص8)
وتكاد هذه الصورة بأشكالها تذرع الديوان كله، فرغم القهر والألم، هناك تجلد وصبر، وصراع... بين مُطالب بحق يدافع عنه، وسارق لهذا الحق... ويتسلح المعتقلون بكل ما استطاعوا من أسلحة، حتى وظفوا الإضراب عن الطعام، وخاضوا معارك الأمعاء الخاوية، فإما نصر أو شهادة، وهو المعيار الأساس في خوضنا لحروب الحق، خاضوها جماعة ومنفردين كما اقتضى الحال:
زأروا بصوت صيامهم كي يفطروا ....... إما على نصر عزيز يمهر
أو أن تكون الروح في دار الرضى ..... عند الرحيم بنوره تمتطر       (ص83)
وهنا لا بد أن يعرج الشاعر على نضال ابنه المعتقل " إسلام " ويفخر به، ويعتز بشجاعته، وتظهر عاطفة الوالد الشاعر، يخالطها الدمع:
أما فتى الفتيان إسلام الرضى....... فبعزمه الجبار إنا نفخر
فعسى الإله يتم فرحتنا به ........... فنراه في ساحاتنا يتبختر         (ص83)
وصور الشاعر محاكمة لولده إسلام، احتج فيها القاضي الصهيوني على اسم المعتقل (إسلام) لكرهه لعقيدة الإسلام، ولما يوحيه الاسم من دلالات الجهاد في سبيل الله، واتهم القاضي (إسلاماً) بأنه يرفض الاحتلال، ويريد كنسه عن الأرض، ويتهمه أنه يقاتل لبناء وطن، ويبيح لنفسه محاربة الأعداء، ولنتأمل إجابة المناضل المعتقل للقاضي المجرم:
أيها القاضي الذي غطى الحقيقة... إن ديني رحمة للعالمين... وفلسطين ديار المسلمين... وأنا فيها غراس المرسلين... أرفض الظلم وحب المعتدين...وأحب السلم يعطينا الحقوق... يرجع الأهل إلى أرض الجدود... وإلى الأقصى يعيد العابدين... يرفعون العلم الخفاق للحق المبين... ويعود العهد عهد الراشدين... وبهذا سيتم السلم بين العالمين... 
إنها أرض الإسلام والمسلمين، فلسطين مهد الديانات، ونحن خلف العابدين فيها، نرفض الظلم، نرفض سلبنا حقوقنا، نرفض تهجيرنا، نقاتل من أجل السلام، ودفع الظلم عن المظلومين... الأقصى أقصانا، والقدس لعابدي الله، وليست للمجرمين.
إنها عناوين نضال شعبنا، والمنطلقات الأساسية التي يحارب من أجلها، وهنا يأتي قرار القاضي وحكمه:
أيها الجند، إلى السجن خذوه!
كل ما شئنا فإنا فاعلوه!
نحن صناع قرار!
أفهموه!           (ص25- ص 26)
إنها سادية المحتل وغطرسته، وتلذذه في تعذيب أبناء شعبنا، تعذيباً جسدياً ومعنوياً.
وتتشعب المعاناة، وتتمدد في حنايا المعتقل:
هو ذا يئن لفقد حرية..............   منذورة للكرّ والجَولَان
هو في عذاب قيوده وحنينه....... من ذا يعيد لنا الأسير العاني
من ذا يعيد إلى إسلام الفدا...... من ذا يخلصه من الطغيان؟         (ص40)
وتعيش الأسرة المعاناة، ففي طقوسها كلها لا ترى إلا ابنها المعتقل (البعيد جسديا، القريب روحياً): وتركت يا إسلام شيخاً ثم أمّاً في حزن
أكذا حرمنا من شبابك وهو حصن في المحن ؟                       (ص13)
ويتحطم الفرح في قلب الوالدين: 
وتمر يا ولدي السنون ..... وزادنا أبدا أنين
ها كل ثانية تمر ....... كأنها ريب المنون
فالغمّ يمتلك الفؤاد... ويملك الفكر الشجون 
كيف السرور... وغاب عن عيني ريحان السنين؟                  ( ص20)
وفي قصيدة زيارة أسير (ص)44 تتجلى معاناة الشاعر ابتداءً من ليلة السفر إلى المعتقل، وفي السفر والانتظار هناك حتى تحين الزيارة:
من فجر يومي أستعد لسفرة ....... مشحونة بالهمّ ذات كؤود
بل إن ليلتها أكون مسهداً...... متوجساً من صبحها المعهود
وفي المعبر، حيث ينتظر الزوار التفتيش والإهانة:
هيا انظرونا في المعابر خشعاً... وفتاتهم زأرت زئير أسود
انظر بغاث الأرض فينا استنسرت... فتخطفتنا عبر كل حدود
ويكون التفتيش المذل، ولنتأمل صورة الذل عندما يجبر العربي الفلسطيني على نزع عقاله للتفتيش، إنها مهانة  وأي مهانة:
هيّا انزعوا عنكم عقال رجولة........ بل وانزعوا خمراً وستر جلود
حتى يبين لنا الخبيء وما حوت..... هذي الجسوم من الأذى المعهود
ويطول الانتظار: نقضي النهار بطوله ويعمنا... ليل يغشينا بثوب همود
ويكون اللقاء، وبيننا وبين إسلام حاجز زجاجي، ونظهر فرحاً بدل الحزن حتى يستبشر إسلام:
نلقى الأسير وقد ضوت أجسامنا.......... من طول سفرتنا وصعب قيود
نبدي له فرح اللقاء وبهجة............... حتى ولو كنا وراء سدود
ومن خلف الزجاج نراه، ونعانقه بالعيون:
تلك الحواجز من زجاج شاهد............ كيف العيون عناقها لأسود            (ص46)
تلك هي التراجيديا حالكة السواد، يصورها شاعرنا في مشاهد بعنوان " زيارة أسير في سجون الاحتلال الصهيوني... ص 45، 46، 47... يُفصّل الرحلة برؤية الشاعر على المشاهد فينقلك معه في رحلته، ويصل بك تذويت الفكرة إلى تقمص شخصية الشاعر، وتجرّع مرارة الرحلة... وبذا تظهر إمكانات شاعرنا الشعرية، فالشعرية عنده هي مكون التجربة، وتعليقها بحروف وألفاظ دالّة، ومن ثم تتخلق الثنائيات وتتراوح بين النفي والصمود، والنضال والاعتقال، وفرح اللقاء الجزئي المشوب بحزن البعد والفراق... ولعل ثنائية اللقاء الحقيقي والخروج من الزنزانة إلى العالم الحقيقي، هي التي تتناقض وديمومة العذاب والاعتقال... 
يتساءل الشاعر بحزن ومرارة:
 أتعود يا إسلام تروي سمعنا........... بندى الحديث وطرفة الشبان
أتعود تمسح بالحنان جراحنا.......... أتعود تبصر بدرك العينان      (ص41)
هل تعود؟ وتفرح الحياة بعودتك، وتملأ الدنيا فرحا وسعادة؟ ننتظرك يا إسلام:
أنا في انتظارك فلتعد بدرا ينير لي الطريق
أنا في انتظارك فلتكن حبل النجاة لذا الغريق                       (ص43)
وإن لم يتحقق الواقع، يرى الشاعر الوالد ابنه في حلمه:
إني رأيتك يا إسلام في حلمي......... حراً طليقاً، فما أحلاه من حلم
فهل يحقق ربي حلمنا فنرى......... عينا تقر بجمع الشمل في حرمي       (ص56)
ويتأكد الشاعر من تحقيق الحلم بمشيئة الله:
غداً سيجمعنا ربي بمنزلنا ....... ويرجع الطير يشدو وهو محبور
غداً سيرجع إسلام فيوردنا ........ نهر السعادة والأنغام تكبير            (ص72)
ولعل في جملة ( يجمعنا)، معاني اجتماع الأسرة الجسدي والروحي، واجتماع الأسرة هو بديل النقص فيها بسجن أحد أفرادها، وفي ظرف الزمان (غداً) معاني الأمل وتحقق الحلم:
يا حبذا الأيام تجمع بين حبات القلوب
يا حبذا العيش النضير كأنه الغصن الرطيب
فالوُلد حولي يعزفون لروحي اللحن الحبيب 
رأيت نسرين القلوب تبذ أزهار الربيع
والفكر مأسور بإسلام..... وإسلامي منيع                         (ص12)     
وتجتمع العائلة في حبور وسرور:
أنتم يبنيّ ربيع العمر مزدهرا... لكنني بقضاء الله محدود
نسرين قلبي، وإسلام النهى بصري..... وذا محمدنا، في عمرنا عيد
إن أنسَ لا أنسَ أحفاداً لنا نجباً....... أحيوا خريفا!! فهم للعمر تجديد     (ص)29
لقد استطاع شاعرنا بما امتلك من أدوات اللغة والفكر، وعمق التجربة، والعواطف الجياشة، والإحساس بالمرارة، استطاع أن يجمع بين أدب الأسْر، وأدب الأسْرَة، من خلال قيد الزنزانة، وظل الأسرة الوارف... فها هو أنشد لابنته نسرين، ولأولاده، وأحفاده، لكن بدا ذلك كله برعاية الغائب عن العين الحاضر في القلب " إسلام ".
السؤال الذي يلح: 
ما الأدوات التي وظفها الشاعر لتحقيق مضامين نصوصه ومعانيها؟ 
الجذر الذي امتد، وتفرع  ضارباً يذرع أرضية النصوص كلها، هو الجذر الإسلامي، تكاد تحس هذا التوجه في مضامين النصوص، وتزين المفاهيم الإسلامية بما تحتوي من الإيمان الحق بالله، والتوكل عليه، وبما يتفرع من ذلك، من مفاهيم الجهاد في سبيل الله، والشهادة، تزين نتاج الشاعر بأكمله، وقد ساعد في ذلك  التحدث عن نضال الأسير " إسلام" والتضحيات التي يقدمها، ولنتأمل هذه المقاطع التي اتكأت على العقيدة، بل شكلت تناصّاً دينياً:
أنتم يا من حملتم راية .............. في سبيل الله، والقوم نيام
أنتم الصفوة من أمتنا ................ أنتم الأقمار والدنيا ظلام
إن ما أنتم به من كربة.............. هو باب الأمن في يوم الحساب
يوم يغشى الناس كرب هائل ........... وتلوذون بأكناف رحاب
فعسى أن تكرهوا أمراً، به........... كل خير ومع المكروه يُسْرُ
كتب الله لكم رضوانه ............. فهنيئا إن عفو الله خير                 (ص34)
ومن هذا المنطلق العقدي الإيماني الشعري، عادة ما يختتم الشاعر معمارية نصه بالدعاء إلى الله، والتوسل إليه، أن يفرج عن ولده، وباقي الأسرى، ويعيد الوطن لأهله:
إنا لندعو الله حسن خلاصهم........ من أسرهم فهو القدير الأوحد            (ص49)
سبحانك اللهم أنت ولينا............. فانصر مجاهدنا وكل طريد                (ص47)
عساك يا عيد تأتينا، وقد كشفت.......... هذي الكروب، وفي الأقصى لنا عيد  (ص31)
رباه يا رحمن إنا عند بابك في رجاء
رباه قد ضعف القوي، وشأننا أبدا بكاء
رباه فارحم ضعفنا بسراح إسلام الهناء                (ص14)
وقد استلهم شاعرنا القصص القرآني في بناء حكايته الشعرية، تلك القصص التي تجلي المعنى وتعززه، وتعيد إنتاجه في سياق حداثيّ، يلائم الأسر والقيد:
وعدو الله لن ينجو من .............. قبضة الجبار فالأمر إليه
أنجا فرعون من قبضته؟ ........ أم طواه البحر مغضوباً عليه؟          (ص34)
تلك هي قصة عذاب فرعون لما طغى، لخصها شاعرنا ليذكر الطغاة بوعيد الله لهم وعذابه... وها هو يأتي بحزن النبي الصابر يعقوب وبثّه، ليعبر عن حنينه وأنينه لولده إسلام القابع في الأسر: 
والآه بعد الآه في أحشائنا.......... نذر الفناء فهل لنا من يغضب
يعقوب فاض حنينه وأنينه........... والحزن يسكن في حشاه ويغلب
وابيضت العينان من فرط الأسى......... أو بعد الأسر همّ يتعب             (ص9)
وتتشكل صورة حزينة أخرى لقصة يعقوب وحزنه نتيجة فراق ابنه يوسف عليهما السلام:  
يعقوب جنّ جنونه بحبيبه ......... وابيضّ منه الطرف من أحزان
فهل الحبيب يعود عودة يوسف...... فأرى الضياء بثوبه الريحان             (ص37)
ويتنوع التناصّ، وقد يتحول إلى تناصّ أدبي، أتى ذلك في سياق جمع الأسرة ولمّها، وقد عاد الأسير إلى حضنها، ولنتأمل كيف استعار الشاعر بيت ابن قيس الرقيات ( حبذا العيش حين قومي جميع):
يا حبذا الأيام تجمع بين حبّات القلوب
يا حبذا العيش النضير كأنه الغصن الرطيب           (ص11)
ويتكىء على بيت المتنبي: (عيد بأية حال عدت يا عيد) فيقول وقد حل العيد بغياب فلذة الكبد:
عيد بأية حال عدت يا عيد............ بما مضى أم بأمر فيه تجديد؟
يا عيد، يا عيد، ها قد عدت مضطرباً.... فقد حللت وما في الروض تغريد        (ص27)
ويأخذ " إن البغاث بأرضنا يستنسر " للتدليل على ضعف الأمة ومهانتها، وصلف عدوها، أتت تلك خاطرة في ذهن الشاعر وهو يصطف في طابور الذل والمهانة لزيارة ابنه في المعتقل: 
انظر بغاث الأرض فينا استنسرت ......... فتخطفتنا عبر كل حدود
ها نحن مصطفون قيد أوامر............ تلقى علينا من لدن نمرود           (ص45)
إن من الظواهر الأسلوبية التي تذرع فضاء النصوص، هي التكرار، وقد وظف الشاعر هذه التقنية أيما توظيف، خدمة للمبنى والمعنى، ولا شك أن مهمة التكرار عند الشاعر قد تعدت مسألة التوكيد، وانزاحت لتأدية معانٍ جديدة. فالتكرار يأتي بصور الماضي، ويجعل في ترديده نشيداً وأغنية ولحناً، وعندها يكبر الحنين، ويتعاظم أثره:
أيام كانت لنا الآمال ضاحكة .......... ونسأل الله أن نجني زواكيها
أيام كانت رياض الوُلد ناضرة ........ تسقى الغيوث وعين الله تحميها
أيام كان لنا طفل نداعبه ............ فتنتشي الروح إذ كانوا أمانيها            (ص65)
وهنا يفتح التكرارا بوابة واسعة على حدّية المقارنة، بين زمان مضى، وواقع نعيشه، فقد اعتقل إسلام، وهو في المعتقل يقضي مؤبداته، ونحن نقضي حزننا وألمنا، لقد هيأ التكرار جوقة تنشد الإنشاد الحزين، إنشاداً يستدعي الدموع، والتكرار ولنتأمل حدّية المقارنة:
حتى تبدل ما كنا نؤمله ..................... يا ويح أيامنا هبت سوافيها
وكان ما كان من غمّ ومن كدر...... هل تسمَعَنْ في رياض الدار شاديها
قد غيب البلبل الصداح عن فنن ........... فهل تراه على الأفنان حاديها       (ص67)
وفي نبرة الحزن نفسها (ص53) وفي سياق عودة المعتقل، التي تنتظرها الأسرة بلهفة:
أيعود هذا البيت يجمع شملنا ........... أيعود روضي ناضر الأوراق؟
أيعود ذا المشتاق يلثم أرضه .............. ويقول فيها قولة المشتاق؟
لاحظ كيف تستدعي صورة الفرح، الروض الحسن، بأزهاره وبلابله وأطياره... وصورة الحزن وقد أتت الرياح المحملة بالغبار ودمرت هذه الرياض، وحيث هجرت الطيور أشجارها... وفي تتابع الصور نفسها، حيث الرياض، والأزاهير... وقد دمرت:
أنا ما ولدتك يا بني لكي تعذب في السجون 
أنا ما ولدتك يا بني لكي تزيد لي الشجون
أنا ما غرست الورد في الأحشاء كي أجنيه شوكا 
أنا حببت العيش في البستان كي أحياه ضنكا                    (ص 42)
أنا (ضمير المتكلم) يقص عن حالين بصيغة التقرير، ويرسم الروض وقد امتلئ شوكا َ بدلا من الأزاهير ونلاحظ التناص الديني في (أحياه ضنكا ً)، ونرى صورة أخرى لعودة المعتقل إلى أسرته كعودة البلبل إلى روضه، وكأن الشاعر اتكئ على معاني البساتين والرياض واشتقاقاتها ليعبر عن الفرح، ويملؤها شوكا ً وحزنا ً عندما يشعر بالفقد والفراق وعدم العودة. وهنا يمتزج التكرار بالتساؤل، ولعل التساؤل أيضا ً من التقنيات الأسلوبية التي وظفها الشاعر فهي تدعو إلى الشك تارة ً والحيرة تارة ً أخرى، كما تمثل الدهشة في تعزيز الانفعال الوجداني، يقول الشاعر :
أتعود يا إسلام، تأسو أيام الفراق ؟
أتعود، يا إسلام، تمنحنا الرعاية والعناق؟
أتعود للروض المشوق وغرسه يوم التلاقي                (ص13)
ثم يذهب في تكرار دعائه، يتوسل الله أن يرحم شيبته وضعفه:
رباه، يا رحمن، إنا عند بابك في رجاء
رباه، قد ضعف القوي وشأننا أبدا بكاء
رباه، فارحم ضعفنا بسراح إسلام الهناء                (ص14)
لعل معمارية النص، نص الأسر والقيد والمعاناة ، نص الانتظار والحنين وتمني اللقاء، هذا النص يتطلب تقنية التكرار، كما يتطلب تقنية السؤال ، السؤال الذي يستفز المتلقي ويحرضه على التفكير:
أتظل آساد الشرى في أسرها            ويسود فينا أرنب وثعالب       (ص7)
فالسؤال فتح آفاق الفضول والاستفزاز لدى المتلقي بالمقارنة الضدية بين الأسد والأرنب، ولعل التساؤل يكشف عن ألم الشاعر وحزنه وأنينه بل وخوفه وقلقه، فهو الذي يوظف علامات السؤال كلها للكشف عن مرامي بوحه: 
من ذا يعيد إلي ريحان الطفولة في شذاها 
من ذا يعيد شوارد الأنغام يثملني صداها 
من ذا يرد ّ إلي أحلام الفتوة في قواها؟             ( ص)11
جاءت هذه الأبيات في نصٍ بعنوان (ماضٍ جميل وحاضر أليم)، ويكشف فيه الشاعر عن ثنائيات ضديّة بين رياحين الطفولة وأشواك الحاضر.
ولا يفوتني القول أنه لا تكاد ُ تخلو صفحة من صفحات الديوان من تكرارٍ أو تساؤل، وكأن في ذلك امتلاك الشاعر لوسيلةٍ نفسية ٍ دفاعية ٍ، تبرز الحقيقة وتخلق الحيرة والدهشة عند المتلقي.
كما أن للتكرار إمكانات ٍ تعبيرية، تتضمن إيقاعات ٍ موسيقية ٍ يمكن أن تلحن، وتكون أغنية ً ذات تأثير ٍنفسي لافت، موضحة ً المعنى بشكل ٍ جلي ّ:
وتمر ّ يا ولدي السنون وزادنا أبدا ً أنين
ها كل ثانيةٍ تمر كأنها ريب المنون  
هذه مقدمة لحنية شجيّة تستمطر الدموع، ويتبعها تكرار التساؤل:
كيف السرور وغاب عن عيني ّريحان السنين؟ 
كيف السرور ووجه إسلام ٍ تغيبه السجون؟
كيف السرور وغاب عنا الروض والماء المعين؟  
كيف السرور وذا الشباب يغيب عن هذا العرين؟ 
كيف السرور ولم تمتعنا بهذا العمر الثمين؟ 
ومن بدهيات القول أن الشاعر يلتقط ألفاظه البسيطة، التي لا يُحتاج إلى قاموس ٍ لفهم معناها وكأنه في هذا الديوان يريد أن يوجه معانيه بأبسط الصور وأكثرها تأثيرا ً إلى عامة الناس، فهو يتجول في روضه، فينتقي البلبل والفنن والعبير، ثم ينتقي عناصر دمار هذا الروض في الحال الحزين، وفي الوقت ذاته فهو يتسلح بالأفكار الإسلامية، ويجد ّ ويجتهد في إبرازها، تلك الألفاظ التي تلائم الأسر، كالجهاد في سبيل الله، وتحرير الأقصى، والتضحية لتحرير فلسطين.
أتمنى أن أكون قد سلطت بعض الضوء على عمل من أعمال شاعرنا "صالح جرار" وهو الذي أنتج أكثر من ثلاثين عملاً، وآمل أن أكون قد أبرزت بعض المحطات الأسلوبية في نصوصه، تلك المحطات التي لفتت انتباهي، وظننت ُ أنها تستحق الدراسة، في الوقت ذاته أقرّ أن إنتاج الشاعر يستحق دراسات ٍ جدّية أكثر، ويستحق الوقوف على عناصر بناء نصوصه من حيث: الألفاظ و المعاني، والدلالات، والموسيقا، والعواطف، والصور الشعرية، والعلاقات بين هذه العناصر جميعها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق