زُمّار هي تلك المدينة الحالمة الهائمة العاشِقة التي تسكننا ولا نسكنها ، زُمّار التي تُغري عُشاقها بإكسير الخُلود المُفعَم بطعم الهيام والسحر الأزلي فهي تعمل بأهلها على حسب القاعدة الصُوفيَّة :
أنا مَنْ أهوى .... ومَنْ أهوى أنا
نحنُ رُوحينِ حللنا بَدنا
لو أبصرته أبصرتني ... ولو أبصرتني أبصرتنا
زُمّار تلك الغَصة التي تتحشرجُ في الصدور والعَبرة التي تقرؤنها على السُطور والدمعة التي تترقق في المآقي كلما لسعتنا سياط الحنين ولاح طائرُ شوقها يا لهفي لموارد دجلتها وأنيني لتلك الصخور التي نستظل بها حتى تكاد بزهور فرحها تُشْرِقُ بنا بنفحاتها المِسكِيَّة ، زُمّار التي أبرمت مع القَدر أنها لِغيرِ أهلها ونبضات أفئدتهم وخلجات صدورهم لا يفوح ولا يعبقُ شذاها ...
عَاشِقٌ أنا لسحرِ عينيكْ ومُتَيمٌ ... ألهمني غَرامك كيفَ أشتاقُ وأبكي ... أكابدُ مرارة الفَقدْ على طولِ المتى ... أدركُ جيداً معنى الإنتظار ومرارة الصبر ... يَحدوني الأمل أن أتَنَسمُ عبيرَ شذاكِ وعِطَر أنفاسكُ لأرتَشِفُ شَهدَ رِضابك وأتذوق عُذوبة عِناقك بَعد أن أضناني الهَجر ...عائدٌ أنا يا زُمّارُ فأعلمي أن حُبي لك هو دِرعُكِ وعُكازُك لئلا ينحني ظهرك إذا ما عصفت بكِ ريحُ المنون ... حبي لكِ أمانٌ من عيونِ الحاسدين وغَدرِ الطامعين إذا ما تعالى العواء في عتمة الليالي ودياجيرها ...أما آن الأوان لتُكفكفي أدمعي فأمسحُ دموع عينيكِ ... أما آن الأوان أن تَربتي بيديك الحانية على ظهري وأطبطب بيديَّ على ظهرك ... أما آن الأوان أن تُطهريني بنثيثْ دمعك ... لأقَبِّلُ ثراكِ وثَغرُك لنعيش معاً ونشيب معاً رغم علمي أنك لن تشيخي كما العهدُ بك يا زُمّار .
في منتصف خمسينات القرن العشرين إنخرط والدي في سِلك الشُرطَة العراقية وبما أن والدي يجيد القراءة والكتابة بحكم تعلمه على أيدي الكتاتيب والملالي تدرج في المناصب ليترقى ويشغِلُ منصبَ (رأس عرفاء) مديرية شرطة نفط الشِمال ومقرها مُحافظةُ كركوك في - مدينة عرفة ليَستقر بنا الحال في مدينة (كركوك / العرصة ) ... المخاض الجديد هذا حَتّمَ على والدي مغادرة الأهل والديار في قَرية المَكوك جنوب الموصل وشَد الرِحل صوب كركوك بقلوبٍ تهفو شوقاً وتنبض حنيناً متجذراً بالأرض والوطن فكما قيل " الديرة والدة" لعل هذا الموقف يُذكرنا بموقف رسول الله "صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم" حينما وقف على مشارف مكة وهو يغادرها مناجياً إياها بقوله :
" والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله عز وجل، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت" هذا هو الدرس الأساس عن المحبة للأوطان والإعتزاز بها والحنين إليها وأمل العودةِ إليها بعزِ عزيزٍ أو بذُلِ ذليل ....
تتابعت الأيام حتى كان يوم الأربعاء المصادف الثاني من تموز 1966م الموافق 14 ربيع الأول عام 1386هـ حيث يوم ولادتي على يد القابلة (أم عبّاس ) الفلسطينية "رحمها الله" ولطالما سألت أمي وأبي عن دقة هذا التأريخ خاصةً وأن أغلب الشعب العراقي يوم ولادته يقرأ 1/7 فأتاني الرد أن التأريخ دقيق جداً باليوم والساعة لأن منتسب الشرطة بمجرد نشر إبنه المولود الجديد يتم تعديل راتبه ونشر علاوة خاصة بالطفل الجديد .....
ومع منتصف الستينات من القرن العشرين وتحديداً نهاية عام 1966م وبداية عام 1967م صدر أمر نقل الوالد إلى "حقول نفط عين " التابعة إدارياً إلى ناحية زُمْار ، والذي يجعلني متيقن من هذا التأريخ أن دفتر النفوس لعام 1957م بمثابة (هوية الأحوال الشخصية) الخاص بي وفي فقرة تأريخ ومسقط الرأس يقرأ لواء الموصل ناحية زُمَّاْر 2/7/1966م الأمر الذي يُفسر إنشغال الوالد بحيث دَّوَنَ مسقط الرأس في زُمَّار وليس كركوك وذات يومٍ عاتبته بعد أن خُصِصَت لي قطعة أرض في زُمَّار (الجديدة) كوني أحد ضُبَّاط الجيش العِراقِي ، لكنّي لم أصلها أو أراها على الأرض ورفضتها كون قيمتها المادية لا تساوي متراً واحداً من الأراضي في الموصل ، هنا عاتبت والدي الذي بان الإنزعاج على محياه واضحاً حتى إحمرت عيناه واتسعت حدقاته وهو يزجرني غاضباً بنص قوله الذي لن أنساه ما حييت :
هَيْ إبن الكلاب (حاشاكم) شنو فرق زُمَّار عن الموصل أو كركوك بل وحتى بغداد
مو ﮔــضينا أعمارنا ندافع عن العراق الواحد من الشمال للجنوب ومن الشرق للغرب
ﮔــوم أنعل أبوك لآبو قطعة الأرض اللي تخليك تفرط بشبر من زُمّار اللي عشت عليها وشربت من مايها (ماؤها) وكملت دراستك وكليتك بيها .....أيباااااااه عبالي برأسك خير و ﭽـنت أزامط بيك بس مع الأسف ....؟؟؟!!!
كلماته كان لها وقعٌ مثل لسع السياط على جلدي بعد أن يسكب عليه الماء في شتاء زُمَّار القارص .... كلماته أبكتني فعدتُ أُقبل رأسه ويديه ورجليه معتذراً آآآآه "رحم الله الوالد وأسكنه فسيح جناته" ...
مِنْ مَهام شُرطة النفط حمايةُ حقول النِفط وتأمين حماية خطوط وأنابيب نقل النفط عِلماً أنهُ تم بعد الحرب العالمية الثانية مد أنابيب تصدير جديدة لترفع طاقة التصدير لحقول شمال العراق تدريجياً من 80 ألف برميل باليوم في عام 1935 إلى 1.4 مليون برميل باليوم في نهاية العقد السابع من القرن الماضي ندرجها بإختصار شديد أدناه :
أ . خط كركوك – حيفا بقطر 16 عقدة الذي كان في مراحل إنشائه الأخيرة في عام 1948 والذي توقف العمل به ليترك دون أن يدشن بسبب الحرب في فلسطين ويبلغ طول خط أنابيب كركوك – حيفا 992 كيلومتر .
ب . خط كركوك – طرابلس بقطر 16 عقدة في عام 1949 ويبلغ طول خط أنابيب كركوك – طرابلس 928 كيلومتر
ج . خط كركوك – بانياس بقطر 32 عقدة وطول 888 كيلومتر في عام 1952
د . خط كركوك – طرابلس بقطر 32 عقدة في عام 1965
ه . الخط الإستراتيجي للضخ باتجاهين بين محطة ضخ (كي 3) قرب مدينة حديثة على الفرات وحقول البصرة بقطر 42 عقدة وطول 730 كيلومتر في عام 1975
و . الخط العراقي التركي الأول كركوك – ميناء جيهان بقطر 40 عقدة وطول 1005 كيلومتر في عام 1977
ز . الخط العراقي التركي الثاني كركوك – ميناء جيهان بقطر 46 عقدة في عام 1987
بعد أن إستعرضنا خطوط نقل النفط العراقي التي أوردها الأستاذ (غانم العنّاز) في بحثه (النفط وإكتشافه في العراق) بقي لنا أن نعرف أن خطوط النفط المتجهة إلى ميناء جيهان في تركيا أو خطوط النفط المتجهة إلى حيفا تمر عبر تلعفر ، تَجدُرُ الإشارةُ هنا إلى وجود أنابيب تنقل الماء العذب من نهر دجلة في الموصل إلى حيفا تم إنشاؤها ومدها بموازاة خطوط نقل النفط ؛ وقد شَغل والدي " أبو رِياض" يرحمه الله تعالى (مُحَمَّد حمُود عَبْدَالله السَبعَاوي منصب مأمور مركز زُمّار ورأس عُرفاء مركز ثم مُديرية شُرطة نفط عين زالة) ونشير هنا إلى أنَّ من صميم واجبات شُرطة نفط عين زالة حماية الآبار والمنازل أي حماية مجمع شركة عين زالة السكني وتأمين حماية الآبار من خلال الربايا أو المراباة التي تنتشر في المرتفعات القريبة من المنشآت الحيوية وعلى سبيل المثال وليس الحصر :
(الربية المكلفة بحماية البئر النفطي رقم 28 المقابل لعين زالة ، الربيّة القريبة من التانكيات (خزانات) مقابل باب الجهتين باتجاه الغرب ، ربية حماية (الدكازن) محطة عزل الغاز ، ربيّة زمار التي تقع في أعلى مرتفع في مدخل زُمّار من جهة الغرب لتأمين حماية " البمب ستيشن" محطة ضخ الماء...) تَجدر الإشارة هنا إلى أنَّ اللواء المؤازر المكلف بحماية شركة نفط عين زالة هو لواء الحدود الثاني عشر وآمره ضياء خضر الـﮔداوي أما مديرو شركة نفط عين زالة فقد تعاقب على إدارتها الكثير من الرجال نذكر منهم الأستاذ حسين علي صادق التكريتي وصولاً إلى عمنا الأخ الكبير والصديق الصدوق إبن زُمَّار الأستاذ صلاح محمد حبش الجبوري "يرحمهم الله تعالى" ....
وهكذا كان القرار الصَارِم لوالدي بإنتقال العائِلة مِن كركوك إلى زُمَّار وخلال رحلة سَفَرِنا الشَّآقة التي غيرت مَسار حياتِنا كانت قلوبنا تهفو إرتقاءاً ثُم تهبِط نزولاً مع تَضارِيس الطريق ، ومع إقترابنا من الوصول إلى أطراف زُمّار غَيَّر السائق إتجاه السيارة من الشمال إلى الشرق بإتجاه مجمع الصمود الذي بُنيَ لاحقاً ثم غَيَّر الإتجاه ثانية صوب الشمال لتأتينا المرتفعات والوديان لاسيما (وادي عَميق) كأن قوبنا تُوشِك أن تَفِرَّ من صدورنا وهي تتناغم صعوداً ثم هبوطاً مع إرتفاع وإنخفاض الطريق المتعرج الوحيد المؤدي إلى زُمّار ومع آخر مرتفع يُطِلُّ على المدينة يُبْصر الوافِدُ لزُمَّار وكأنها حُفرةٌ تنخفض عن كل المرتفعات والتلال المحيطة بها ... نعم إنها زُمَّار المدينة المستطيلة التي تغفو على ضفاف دجلة مداعبةً ضفاف النهر الخالد ولهذا السبب أطلق عليها تسمية " ضويج" وقيل في سِر تَسميتها أن الوافد الغريب إليها تختنق وتُكْتَمُ أنفاسه لرؤيتها ويضيق صدره للوهلة الأولى قبل أن يسكنه هواها وتأسر قلبه وتسلبُ لبه ...
رباه إنها زُمّار التي يحدها من أدناها إلى أقصاها الشارع القبلي "شارع القبلة أو الجِبلة" الذي يبلغ طوله (800م) لتتنظم المدينة شمال هذا الشارع ، وبموازاته يشطرها من منتصفها شارع السوق الذي يبدأ من بيت صديقي (أحمد إلياس ) ويمتدُ موازياً لشارع القبلة حيثُ بداية سُوق زُمّار حتى يصل إلى القشلاغ أو القشلة (مركز الشرطة الذي بناه العثمانيون) ليستدير الشارع صوب الجنوب ويلتقي مع الشارع القبلي ثم ينعطف هذا الإلتقاء صوب الشرق بإتجاه قرية سلال وهكذا يستمر البناء شمال شارع السوق وصولاً إلى أكتاف نهر دجلة علماً أن عرض مساحة بناء المدينة لا يتجاوز طول ملعبين لكرة القدم أو أكثر بقليل وينتهي البناء مع الجسر الذي يعتبر الحد الفاصل بين زُمّار وقَريَة سلال وآخر البيوت التي تواجه الشرق صوب جهة سلال هي بيوت السادة آل الشيخ عيسى مثل بيت العم أحمد السيد علي السلامي والد كل من محمود وعلي وعمر وعبد الستار وعبد الرحمن وما جاورهم من بيوتٍ كريمة.....
تسكُن زُمّار القَديمة عشائر (الجاموس ، الحمد شويخ ، الحسون ، القُضاة ، العميرة ، العجل ، والواوي ، الإنجاد) من قبيلة الجبور ، عشيرة الشرابيين التي تعتبر قرية الجزورنية مركز ثقلهم ، عشيرة السادة آل الشيخ عيسى (البو سلامة) والسادة المعامرة ، وعِشرون عائِلة من بيوتات السادة السبعاويين الحُسينيين ، عشائر من قبيلة طيء (الراشد ، سنبس ، سنان) وعوائلٌ من العشائِر التالية : (الجحيش ، آل بو شعبان ، العَدوان ، ربيعة) وثلاث وخمسون عائلة من أهلنا المسيح والكِلدان والأرمن ، وسبعةٌ من العوائل اليهودية وبيوتات لأهلنا الأكراد والتركمان وستة بيوتات لأهلنا الجرجرية عِلماً أننا أوردنا ذِكر جميع العوائل الزُمَّارية في أصل كتابنا (زُمَّار إبحارٌ ضِدَّ التَيّار) بالتفصيل خاصةً وأن الجميع كانوا جزءٌ لا يتجزأ من النسيج الإجتماعي الزُمّاري ... للحديث تتمة
بِقَلَم إبنُ زُمَّار : د. زِيَاد مُحَمَّد حمُود السَبْعَاوِيْ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق