يقدم الروائيّ المصري باسم جبرة في رواية "أحمس" الجزء الأوّل المعنون بـ "الوباء" رؤيته من خلال شخصيات واقعيّة وتاريخيّة، تفضي إلى موازنة بين عالمين محتلفين زمنيّا ومكانيّا لكنهما متشابهان تماما، وكأنّ التّاريخ هو هو. "إنّ الشّيء الوحيد الّذي نتعلّمه من التّاريخ هو أنّنا لا نتعلّم شيئاً" (جورج برنارد شو) والإنسان هو هو في كلّ زمان ومكان. وإن اختلفت الثّقافات فالغرائز واحدة والنّزعات واحدة والطّموحات واحدة، والتّجربة الإنسانيّة واحدة. وقد تتشابه بقوّة حدّ التّناقض. ولعلّ رواية "أحمس" بجزئها الأوّل "الوباء" تؤكّد مسار الزّمن الواحد والتّاريخ الواحد بالمفهوم العميق للتّاريخ الّذي يبدو ظاهريّاً متفرّعاً ومتشعّباً، إلّا أنّه في جوهره يبدأ حيث ينتهي، وتتوالى مساراته لتشكّل أحداثه المتكرّرة. يمثّل العنوان الأوّل "أحمس" التّاريخ القديم الّذي يسير تارةً بالتّوازي مع التّاريخ الحديث أو المعاصر "الوباء"، العنوان الثّاني، وطوراً يتداخل التّاريخان. فيستدعي الكاتب الماضي ويمزجه بالواقع ويترجم بصدق ما عبّر عنه في مقدّمة العمل: "في ذاك المدعو تأريخاَ، تتوالى الأحداث متشابهة، حتّى تبدو تكراراً (مونوتون) رتيباً، ولِلحَيظة تشعر وكأنّ ما تغيّر سوى بعض الشّخوص والأماكن وربّما الأزياء والفنون، أو عين الرّائي هي ما يتلوّن!"
إخوة ثلاثة، عالم فايروسات "ألبرت"، قابع في قبوه لم يبارحه ليحاول برأيه إنقاذ العالم، مع العلم أنّه متّهم باختراع فايروس كورونا، و"مارك" صاحب الاستثمارات الكبرى في الإعلام والاتّصالات، ويبدو في الرّواية مسيطراً على عقول النّاس وأفكارهم من خلال تطوّر وسائل الاتّصالات، و"أنطون" راهب في أحد الأديرة ومنقطع عن أخويه لفترة طويلة. لا يبدو الإخوة على وفاق تام، فيتّهمون بعضهم البعض في التّسبّب إمّا في إفناء البشر، أو تقييد الأفكار والعقول من خلال التّطوّر الإلكترونيّ، أو تخدير العقول والنّفوس من خلال العظات والطّقوس. وأمّا الخلاف فيشتدّ بقوّة عندما يقدم "مارك" على سرقة صديقة "ألبرت" الفتاة/ السّلحفاة، "إيزيس". بالتّوازي مع الأحداث الّتي تحصل عام 2022 ميلاديّة في مدينة واشنطن الأمريكيّة يروي الكاتب أحداثاً تدور عام 1550 ق.م في القصر الملكيّ في طيبة مفادها أنّ جسد "كامس" المخَلّد، معطي الحياة، ابن الشّمس، الحاكم الشّجاع أبداً قد اختفى.
للوهلة الأولى، ومن خلال العنوان الأوّل "أحمس" يظنّ القارئ أنّ الكاتب يتّجه نحو سرد تاريخيّ عن مصر القديمة ليطلعه على أمجادها وعلومها وفنونها. كما أنّه للوهلة الأولى ومن خلال العنوان الثّاني "الوباء" يتّجه نحو الحديث عن الفايروس المستجدّ كوفيد-19. إلّا أنّ هذه الخدعة اللّطيفة ستغرق القارئ في عمق أعماق الزّمن الّذي يعتبره الكاتب واحداً، وستحيله من جهة إلى البحث والاطّلاع على شخصيّات من التّاريخ القديم يقاربها مع شخصيّات من التّاريخ الحديث أو المعاصر. ومن جهة أخرى يحيله إلى ذاته العميقة ليقرأها الآن على ضوء الماضي المرادف للآن بحكم تكرار الأحداث، فيبرز معنى الوباء الحقيقيّ الّذي أراد الكاتب إيصاله بحبكة روائيّة بديعة.
تقول فيرجينيا وولف إنّ قراءة الرّواية هو فنّ صعب ومعقّد. إذا كنت تريد الاستفادة من كلّ ما يتيحه لك الكاتب – الفنان العظيم – فيجب عليك ألّا تمتلك بصيرة دقيقة وعظيمة فحسب، بل أن تمتلك مخيّلة كبيرة وجريئة أيضاً. ولعلّ الكاتب باسم جبرة اعتمد على مخيّلة القارئ الكبيرة والجريئة مفترضاً حسّاً عالياً لدى القارئ الباحث بدقّة عن عمق الحياة.
رسم الكاتب الرّواية بشكل دائريّ، فبدأت بمشهد سينمائيّ خياليّ يظهر (كامس) في شوارع نيويورك ليعود ويختم الجزء الأوّل من الرّواية بنفس المشهد. وإنّ دلّ هذا المشهد الدّائري على أمر فهو يدلّ على دائريّة الزّمن الّذي ينتهي في النّقطة الّتي يبدأ منها والعكس صحيح. كما يدلّ من جهة أخرى على استحضار الماضي إلى الواقع الحاضر فتنكشف للقارئ تفاصيل متشابهة بالمضمون إلّا أنّها قد تختلف بالشّكل. فالحرب الّتي لطالما استخدمت السّلاح الحربيّ قد تتّخذ شكلاً آخر بسلاح فكريّ أو إعلاميّ أو تكنولوجيّ. ولعلّ الكاتب أراد من خلال أسماء شخصيّاته دلالات محدّدة (ألبرت العالم، مارك صاحب الاستثمارات في الإعلام والاتّصالات، أنطون الرّاهب، إيزيس الفتاة/ السّلحفاة، أحمس فرعون من مصر القديمة ومؤسس الأسرة الثامنة عشرة، وأحمس الطّفل الصّغير ابن خبير الآثار) كما أراد أن يرسل إشارات للقارئ تمكّنه من التّوغّل في الهدف من الرّواية انطلاقاً من تشابه الأسماء ودلالاتها الفاعلة في التّاريخ. فيتجلّى له التّمييز بين محارب وآخر، وسارق وآخر وإله وآخر.
يقسّم الكاتب الرّواية إلى سواعٍ سبع شارحاً في مقدّمة العمل مخاطباً القارئ قائلاً: "أنت مقبلٌ على قراءة السّواعي الوحيدة الّتي وصلتني. لم أتمكّن من ترقيمها، فالأرقام ترهقني، لا أثق إلّا بصفرها، لذا ستكون السّواعي صفريّة، تماماً ككلّ المعادلات الزّمنيّة، تنتهي حيث تبدأ، لتبدأ حيث تنتهي. أكتبها -الآن- وتقرأها أنت -الآن- هذا هو المقياس الزّمنيّ الوحيد الأكيد الّذي لا يؤخَذ عليه ولا يرَد.. الآن". لماذا ترهق الأرقام الكاتب، ولا يثق إلّا بصفرها؟ غالباً تحضر في ذهن الكاتب ثلاثة اتّجاهات للرّقم صفر أو ثلاث فلسفات اهتمّت بالرّقم صفر: الصّفر اللّاشيء الّذي رفضه الإغريق بحكم خوفهم من اللاشيء فبحسب الفلسفة الإغريقيّة، هذا العالم يحكمه النّظام وحتماً يوجد "شيء ما" حولنا على الدّوام. والصّفر اللّانهاية، وذلك ضمن علم التّفاضل والتّكامل الّذي تلقّفه العلماء من أعمال الحسن بن الهيثم والخوارزمي وأبرزهم لايبنتز وإسحق نيوتن وغيرهما خلال القرن السابع عشر. والصّفر نقطة الأصل الّتي يمتدّ منها محوران من المالانهاية إلى المالانهاية كما شرحها ديكارت الّذي قاده تفكيره إلى جعل الصّفر نقطة المركز والقلب للنّظام الإحداثيّ الّذي ينسب إليه اليوم فيما يعرف بـ (مستوى ديكارت الإحداثي). وعليه فإنّ الكاتب ذهب في هذه الاتّجاهات الثّلاثة غالب الظّنّ. فالصّفر المرادف عند الكاتب للآن المقياس الزّمنيّ الوحيد، هو النّقطة الأصل الّتي تنطلق منها الرّواية وتعود إليها. والصّفر اللّانهائيّة الحاضرة في دوران الأحداث وتشابهها في كلّ زمان ومكان. والصّفر اللّاشيء الدّالّ على العدم الّذي نتعلّمه من التّاريخ بمعنى أنّنا لا نتعلّم شيئاً. لكنّ الكاتب يتّخذ لنفسه دلالة خاصّة للرّقم صفر المعادل للسّواد أو الغموض أو الالتباس، حين يظهر (كامس) في منطقة زمكانية خارج العالم في القسم الأوّل المعنون (السّاعة صفر... أسود): )كامس( المخَلّد، معطي الحياة، ابن الشمس، الحاكم الشّجاع أبدياً- الشّاب العشَرينيّ سابحٌ في نطاق الزّمكان، متّشح بزيّه الفرعونيّ المميّز، يدور في فلكٍ -كالثّغر- أكثر سواداً من باقي الأثير المحيط، ينظر إلى كوكب الأرض من علاه ذاك، واثق الخطى غير متعجّل يتّجه نحو الكوكب في حركة مكانيّة استاتيكيّة تبدو غير حقيقيّة، يتّسم وجهه بابتسامة بلاستيكية..." جعل الكاتب الخلود الزّمني في هذه المنطقة الزّمكانيّة المعتمة حيث السّكون والجُمود أو عدم التّطوّر، وأدخل عليها الحركة الدّيناميكيّة ليظهر التّضاد العنيف بين حركة الزّمن من حيث الشّكل وجمودها من حيث الفعل الإنسانيّ. وفي هذه الحركة الجامدة المتحرّكة يثير الكاتب مشكلات وجوديّة حقيقيّة كالحرب، والسّلام، والمشاعر، والإرادة، والحرّيّة، والعبادات والذّكاء الاصطناعيّ، إلى ما هنالك من مشكلات وأسئلة تحرّك الفكر والعمق الإنسانيّ.
الفصل الأخير من الجزء الأوّل من الرّواية "ثقب أسود" يحدّد فلسفة الكاتب ويبرز المعنى الحقيقيّ المراد إيصاله للقارئ. وما الثّقب الأسود إلّا دلالة على اللّاشيء أو التباس المعاني الإنسانيّة، وتناقض الأفكار:
"في فضاءٍ دامس، وفي بقعة أكثر إظلام، يتراءى لنا كلّ من كامس وأحمس في زيّهما الفرعونيّ، متقابلين كالأعداء، يبدوان وكأنّهما آخذين في التّلاشي، لكن بلا تلاشي! كلّ الأجرام تتحرّك، بلا انتقال! السّاعة الآن )صفر(، السّرعة مبهمة، حيث حاصل قسمة المسافة على الزّمن هو حاصل قسمة المبهم على صفر! فالكلّ ثابت متحرّك، خامل مستعرّ، هنا يمتزج الأبيض بالأسود، الشَبق بالخَرِق، هنا، في اللّازمكان، يستعر الصّراع الحقيقيّ بين كلّ المتناقضات، المتكاملات! في اللّامنطق هنا، تتمنطق المعرفة لمّا ينكشف عريها! هنا -في اللّاهنا- كلّ شيء حقيقي...".
"أحمس" رواية تخاطب العقل فترتقي به وتخاطب الإحساس فتهذّبه وتدلّه على عمق الحسّ الإنسانيّ الّذي ينبغي أن يكون عليه الإنسان. أحكم الكاتب السّيطرة على الرّواية من البداية إلى النّهاية، فأكّد معنى (الآن) الّذي أراده على الرّغم من تعدّد المشاهد والأحداث. كما استفزّ خيال القارئ وذكاءه ليدرك كنه الوباء المتغلغل في الإنسانيّة مذ وجدت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق