الحَجْر والشّعْر في زَمَنِ الكورونا، قصيدة : " المريميَّة " للشاعر: يحيى السَّماوي أنموذجاً/ د. وليد العرفي

ـ سورية جامعة البعث ـ

الـوقـتُ مـن حَـجَـرٍ

وهـذا الـمـحـجَـرُ الـصـحـيُّ  مـنـفـىً

لا أنـيـسَ يـشــدُّ مـن عَـضُـدي عـلـى ضَـجَـري

و" سِــدنـي " لـيـسَ لـيْ فـيـهـا  ســوى ذكـرى لـيـالٍ مُـخـمَـلـيـّـةْ

تتبدّى جماليّة الاستهلال ، وإن كانت تعبيراً عن حالة ضيق نفسي ، وتأزم مرتهن بطبيعة ظرف وحالة غير معتادة ، إنها قصيدة ترتبط بالعصر بكلّ أبعادها ، ورؤاها التي تظهر منذ البداية التي تجعل الوقت انعداماً للحركة ، وهذا العدم يعني الموت الذي يُشير إليه بصيرورة الوقت من الحجر بكل ما تُحيل عليه دلالة الحجر من انعدام الحسّ ، وجفاف الشعور العاطفي  

مَـرَّتْ مـرورَ الـحُـلـمِ فـي مُـقَـلِ ابـنِ بـاديـةِ الـسـمـاوةِ

يـومَ شــدَّ  فـمَـاً الـى شـفـتـيـنِ مـن شــهـدٍ

ومـحـراثـاً الـى تـنُّـورِ صـاحـبـةِ الـجـلالـةِ فـي بـلاطِ  الـعـشـقِ

مـن أقـصـى شـمـالِ الأرضِ جـاءتْ

لـلـجـنـوبـيِّ  الـسـمـاويِّ الـصـبـابـةِ والـغـوايـةِ والـهـويَّـةْ

يبدو واقع الحال غير الواقع الذي كان، إذ الشاعر يعيش حالة استعادة ما كان  وما صار ، وهو ما بين واقع كائن ، وحالة كانت يُقارن ما كان يأمل فيه ، وما يحصل الآن في صورة متناقضات تظهر الحياة في صورتها الحقيقية، وهو ما يبدو في علاقة كل من عطش الكهوف، وما ترمز إليه من ظلام وعتمة ، ولفظ الضياء ، وما يعنيه من انفتاح وحرية ، ورمزيات لفظي: ( جوع وبادية) ، وما يُحيلان عليه من فقر وجفاف وعدم،  مقارنةً بـ : (عشب الربيع ) الذي يعني الخصب والتجدد والرفاهية ، وبهذا التغيير تتكشَّف أوجه المقارنة من خلال الحقل الدلالي المعجمي  الذي يحشد فيه الشاعر الألفاظ الدالة من مثل : (فراديس ، الهديل خرير ، دلة ، الفرات ، الصهيل ، الفرح )، وقد أراد الشاعر أن يجمع أكثر من حاسَّة في تحقيق غاية الصورة ، وإشباع رغبته في التَّماهي مع وصفيَّة المشهد عبر: الصوت واللون والفكر  :  

كـلٌّ بـهِ عـطـشُ  الـكـهـوفِ الـى الـضـيـاءِ

وجـوعُ بـاديـةٍ  الـى عـشـبِ الـربـيـعِ

تـلاقـيـا فـي غـفـلـةٍ مـن مـقـلـةِ الـصـحـراءِ

فـاخـتـصـرا الـطـريـقَ الـى الـفـراديـس الـبـعـيـدةِ بـالـسـريـرِ

وبـالـهـديـلِ خـريـرَ دجـلـةَ والـفـراتِ

وبـالـصـهـيـلِ مـسـافـةَ الـفـرحِ الـقـصـيَّـةْ

بـيـنَ الـسـمـاوةِ والـسـمـاءِ

وبـيـن راشِـفِ  خـمـرةِ " الأضـحـى "

ومـسـغــبَــةِ الـضـحـيّـةْ

وهو ما يبدو أمراً أصبح مجرَّد ذكرى غير مُمكن التوقّف عندها طويلاً ؛فيرجع إلى الواقع الذي يبدأ بلفظ تحديد دال على اللحظة الراهنة ، وقد تغيّر فيها المكان الذي لم يعد كما كان عليه في الماضي :

والآنَ " سِــدنـي " لـم تَـعُـدْ " ســدنـي " الـتـي شــدَّ ابـنُ بـاديـةِ الـسـمـاوةِ

كـأسَــهُ لـخـمــورِهــا

وشــهــيــقَــهُ لـعـبـيـرِهـا

ونُـعـاسَـهُ لـسـريـرِهـا

فـالـوقـتُ مـن حَـجـرٍ

و " آمـورا  amora " كـمـا زنـزانـةُ الإعـدامِ : (*)

شــرطـيٌّ وراءَ الـبـابِ

شـرطـيٌّ أمـامَ الـبـابِ

شـرطـيٌّ أمـامَ  سَـجـائـري

يحضر المكان مُتجسّداً بفندق العزل : (" آمـورا  amora "  )، وهو على الرغم مما فيه من مظاهر الرفاهية البادية في معالمه الخارجية إلا أن عالم الشاعر الداخلي ، وإحساسه بأنَّهُ أسيرُ هذه الجدران التي لا يحقُّ له مغادرتَها إلا بإذن جعلت الفندق رمزاً لاستلاب الحرية ، وشكلاً من أشكال القمع والعبودية التي جاءت ألفاظ: ( شرطي ، وأمام وخلف الباب ) مُعبّرةً عن عمق المعاناة النفسية الخانقة التي يشعر بها نتيجة المنع ومغادرة المكان خشية أن يكون مريضاً بكورونا ، وهنا يُحاول الشاعر أن يُخفّفَ على نفسه على سبيل التقليل من معاناته، ومحاولة تجاوز الحالة النفسية بتسويغ تلك الإجراءات التي يرى فيها ضرورة لتجنيبه المرض ، ونقله العدوى إلى أهل بيته ، وهو بذلك يُريح نفسَهُ،  إذ يقوم بحماية نفسه، وأهل بيته من مرض عصري مُخيف :

فـأنـا  أســيـرُ "الاحـتـمـالِ" بـأنْ يـكـونَ الـفـاتِـكُ الـقـتّـالُ "كورونـا"

تَـمَـكَّـنَ مـن مُـصـاحَـبَـتـي

فَـحَـجْـري بـاتَ شِـبـهَ ضـرورةٍ خـوفـاً عـلـيَّ وآلِ بـيـتـي

مـن مـخـالـبـهِ الـعـصـيَّـةْ

*

يـومـانِ مَـرّا مـثـلـمـا دهـرَيـنِ

كـيـفَ أجـوزُ عـشـراً واثـنـتـيـنِ مـن الـلـيـالـي الـمـوحِـشـاتِ

وعـشـرةً واثـنـيـنِ  مـن قـلـقِ الـنـهـاراتِ الـشـقـيّـةْ؟

ووفق هذه الحالة يبدو الإحساس المُتنامي يُثقل على الشاعر مرور الزَّمن الذي يجده بطيئاً؛ لما فيه من منع ، وتقييد لحركة الشاعر، ولذلك يتبدَّى قلق الشاعر الذي يُطلق أسئلته المستنكرة لهذا الوقت الذي يبدو كأنَّهُ سلحفاة في خُطاه؛ فها هو الشاعر يعدُّ الأيام بالساعات واللحظات ، أشبه بالسَّجين الموعود بإطلاق سراحه بعد مدَّةٍ مُعينة ، وهي لدى شاعرنا مدة الحجر المقررة بأربعة عشر يوماً ، ولما يمضِ منهما سوى يومين اثنين؛ فيتساءل كيف له المقدرة على تحمّل ما تبقّى من تلك المدة ؟! 

هـلْ لـيْ بـنِـصـفِ سُــوَيـعـةٍ فـي الـسـطـحِ؟

بـيْ عـطـشٌ لِـكـأسٍ مـن شـعـاعِ الـشـمـسِ  ـ قـلـتُ لـحـارسـي ـ

وأضَــفــتُ : أو سـيـجـارةً

ــ إيّـاكَ .. أو شـهـريـنِ سِـجـنــاً ـ قـالَ ـ

فـاغْـتَـمَّ الـصـبـاحُ بـمُـقـلـتـيَّ

يكشف الحوار عن توق الشاعر التخلص من حالة حجره بالانطلاق إلى خارج حدود الغرفة إلى فضاء أكثر اتساعاً ، وأفق أبعد مدى يتمثَّل له من خلال الصعود إلى سطح الفندق توقاً إلى مصافحة السماء ، والاغتباق بضياء شمس الحياة عبر حوار مع الشرطي يبنى على حاجة متلبسة همس التمني ، ونبرة صوت تسدّ الطريق أمام تلك الرغبة بالرفض والتحذير من العاقبة ، وهو ما كان باعثاً لتأزم الحالة النفسية لدى الشاعر الذي عبّر عنه باغتمام الصباح في نظره .

الـمَـرْيَــمِـيَّـةُ أشـمَــسَــتْ لـيـلـي

وأيـقـظـتِ اصْـطِـبـاري مـن عـمـيـقِ سُــبـاتـهِ ..

دكَّـتْ جِـدارَ الـصـمـتِ ..

مَـنْ؟

لـلـصـوتِ أصـداءُ الـنـواقـيـسِ /  الـمـآذِنِ / والـهـديـلِ

مَـنِ الـمَـلاكُ الـمَـرْيَـمـيـةْ؟

الـخـيـمـةُ / الـنـهـرُ  / الـحـديـقـةُ / والـصـديـقـةُ / والـشـقـيـقـةُ

أيـكـةُ الأرزِ الـ "بـهــيَّــةْ "؟

يبدو أنّ حالة النصّ القائمة على السكون وانعدام الحركة بفعل موضوعي خارجي يُمثّله الحجر،  وذاتيّ يتجسّد بحالة ضيق الشاعر، وضجره من هذه الوحدة المفروضة التي وجد نفسه مُرغماً على التعايش معها وفق المثل القائل : مكره أخوك لا بطل 

تبدو هذه السكونية بفعل مُغاير بسبب من هذه المريمية التي تتبدّى كقطرات ندى تُرشُّ على هدب عيني الشاعر تُوقظ فيه العين التائقة إلى الصباح الأجمل مثلما تفتح نفسَهُ على الحياة بمعناها الأكثر جمالية وسعادة، وبهذا ينفتح السؤال الذي يظهر الاندهاش والانشراح بالقادمة التي تطرق باب حياة الشاعر، وتفتح عليه نوافذ الأمل والجمال، وإزاء هذا القادم ؛فلا بدّ من رد فعل يقوم به الشاعر : 

سـأقـومُ مـن مـوتـي الـبـطـيءِ

مُـنَـفِّـضـاً عـن مُـقـلـتـيَّ الـلـيـلَ

بـاتَ الـصـبـحُ  طـوعَ تـجـلُّـدي

وهنا لا بدَّ من التوقف عند نقاط عدّة :

الأولى :  أنَّ اللفظ جاء بصيغة المؤنث ، وهو ممَّا لا شكَّ فيه يعني أنها النصف الذي يُكمّل المذكَّر الشاعر ، إذن العنوان هنا يأتي حاجة نفسيّة أكثر منه دلالة  نصيّة .

الثَّانية : أنَّ المريميَّة  صيغة نسبة إلى السيدة العذراء بما ترمز إليه من نقاء وطهر وعفّة ، كما أنها رمز للسلام والمحبّة التي نادى بها السيد المسيح عليه السلام ، ووفق هذا البعد ثمّة حالة اتّساق بين الدلالة المرجعية للسيدة العذراء ، والشخصية التي كتبت لها القصيدة التي هي أيضاً رسولة السلام؛  فالشاعر إذنْ يربط الصورة التراثية القارَّة في التفكير الديني لدلالات السيَّدة مريم العذراء بصورة الشخصية التي يتحدّث عنها في الوقت الحاضر لحملها الرسالة نفسها .

الثَّالثة:   المعنى الدال على المريمية الحقيقي،  وهي نوع من أنواع الأزهار ينتشر في شرق أوربا و المغرب العربي،  ويُسمَّى ( حكيم الحديقة) ،  وهي نبتة مُعمَّرة،  دائمة الخضرة،  وأوراقها رمادية اللون،  وأزهارها زرقاء أرجوانية ، ولهذا الجمال الذي تتَّصف به من حيث دوام خضرتها وألق ألوانها أصبحت تستخدم في أغراض الزينة  

مـا كـانَ عـيـداً

غـيـرَ أنَّ الـمَـريَـمِـيـةْ 

قـالـتْ:

هـيَ الأيـامُ بـسـتـانٌ   ونـحـنُ زهـورُهـا

أمَّـا كِـتـابُ غـدِ الـمـنـى فـالـمـزهـريَّـةْ

تأتي القفلة في القصيدة مُنسجمةً مع العتبة النّصيَّة التي وسم بها العنوان المريمية ، بما تحمله من دلالات، وتُعبّر عنه من وشائج تربط الشاعر بالمريمية،  كما ترتبط القصيدة بالعنوان عبر حركة دائريَّة تُعيد الختام على البدء ، وتربط الاستهلال بالختام في وحدة عضويَّة حقَّقتْ للقصيدة ترابطها على مستويي الدلالة والموضوع ، كما تبدّتْ معماريّة البناء الفنيّ للقصيدة قائمةً وفق هندسةٍ تكاملت بالانتقال على الصعيد النفسيّ من الملل في البداية المُتمثّل بالحَجْر وحالة الوحدة المُتحقّقة في هذا الانعزال المرافق لشعور ثقل الزمن بثوانيه التي تتحوّل إلى سنوات إلى النهاية المتمثّلة بحالة الانشراح التي تجلّت بوجود الأنيس الذي تشخّص بالسيدة د. بهية أبو حمد (المريميّة) وعلى مستوى المكان ثمَّة تغيير من مكان ضيق هو غرفة الحجر في الاستهلال إلى فضاء ( بستان ) وما يعنيه من خضرة وطبيعة وجمال ، مثلما يشكّل الحوار المنقول على لسان المريميّة حالة إضافيَّة تُعبّر عن حالة المسامرة؛ فيما كانت البداية حوار مونولوج داخلي بين الشاعر وذاته .

وهكذا تبدّتْ لنا اشتغالات النّصّ وفق هذه التكامليّة في إطار بناها النفسيّة واللغويّة مُتضافرةً في تأكيد أنَّ الشاعريّة الحقّة هي التي تخلق من حالة الحزن والملل مشهد جمالّ من الفرح والانفتاح على الآخر والحياة . 

هناك تعليقان (2):

  1. الشاعر العربي الكبير -- لا نقول ولن : انه يُترجم الواقع بصيغ جمالية مبتكرة فقط-- لا نقول ذلك - فهناك بين الاصل ترجمته مسافات ضائعة كثيرة -- وهي حالة عامة تعاني منها اساليب الترجمة -- ولكن شاعرنا الكبير يتماهى مع الواقع ثم يصهره بحرفية المبدع المجرّب -اراه بين الحلم كتسجيل يومي ليوميات القلب واللاوعي كمصدر موثوق لتداعيات التجربة الحالية واحالتها عفويا وتلقائيا الى تجارب سبقت النصّ بكثير من السنين -هذا هو السرّ الذي يجعل قصائده توحي مباشرة وغير مباشرة الى تجارب المتلقّين جميعا -- كلٌّ يرى عشقه في منعطفات قصيدته -- كلٌّ يرى حبيبته في انفاس ابياته -وذلك بحقّ ديدن الشاعر الكبير -- وسمة ابداعية متكررة له -- ارسطو -- يصف الشاعر المبدع-- ( بتصرف ) هو القلب الممتلئ بالعاطفة الجيّاشة -اكثر من العاشق - وهو عندما يعبّر عن غضبه يكون اكثر تعبيرا مما في قلوب الفرسان عند القتال الحقيقي -- هنا رسم ارسطو من حيث لا يدري تجربة الشعراء الموهبين الكبار -- وعمالقة الشعر الانساني وشاعرنا الكبير طاقته الشعرية وكثافة عاطفته تجعله مؤهلا ليكون تحت لائحة ارسطو بجدارة مع سبق الاصرار من بواكير قصيدته -وترصد الحدث الشعري الذي ينسجه بوعي احترافي شديد الدقّة وسليقة نقية تكاد ان تكون مفتاح اسرار ابداعه -- فما جاء به الفيلسوف الكبير ينزل هرميا ويصعد من القاعدة الى القمة بالشعراء عبر التأريخ لما يملكه هذا الوصف من حدّين مهمين للشاعر بشكل عام العاطفة اولا والغضب ثانيا - فما قدّمه لنا من نماذج شعرية حصيفة يكون شاهدا عمليّا على ما نكتب ونقول بعيدا عن المجاملة -- --- وثمّة ظاهرة عريقة في شعره تخرج به من رتابة العمود الشعري وتفعيلة البحور الشعرية الصافية -- الى أقلمة الكلمة والجملة الشعرية وابراز مكنونها الباطني ليكون القارئ امام مستويات وزوايا جديرة بالحسبان عند القراءة --بمعنى هناك لغة تخرج عن السياق الرتيب والصور الشعرية المتهالكة --يقول الناقد الروسي : رومان جاكوبسون -( الادب هو نوع من الكتابة التي تمثّل عُنفا منظّما , يُرتكب بحق الكلام الاعيادي -- -- نظرية الادب تيري ايغلتون ---- وهذه الظاهرة المهمة في صياغات شاعرنا الكبير تجري بهدوء الانهار المنبسطة على اديم الارض , تُغذي بتروٍ واناة كلّ الاشجار بطريقها الى مصباتها . تحياتي لكم جميعا

    ردحذف
    الردود
    1. السطور اعلاه بقلم الشاعر العراقي الكندي -- حكيم جليل الصباغ -- دمتم

      حذف