لقد قيل في الماضي أن اختراع الرصاصة والمسدس ساوى بين الجبان، أو الخسيس، والشجاع ؛ واليوم نقول أن التقدم العلمي والتكنولوجي وما أتاحاه من سهولة باستعمال معظم المنتوجات العصرية الالكترونية وغيرها، ساوى بين "كل عالم وجهول"، حتى صار الناس ينامون على سيول من "المعارف" والتحاليل والخلاصات والنصائح "العلمية"، ويفيقون، في الصباح، على نقيضها تمامًا.
لقد استهدف قباطنة العالم الجديد تدمير الكيانات العربية بشكل تام واعادتها الى تشكلاتها القبلية الأصلية والتحكم بها وبمقدرات البلاد الطبيعية. كما ولم يخفوا مخططاتهم، بل طلبوا مساعدة عملائهم من بين قادة العرب؛ فلم يتخلف هؤلاء وتحالفوا على تنفيذ تلك المخططات التي أوصلت، كما نرى، الدول العربية - وبعضها لا يعدّ دولًا بالمعنى الصحيح للكلمة - الى حالة من "العمى الأبيض"؛حيث تفوق أوضاع مجتمعاتها البائسة، وانحطاطات قادتها واستبدادهم، أوضاع المدينة الرهيبة التي وصفها الاديب الكبير خوسيه سارماغو في روايته المثيرة واللافتة "العمى".
كان شرقنا، قبل الاعلان عن اتفاقية الامارات، غارقًا في بحر من ظلمة فاحمة وجهل، وسيبقى بعدها تائهًا ومهزومًا لزمن طويل آت.
انها حالة من الفوضى العارمة التي لا يعرف فيها المواطن العربي المسحوق من "يمتح" في بئره الماءَ ومن في اسفلها "يميحه" كي يكون زلالا !
عندما ظهر بنيامين نتنياهو على شاشة التلفزيون وأعلن، بفرح عظيم، نبأ توصله مع صديقه الأمير الأماراتي إلى اتفاقية سلام شاملة، تهافت أصحاب الاقلام والمنابر على وصف الحدث؛ فاعتبر بعضهم أن اعلان الاتفاق حدث هامشي وليس الا كشفًا عمّا كان قائمًا بينهما في الستر؛ بينما تفهم آخرون المشهد، فالامارة، بالنسبة لهم، أصغر من "قُمع"، وهي لذلك لن تؤثر على مستقبل المنطقة العربية والاسلامية، المشرفة على أحداث جسام سيتوّجها، وفق تكهنات هؤلاء، شتاء عربي زاحف سيغسل قاذورات عصر الخيانات والسقوط. لا يعنيني جميع ما كتب هؤلاء حول هواجس الأمة العربية أو الاسلامية على الاطلاق؛ فمعظم ما قالوه هو عبارة عن شعارات فضفاضة وكتابات ملتبسة وهشة، كانت اسرائيل قد استفادت منها لعقود طويلة وسخّرتها بحكمة وتسخرها بخبث من اجل إحكام نفوذها في المنطقة وتسويغ قمعها للفلسطينيين، وهم ضحايا ممارساتها واحتلالها المباشرين والوحيدين.
ستبقى القضية الفلسطينية هي هدف هذه المخططات المباشر والاهم؛ فما قامت به الامارات يُعدّ خطوة خطيرة لا يجوز الاستهزاء من احتمالات تأثيراتها الممكنة على مستقبل المنطقة؛ وكل المحاولات لتقزيم الحدث ووسمه بالعادي وبالعابر ستخدم مآرب القيمين عليه؛ ولذلك سيبقى وجع الفلسطينيين حقيقيًا، وشعورهم بخطورة المؤامرة الرامية الى تصفية قضيتهم، مبررًا، وخوفهم من محاولات تقويض مشروع تحررهم الوطني واقامة دولتهم المستقلة، في اطار حل الدولتين المتفق عليه دوليًا - مشروعًا وصحيحًا.
ما زالت محاولات احتواء تداعيات هذه الصفقة أو إجهاض مخرجاتها المبرمجة جارية، ومن سيتصدى لها بشكل صارم وواضح وسيقف في مواجهتها هم قيادات وفصائل منظمة التحرير وابناء الشعب الفلسطيني الذين عرفوا في الماضي كيف يسقطون المؤامرات ضد حقوقهم ويفشلونها، والى جانبهم كمشة من الحلفاء الحقيقيين.
ومن المؤسف حقًا في مثل هذه الظروف العصيبة عدم اصطفاف كل القوى السياسية والمجتمعية الفلسطينية الى جانب قياداتهم، فالمرحلة حرجة، ومحاصرة منجزات الشعب الفلسطيني تتصاعد من يوم الى يوم، مما يستدعي التخلي عن جميع مسببات الخلافات الفلسطينية الداخلية واعادة بناء القلعة الواحدة المتينة، كي نستطيع، بمن في داخلها، مجابهة موجات الضغوطات المتوقعة.
لا أعرف من أين يأتي المتفائلون بصبرهم، ولا لماذا يبشّر من يبشّر العربَ بالفرج القريب؛ فكل من "يفتي" بالنصر الأكيد يمدّ يديه للسماء نفسها وهي، كما علّمونا، فوق الجميع زرقاء ودودة وجميلة، خاصة ونحن نرى كيف لم يبق للفلسطيني سلاحًا الا "ذراع" شاعرهم محمود درويش وقطران الوحدة والصمود.
سمعنا في مجمل ما سمعنا من محاولات البعض لتفهم موجبات توقيع الاتفاقية الاماراتية أو تبريرها، رزمة من الادعاءات الواهية؛ وفي طليعتها نجاح امارة أبو ظبي بايقاف ضم المناطق الفلسطينية للسيادة الاسرائيلية. لم تنطلِ هذه الحجج على الناس لا سيما على الواعين منهم والشرفاء؛ ولكن من أخبث ما سيق كتبرير للخطوة الإماراتية كان ادعاء من لجأوا الى استحضار الاتفاقيات الفلسطينية التي وقعتها منظمة التحرير مع الحكومة الاسرائيلية، واثباتها كسوابق تجيز لباقي الدول العربية محاكاتها أو تكريرها. ولقد تصرّف من جنّد هذه الذريعة بديماغوغية خطيرة، وهو يعرف عدم صحة المقارنة وضرورة سقوط المقاربة.
لقد اجاب القائد الكبير الراحل فيصل الحسيني على جميع هؤلاء منذ سنوات طويلة، وحذر من الوقوع في هذه المغالطة وهو الذي كان يشعر كيف كان بعض قادة العرب يحلم بالنوم في حضن اسرائيل أو على صدرها؛ فصرّح، قبل وفاته، حاسمًا: "نحن نقول للدول العربية التي تريد أن تحقق سلمًا؛ أنه من المحظور عليكم أن تعقدوا اتصالًا مع إسرائيل؛ ولا تستخدمونا كمظلة أذا جلسنا نحن مع الاسرائيليين، وتقولوا: الفلسطينيون جلسوا مع اسرائيل فلماذا لا نجلس؟ نحن نجلس مع الاسرائيليين لفك الارتباط ولا نجلس معهم لتمكين هذا الارتباط".
رحل الفيصل ورحلت معه احلام فلسطينية عديدة؛ فهل ما زال التوقع اليوم أن يتصرف العرب كما طالبهم فيصل قبل عشرين عامًا ممكنًا ولنفس الاسباب التي بررته حينها؟
انه تساؤل مشروع وضروري، وهو واجب على كل فلسطيني يفتش عن مستقبله الآمن في هذا العالم المتغيّر وضوابطه السائلة؛ فحتمية التضامن العربي، الذي كان في حكم البداهة المتوقعة، صارت مسألة فيها وجهة نظر؛ وهي بحاجة الى فحص معمق وتفكيك شامل.
لقد كانت نكسة حزيران 1967 أكبر وأقسى الضربات التي انزلت على دعاة وحدة الامة العربية، وتلتها هزات عديدة أدت مع السنين إلى زعزعة شروط حالة التضامن المتوقعة بشكل طبيعي ومفهوم.
سيكون اليوم من الصعب، ان لم يكن مستحيلًا، على من يعتنق العروبة، كفكرة وكفكر، التنكر لانكسار الحلم أو مواجهة واقع بعث القبلية العربية واستعادة القبائل لعصبياتها القديمة واستئنافها لممارسة حروبها الوجودية في معظم "الدول" التي كانت ذات يوم موئل الحلم العروبي وموعدها لاقامة الوطن الواحد الكبير، كما أطلقه ناصر ومن نادوا مثله وغنوا: أمجاد يا عرب امجاد !
انها قضية اساسية وذات علاقة وثقى بما يجري من تطورات وأحداث أمامنا، فالسؤال، لماذا يتوقع الفلسطينيون اليوم من امارة ابو ظبي، أو من أي دولة عربية اخرى، تضامن حكامها التلقائي الفوري مع قضيتهم ودعمًا مطلقًا على جميع الجبهات، هو سؤال مطروح بشدة وله ما يبرره. فهل عروبة هؤلاء القادة هي الجواب،مثلًا أم كونهم مسلمين، ام بدواعي قيمهم الانسانية واخلاقهم المثلى ؟
وهل غياب ردة فعل شعوب تلك الدول على مواقف قاداتهم واستنكافهم عن دعم فلسطين يشكل مؤشرًا على حدوث تغيّرات جذرية في تلك الساحات؟ وهل يتوجب على الفلسطينيين، قيادةً ومؤسساتٍ وشعبًا، الانتباه لجميع هذه المؤشرات واعادة حساباتهم من اجل انقاذ مستقبل قضيتهم ؟
للاجابة على هذه التساؤلات اهمية في تحديد سياسات الفلسطينيين المستقبليه؛ وعندما اقول ذلك لا استثني مواقف قادة فلسطينيي الداخل الذين آثروا، رغم جسامة الحدث، التزام الحذر والاكتفاء بتعقيبات متواضعة وخجولة، حيث غابت عنها مواقف واضحة وموحدة "للقائمة المشتركة" و"للجنة المتابعة العليا لقضايا الجماهير العربية" وغيرهما.
انه صمت غير مبرر، ويدلّ على عمق أزمة هذه القيادات وعلى عجزها في مواجهة الواقع الذي ينادي بضرورة ايجاد الحلول والبدائل.
يتبع ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق