في زمن الشاه، حينما كانت إيران دولة محترمة متقيدة بمباديء وأعراف القانون الدولي، كانت شركة "هوابيماي ملي إيران" (الخطوط الجوية الوطنية الإيرانية)، التي تأسست عام 1962 هي الناقل الرسمي للبلاد وكانت تستمد احترامها وثقة منظمة الطيران العالمية بها من إحترام المجتمع الدولي للدولة المالكة، بل كان مرحب بها في كل مطارات العالم، وكانت الشركات المصنعة لطائرات النقل المدنية تزودها بأحدث منتجاتها بما في ذلك طائرات الكونكورد التي أوصت طهران على ثلاث منها سنة 1972 قبل أن تقوم حكومة الثورة غير المباركة بإلغاء الصفقة.
لاحقا غير الملالي إسم الناقلة إلي "هوابيماي إسلامي إيران" (الخطوط الجوية الإسلامية الإيرانية) ضمن تغييرههم للكثير من الأسماء والعناوين وإلباسها صفة "إسلامي". لكن هذا لم يكن كافيا بالنسبة للحرس الثوري وفيالقه الإرهابية الساعية للتخريب والفوضى. ولأن الحرس الثوري الإيراني تزايد نفوذه وسطوته إلى درجة بات معها يشكل دولة داخل دولة الولي الفقيد، كان لابد وأن يكون له خطوطه الجوية المدنية الخاصة لإستغلالها في أعماله السرية القذرة.
وهكذا ولدت في عام 1991 شركة ماهان الإيرانية للطيران التي راحت، تحت ستار صفتها المدنية، تنقل الأسلحة والمقاتلين الإيرانيين والمرتزقة الأجانب إلى جبهات القتال التي انخرطت فيها إيران الخامينائية، الأمر الذي دفع الولايات المتحدة إلى إتهامها بتقديم الدعم المالي والمادي والتكنولوجي إلى الحرس الثوري الإيراني وفرض عقوبات عليها عام 2011، لتقوم عدة دول أوروبية (من بينها ألمانيا وإيطاليا وفرنسا) في العام 2019 بخطوة موازية تمثلت في منعها من العمل بمطاراتها، وتزامن ذلك مع قرار أمريكي آخر بفرض عقوبات إضافية على الشركة بموجب سلطة أسلحة الدمار الشامل، لشحنها صواريخ ومواد نووية إلى إيران.
وبطبيعة الحال لم تكن هذه الدول بحاجة إلى دليل على انتهاكات ماهان كي تفرض عليها تلك العقوبات. فالأدلة التي تدينها أكثر من أن تحصى ومنها ما قاله أحد قباطنتها ويدعى "أسد إلهي" من أنه في حزيران عام 2013 نفذ رحلة جوية من طهران إلى دمشق برفقة "حمولة ممنوعة" مع مائتي راكب من بينهم الهالك قاسم سليماني، الذي كان يعرفه ويجلس إلى جانبه في قمرة القيادة وأن الأخير حينما شعر بوجود محاولة من قبل القوات الأمريكية في العراق لإجبار الطائرة على الهبوط في مطار بغداد لتفتيشها سارع إلى التنكر بزي مهندس الطائرة "السيد رحيمي" وارتداء قبعة ونظارة سوداء. ومن الأدلة الأخرى التي جمعتها مصادر استخباراتية عديدة أن الشركة لئن كانت مسجلة كشركة تجارية خاصة مالكة لنحو 55 طائرة تطير إلى 66 وجهة وتنقل نحو خمسة ملايين راكب سنويا، فإن من يقوم بتمويلها ودفع أجور العاملين بها هو الحرس الثوري، كما أن من يترأسها هو المدعو حميد أرابنيجاد خانوكي المقرب جدا من فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني والذي أدرجته واشنطون على قائمتها السوداء سنة 2013.
على أن ماهان ليست متهمة فقط بدعم الإرهاب والفوضى والتخريب ونقل السلاح والمقاتلين إلى أماكن الإضطراب في سوريا والعراق واليمن ولبنان فحسب، بل هي فوق ذلك صارت متهمة بنشر وباء كورونا المستجد. ففي تحقيق أجرته هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) في مايو من العام الجاري من خلال تعقب رحلات الشركة والتحدث إلى بعض مسؤوليها تبين أن ماهان تحدت قرارات حكومية ودولية بين أواخر يناير ونهاية مارس 2020 وقامت بتسيير رحلات عديدة من إيران الموبؤة بالجائحة إلى سوريا والعراق ولبنان وعدد من العواصم الخليجية مما ساعد في انتشار الفيروس الصيني في الشرق الأوسط. علاوة على ذلك واصلت ماهان القيام برحلات إلى الصين في عز إنتشار الوباء فيها. والدليل على صحة ما نقول هو أن أول إصابة رسمية بـ كوفيد 19 سجلت في العراق كانت نتيجة لسفر طالب إيراني على متن طيران ماهان (الرحلة رقم W55062 ) من بلاده الموبؤة إلى النجف في 19 فبراير الماضي، وأن أول إصابة للوباء سجلت في لبنان كانت بسب سيدة لبنانية نقلتها الشركة من قم إلى بيروت في 20 فبراير 2020 على متن رحلتها رقم W5112.
وكنتيجة لكل ما سبق أعلنت الولايات المتحدة في بيان لها في مايو المنصرم أن الصين تعد واحدة من الدول التي تستقبل خطوط ماهان الناقلة للأسلحة والإرهابيين حول العالم لصالح تنفيذ أجندة طهران الهادفة إلى زرع الفتن وعدم الإستقرار، وأن واشنطون قررت فرض عقوبات على "شركة شنغهاي سانت ليميتد" الصينية، التي تتخذ من الصين مقرا لها، بسبب تقديمها خدمات وكلاء مبيعات عامة إلى شركة الطيران الإيرانية المدرجة على قوائم الإرهاب. أما وزير الخارجية الأمريكي جورج بومبيو فقد توعد في تغريدة له أي شخص وأي دولة ــ بما فيها الدول الأوروبية ــ يتعامل مع شركة ماهان للطيران بالعقوبات.
ومن الجدير بالذكر في هذا المقام أن ماهان متهمة من قبل واشنطون بتسهيل نقل شحنات الذهب من خزائن في فنزويلا إلى إيران مما يحرم الشعب الفنزويلي من موارد يحتاج إليها في عملية إعادة بناء إقتصاده، وبمساعدة نظام "نيكولاس مادورو" غير الشرعي لجهة محاولاته اليائسة لتعزيز إنتاج الطاقة والذي تراجع بسبب سوء الإدارة.
د. عبدالله المدني
*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي
تاريخ المادة: أغسطس 2020
الإيميل: Elmadani@batelco.com.bh
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق