كلّنا موتى في طوائفنا/ مادونا عسكر


في لعبة الطّوائف وحده الدّمّ يتكلّم. وحده الدّم يجرف لعنة الطّائفة الّتي نتنفّسها منذ لحظة الولادة ونرضعها من أثداء أمّهاتنا حتّى تتغلغل في كلّ خليّة من خلايانا. ثمّ نمضي، على جباه كلّ منّا سمة الطّائفة، في أكذوبة العيش المشترك، وخدعة الأخوّة ولعنة المحبّة الزّائفة. 

ثماني عشرة طائفة في بلادي تلعن بعضها سرّاً وأحياناً علناً. ومع كلّ لعنة تتشقّق الرّوح فتخرج حمم الخبث والمكر والغشّ وينبعث الخوف القاتل ويندفع لحماية الطّائفة. ثماني عشرة طائفة في بلادي تهرع لاحتلال المراكز والمناصب من أعلاها إلى أسفلها بحسب الكفاءة الطّائفيّة والعنصريّة المقيتة المتجذّرة في عمق الأعماق الصّامتة، المترصّدة للغرائز والنّزعات. ثماني عشرة طائفة لكلّ منها نظامها وهيكليّتها وجوهرها وتأويل نصوصها والاحتماء بها حتّى يأتي الدّم ويهدم الهيكل على الجميع.

كلّنا نطالب بإلغاء الطّائفيّة ونطالب فقط. إلّا أنّه عند لحظة الحقيقة كلّ يقف على سلاحه الفكريّ والجسديّ والمعنويّ والمادّي، وتنهار تلك الابتسامة الخبيثة والتّسامح المتعالي ويتلاشى العقل أمام فجور الغريزة ونزعة البقاء القبليّة البغيضة. إنّ المطالبة بإلغاء الطّائفيّة سياسيّة كانت أم غير سياسيّة لا تتضمّن أيّة أهمّيّة لا بل من السّخف والغباء أن نصرخ في الشّوارع ونطالب بإلغائها. 

ما يجدر بنا أن نشتغل به هو دراسة أبعاد الطّائفة الأخلاقيّة ومعالجة تأثيرها على المنطق العقليّ والسّلام النّفسي والسّلوك والتّطوّر الإنسانيّ حتّى نتخلّص منها. فالتّمسّك بالطّائفة الّتي يرثها الإنسان ويتعلّم ويتدرّب على الحفاظ عليها تسهم بتراجع الأخلاق الإنسانيّة وتهدّد القيم وتحرّك معانيها وتوجّهها بحسب ما يتناسب وحماية الطّائفة. فالطّوائف المتفرّعة من الدّين الواحد المعتمدة على جوهر الدّين الواحد وغير المتنازعة على أصول الدّين الواحد إلّا أنّها تتنازع وتتصارع على تأويل النّصّ وشرحه وتطويعه بما يتناسب والمصلحة الخاصّة وبما يتوافق وحماية القبيلة. ولسنا بحاجة لاستدعاء التّاريخ البعيد والقريب لنتذكّر الجرائم والنّزاعات الدّمويّة والسّلوك الوحشيّ وحتّى النّزاع الصّامت المتخفّي. ولمّا كان النّزاع حاضراً وحتميّاً فلا ريب أنّ الطّائفيّة  ستؤثّر على الأخلاق وتزعزع القيم. فالنّزاع يترافق والحقد والبغض والكره والاستعداد الدّائم للمواجهة خوفاً من فقدان الحماية وخوفاً على المصالح الّتي لا علاقة لها قطعاً لا بتقوى ولا زهد  ولا ورع ولا مخافة الله.

 ولمّا كانت الطّائفيّة شكل من أشكال القبليّة فلا ريب أنّه يلزم الجماعة زعيماً دينيّاً أو سياسيّاً تنضوي تحت جناحيه وتعمل بآرائه وقراراته طائعة حتّى النّفس الأخير. ما يعني أنّ حرّيّة الفرد على المحكّ، حرّيّة زائفة واهمة مقيّدة بأغلال من ذهب حتّى لا يتسنّى للجماعة أن تتمرّد أو أن تعمل العقل أو تنتقد. وإذا غاب النّقد فإنّه إشارة إلى غياب العقل والمنطق ودلالة على أنّ الطّائفيّة تهيمن على العقل النّاقد والمفكّر وتؤثّر على نموّه المنطقيّ السّليم لأنّها تعزّز النّزعة الإنسانيّة إلى الجرم والحقد والكذب والسّيطرة. كما أنّها تخلق ميكانيزماً تفكيريّاً واحداً عند كلّ إنسان منغمس في طائفته ومتحمّس أبداً للدّفاع عنها. وبالتّالي فنحن أمام آلاف يتصارعون ويتقاتلون بميكانيزم تفكير واحد. منهم من يتقاتلون بالسّلاح، ومنهم من يتقاتلون في قلوبهم وصلواتهم، ومنهم من يتقاتلون ظاهريّاً لإشعال الغرائز. 

كلّنا موتى في دويلات داخل الدّولة المهترئة. كلّنا موتى في طوائفنا داخل الدّين الواحد. كلّنا موتى في الطّوائف المتفرّعة من الأديان في بلاد تحوّلت إلى قبور تجري من تحتها أنهار الدّم. فالدّم وحده يتكلّم في منظومة الطّوائف، والدّم وحده يجرف الأجساد المبعثرة هنا وهناك دون أن يسألها عن طائفتها.  


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق