يوسف الجحش/ محمود شباط


جحافل ضباب الصباح الباكر تعوم على أجنحة نسائم الوادي أسفل مزرعة سليم العاص الملقب بـ "سليم شايلوك" لشهرته في اغتنائه من مال الربا، حيث يعمل لديه في المزرعة جميل الساقي الذي يقيم مع زوجته وطفلهما يوسف فيها.

وبينما هما يرويان الشجر قال جميل لزهوة بأنه سوف يكون لديه يوم عيد حين يكمل سداد المائة ليرة المتبقية عليه للمعلم سليم. هزّت رأسها غما وتحسرا وقالت: رحمك الله والدك، لم يترك لنا سوى عبء تسديد ديونه التي اشترى بها ذهبا للتي كان سيتزوجها.

-       ماذا تقولين؟

-       أجل ألم تسمع بأنه كان سيتزوج أم بهجت؟

-       حذار من تصديق كل ما تسمعين يا ابنة الحلال، ثم أفهمها ببسيط أسلوبه بأن تصديق الخبر والعمل بمقتضاه أمانة لا تقل عن أمانة نقله.

-       قالت: ما الذي دفعه لرهن البيت إذن ... التفتت حولها، اطمأنت، ثم أكملت بشبه همسٍ: "للمعلم شايلوك" ؟

-       رد جميل:  والدي كان يحتاج المال لعلاجه يا ابنة الحلال، ماذا تتوقعين من عجوز يعاني من مرض عضال وآلام ويرى بأنه في أسفل قائمة اهتمامات دولته؟

هدير سيارة تقترب، وقف جميل من فوره وركض لفتح بوابة المزرعة لمعلمه وضيوفه الذين يأتون كل صباح يوم أحد. يأتون للحفلة شواء ويخمرون، ولكن صياحم وجلبتهم اليوم دليلان على أن الخمرة قد تعتعت رؤوس الرجال الخمسة.

فور ترجُّل المعلم من السيارة مترنحا أشار لابن السابعة بنزق: تعال يا يوسف الجحش: أحضر لي مسبحتي من السيارة. بعد أن يحضر الصبي  المسبحة ينهره المعلم: علبة سجائري يا يوسف الجحش!!

تضايقت زهوة لإهانة طفلها ولكنها ستوجّه الملامة إلى جميل الذي تعلم بأن أحد أهم أسباب سكوته وعدم رده ودفاعه عن وحيده هو ما عاناه جراء قسوة أبيه وزوجة أبيه، من حنظلية الطفولة المقموعة و اليفاعة المذعنة.

وبينما هي تقدم الفاكهة للمعلم وزملائه حاول مد يده نحوها فنفرت بعيدا ولم تكمل خدمة الضيوف، سألها جميل عن سبب ترك الطاولة فكتمت غضبها وقالت له بأنها استأذنت المعلم كونها تشعر بدوخة. ولكن تصرّف المعلم الثمل كَـذّبَها حين لحق بها، حاول جميل الحؤول دون وصوله إليها، وحين أيقن من إصرار الذئب على مهاجمة النعجة دفعه بقوة فطرحه أرضاً.

 أسعف جميل "المعلم شايلوك" في النهوض عن الأرض ثم أتجه به نحو الطاولة وأجلسه بطبيعية وهدوء، وحين عاد قالت له زهوة فلنغادر في الحال، لم يعد لدينا ما نخسره أو نأسف عليه سوى شرفنا وكرامتنا.

حين وصلوا إلى قمة تلة يمكنهم فيها رؤية قريتهم لآخر مرة، التفتت زهوة لتودع بعينين دامعتين أهلها دون أن تودعهم، ولكنّ جميلا لم يقوَ على الالتفات كي لا يرى دياراً لم يبق له فيها محبّ ولا حبة تراب.

بعيد ستة أشهر من العمل في بيروت كان جميل قد تدبّر أمر هجرته وعائلته إلى كندا بمساعدة محام متقاعد أحد أبنائه يملك مطعما في كندا، أحبَّه وأشفق عليه وساعده في إجراءات ومستلزمات الهجرة والسفر.

بعد ابتلاء المعلم "شايلوك" بشلل نصفي وإدخاله إلى المستشفى، صار يعد الدقائق لعلاجه على يد الطبيب الأجنبي الزائر الذي اطلع على ملفات مرضاه فور وصوله، والذي حَيَّر بتصرفه مساعديه من أطباء وممرضين أثناء إجراء العملية الجراحية، حيث كان يقرب المبضع على عصب المعلم شايلوك، كمن ينوي قطعه، ترتجف اليد بقوة، يضع المبضع جانبا ثم يلامس جوار اعصب بحركة دائرية تبدو لرائيها مزيجا من الملامة والتعنيف، تكرر المشهد عدة مرات إلى أن انتصر في الأخيرة صوت الحس المهني.


في اليوم الأخير قبيل مغادرته، جال الطبيب الزائر متفقداً أحوال مرضاه، وحين وصل إلى غرفة المعلم شايلوك ابتسم الأخير وأكثر من عبارات الشكر وطلب من الطبيب المرافق للطبيب الزائر ترجمة كل ما يقوله، ثم أخرج من جارور الطاولة مغلفا فيه مبلغا من المال ورسالة شكر بالإنكليزية، لم يمسّ الطبيب الزائر المال ولكنه استلم خطاب الشكر حيث قرأه ثم كتب عليه بالعربية : "ليت كان باستطاعة البشر أن تُعوِّضَ ما لا يُعَوّض" التوقيع: يوسف الجحش.

الخبر في : 14/09/2020

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق